السبت 19 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فى وداع صاحب قلم التعبير عن آلام وأحلام البسطاء: رحل الحريف.. «بشير الديك»

منذ سنوات طويلة يقف الكاتب الكبير «بشير الديك» مع الموت فى حلبة مصارعة كبيرة، لا بد لطرف فيها أن يجهز على الآخر لينتصر، لدرجة أنه عندما سُئل عن الموت فى أحد اللقاءات التليفزيونية التى أجريت معه قبل سنوات، أجاب بأن العلاقة بينهما خاصة جدا، وقد وصفها أيضا بالقاسية والغريبة، ففى عز مجده وشهرته، قرر الموت أن يخطف منه ابنه الوحيد ليلة عيد ميلاده الرابع عشر، كان الشاب الصغير يعد للحفل الذى دعا إليه أصدقاءه، قبل أن تدهسه سيارة لتودى بحياته، وتحطم قلب والده، جاء الأصدقاء ليلة عيد الميلاد حاملين الهدايا، ففوجئوا أنهم مطالبون بحمل نعش صديقهم إلى مثواه الأخير.



كانت هذه هى الجولة الأولى التى انتصر فيها الموت على «بشير الديك» الذى سكن الحزن قلبه وملامحه حتى رحل، لكنه لم يمتلك سوى أن يقاوم من أجل أن يعاود الحياة من جديد، وقد ساعده فى ذلك رفيق عمره ونجاحاته المخرج الكبير «عاطف الطيب» الذى خطفه الموت أيضا دون أن يرفق بقلب صديق عمره، ورغم مرارة الهزيمة، وقسوة الفراق، وألم الوحدة، لم يكن أمام «بشير الديك» إلا أن يشهر سلاح المقاومة من جديد، حتى وإن كان السلاح وحامله لم يعودا مثلما كانا من قبل.

وفى وعكته الصحية الأخيرة التى بدأت قبل شهرين، وحتى صباح يوم الثلاثاء الحزين، قضى صاحب (سواق الأتوبيس) ليالى طويلة يقاوم قبل أن ينطلق فى رحلته الأخيرة بلا رجعة، لم تخل الجولة الأخيرة التى انتصر الموت فيها بالضربة القاضية من مفارقات درامية غاية فى الغرابة والعجب أيضا، ففى الليلة التى انتقل فيها إلى المستشفى، ليرقد داخل غرفة العناية المركزة، كان شباك التذاكر بمهرجان القاهرة السينمائى يرفع لافتة كامل العدد، بعدما نفدت تذاكر النسخة المرممة من فيلم (سواق الأتوبيس) التى عرضها المهرجان، بعد 40 سنة من العرض الأول للفيلم، كان مشهد إقبال الجمهور على الفيلم مؤثرا فى توقيته ومعناه، بل إنه كان بمثابة رسالة لمن يهمه الأمر، بأن هؤلاء الصادقين لا يزالون مؤثرين بفنهم، وأن فنهم باق وإن رحلت أجسادهم، وأن الاستمرار فى تهميشهم، ووضع العراقيل أمام إبداعهم، وتوصيل رسالة لهم بأن الزمن لم يعد زمانهم جريمة لن تسقط بالتقادم.

 مرآة صادقة

لم يكن «بشير الديك» مجرد كاتب سيناريو يتقن أدوات الصنعة، أو مثقف يمتلك رؤى فلسفية واجتماعية يستطيع ترجمتها إلى أفكار على الورق، لكنه كان واحدًا من أقرب كتاب الدراما إلى الجمهور، فقد امتلك قدرة فائقة على التعبير عن آلام البسطاء، وأحلامهم الضائعة، بواقعية تلامس القلوب، وببساطة فى السرد لا تتعارض أبدا مع عمق المعنى. 

قدرة «بشير الديك» على تجسيد واقع المجتمع، والتعبير عن نبض الشارع المصرى، وتسليط الضوء على قضايا البسطاء والكادحين كان سببها نشأته فى بيئة شعبية، حيث ولد فى قرية الخياطة بمدينة دمياط، وانحيازه للإنسان البسيط، جعله أحد أهم أعمدة تيار الواقعية فى السينما، كما جعل من أفلامه مرآة صادقة لواقع المجتمع المصرى، مثل (ضد الحكومة، سواق الأتوبيس، طائر على الطريق، النمر الأسود، الحريف) وغيرها من الأعمال التى تعكس واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا لا يمكن إغفاله. 

 ثنائية ناجحة

لا تخفى على أحد الثنائية الفنية التى شكلها «بشير الديك» مع المخرج الكبير «عاطف الطيب» فقد صنعا سويا 7 من أهم الأعمال فى تاريخ السينما، منها (سواق الأتوبيس، وضد الحكومة وضربة معلم، وليلة ساخنة وناجى العلى) وغيرها، لكن هذا التناغم الفنى الكبير، ما هو إلا تعبير عن تناغم إنسانى نادر، حيث شكلا ثنائيا فى الواقع كما على شاشة السينما، وقد كان «بشير الديك» بمثابة مستشار فنى لـ «عاطف الطيب» يعرض عليه كل السيناريوهات التى ينفذها مع مؤلفين آخرين، ليتدخل «الديك» بالرأى والنصيحة كما حدث فى فيلم (دماء على الأسفلت) لـ«أسامة أنور عكاشة» حيث نصحه بحذف 50 مشهدًا للحفاظ على إيقاع الفيلم.

وقد قادتهما روح المغامرة، وتشاركا الحلم بصناعة سينما مختلفة تعبر عن الواقع، ولا تخضع لأى قيود إنتاجية وقاما بتكوين شركة إنتاج (أفلام الصحبة) التى ضمت أيضا «محمد خان، وخيرى بشارة، وسعيد شيمى، والمونتيرة نادية شكرى» والتى لم تنتج سوى فيلم وحيد وهو (الحريف) لـ «عادل إمام» وقد ظل الحلم ثالثهما حتى رحل «عاطف الطيب» وضاعت مع رحيله كثير من الأحلام، مثل فيلم مع «فاتن حمامة» ومسرحية غنائية استعراضية مع «نادية الجندى» والأهم أنه قد ضاع الونس، فكما روت زوجة «عاطف الطيب» للناقد الفنى الكبير «طارق الشناوى» أن أول مكالمة له فى الصباح كانت مع «بشير الديك» سواء كانا يعملان معا أم لا، ويوميا تستمع إلى صوت عاطف وهو يبدأ يومه قائلا: (صباح الخير يا بشبش) وأظن أن اليوم فقط سينطلق صوت «الطيب» فى الجنة قائلا (صباح الخير يا بشبش).