نبيل عمر
الأسباب والتطور والنتائج.. حالة حب حرجة بين الحزب الجمهورى وإسرائيل!
يصعب على أى محلل سياسى أن يفهم الأسباب التى دفعت جوزيب بوريل ممثل الاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية والسياسة والأمنية إلى تقديم مقترحات تبدو «عقابًا» لإسرائيل، على ما ترتكبه فى غزة ولبنان من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، عدم الفهم لا يرجع إلى غياب معقولية الأسباب، العكس هو الصحيح، فهى دوافع إنسانية وقانونية أوجعت ضمير السياسى الإسبانى المخضرم وشغلت عقله، وإنما يرجع عدم الفهم إلى استحالة مرورها داخل الاتحاد الأوروبى، فالاتحاد الأوروبى لا يمكنه أن يصدر قرارًا يمس إسرائيل ولو بعبارات إدانة، حتى لو تعذب ضميره من مشاهد قتل الأطفال والنساء برصاص القناصة وحرقهم بقنابل الطائرات، وتدمير كل سبل الحياة للناجين منهم، وتجويعهم بسبب تمسكهم بأرضهم المحروقة مهما حدث فيها، فما بالك لو كانت مقترحات بوريل تتضمن حظر الواردات من المستوطنات الإسرائيلية «غير الشرعية»، وتعليق الحوار السياسى مع حكومة متطرفة تعيش على الدم والتخريب، لعل هذه الحكومة تعيد التفكير فى تصرفاتها الإجرامية.
مؤكد أن بوريل يدرك أن أوروبا مجرد تابع مطيع يمشى خلف الولايات المتحدة، وأن اتحادها لن يجرؤ على نقل مقترحاته إلى قرار يغضب أمريكا، فكيف فعلها؟، ولهذا وقفت له الدول الصديقة لإسرائيل بالمرصاد، وتزعم وزراء خارجية هولندا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا جوقة الرفض، هل يعقل أن يوافقوا على مقترحات لو نفذت تسبب تصدعًا فى العلاقات الإسرائيلية والأوروبية وتقوض سنوات المشاركة والتعاون والتخطيط، وتضر بالاقتصاد الإسرائيلى فى الأزمة الحالية، والأخطرأنها تعيد العالم إلى أفكار القانون الدولى وحقوق الإنسان والسلام وحل الدوليتين، وهى أفكار تعاديها أمريكا فعليا وتنادى بها كلامًا، وقد يضعها أى قرار أوروبى من هذا النوع فى موقف محرج، ويؤثر على حالة الحب بينها وبين إسرائيل!
اعتذر عن استخدام وصف «حالة الحب» فى علاقات دولية لا تعترف إلا بالمصالح والوظائف، لكن بالحقائق والأرقام أستطيع أن أثبت أن «المصالح» الاقتصادية والسياسية التى تجنيها الولايات المتحدة من علاقاتها العربية أعلى كثيرا مما تجنيه مع إسرائيل، وما كسبته من العرب أضعاف أضعاف ما كسبته من «وظيفة» إسرائيل فى المنطقة، والتى يبررون بها حالة الحب معها، لكن حالة العرب العامة، وأزمة العقل العربى ونمط العلاقات السائدة هى التى حجبت مصادر القوة عند الأطراف أصحاب المصلحة الأعلى ولم تجمعهم طرفا واحدا،، وأوهنت شروط علاقاتهم «بالشريك الأمريكي» لمصلحة إسرائيل.
وبالمناسبة وصف العلاقة بـ«الحب» ليس من اختراعى على الإطلاق، ولم أفكر فيه أصلا، صاحبه هو الكاتب «زاك بوشامب»، وهو من كبار المراسلين فى موقع «ڤوكس»، وزاك يهتم بالتحديات الديمقراطية فى الولايات المتحدة ويركز على الأفكار الشعبوية، وكتب مقالا قبل تسع سنوات بعنوان غريب جدا «كيف وقع الجمهوريون فى حب إسرائيل»، وكانت هذه أول مرة يَرِد هذا الوصف فى علاقة سياسية بين الحزب الجمهورى وإسرائيل، وأتصوره وصفًا قابلا للاختبار، لأن الحب على الطريقة الأمريكية مرتبط بجماعات ضغط وتمويل مالى ومنظمات تقف وراء مرشحى الحزب الجمهوري- المؤيدين لإسرائيل بلا شروط- فى أى انتخابات أمريكية!
لكن الوصف عموما أعجبنى، فهو مثير ومغرى على التأمل..
وفى الحقيقة لا يختلف الأمر كثيرا بين الجمهوريين والديمقراطيين فى علاقاتهم بإسرائيل، ربما فى «درجة الحب» أو المساحة التى يمكن ينتقد فيها الديمقراطيون تصرفات إسرائيلية، ولو عدنا إلى حملة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، سنجد أنه لم يكف فى أحاديثه عن ذكر إسرائيل وأمنها والدفاع عنها، كما لو كان مرشحا للرئاسة فى الدولة الصهيوينة وليس فى الولايات المتحدة.
وعمومًا فى السنة الأخيرة كان اسم إسرائيل حاضرًا فى الحملتين الرئاسيتين لترامب وهاريس بدرجة لم تحدث من قبل، وبعد نجاح ترامب اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتنياهو، وقال له إنه يؤيده فى كل الإجراءات والخطوات التى يتخذها، وتضمن أمن إسرائيل والقضاء على من يهدده!
ويفسر علماء السياسة الأمريكيين حالة الحب التى عليها الجمهوريين لإسرائيل إلى سببين..
الأول: صعود اليمين الدينى الذى يرى فى الدعم المتشدد غير المشروط لإسرائيل التزاما دينيا؟، لأن معتقدات البروتستانت الإنجيليين، بأن الإسرائيليين لهم حق مطلق فى الأرض المقدسة حسب ما ورد فى الكتاب المقدس، وهذا يجعلهم ينحازون تلقائيًا إلى المواقف الإسرائيلية، وقد اهتمت الدكتورة إليزابيث أولدميكسون الأستاذة المتخصصة فى دور إسرائيل فى السياسة الأمريكية بجامعة شمال تكساس، بهذا الموضوع ودرست كيف حدث هذا التطور فى الحزب الجمهورى، وقالت إن الإنجيليين لم يكن لهم أنشطة سياسية إلى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وكانت أصواتهم مقسمة بين الديمقراطيين والجمهوريين فى أى انتخابات، حتى إن نصف الأصوات الإنجيلية فى انتخابات الرئاسة عام 1976 ذهبت إلى جيمى كارتر الديمقراطى، ثم بدأ التحول حين ارتبط جمهوريون محافظون بمصالح تجارية مع الإنجيليين، ورأوا فيهم حلفاء مفيدين، وفعلا كسبوا تأييد المجتمع الإنجيلى، وراح اليمين الدينى ينمو بقوة بارزة داخل الحزب، فاكتسب قادة إنجيليين نفوذا، ومنهم جيرى فالويل وبات روبرتسون اللذان لعبا دورا رئيسيا فى الانتخابات التمهيدية للترشح على منصب الرئيس فى عام 1988، وفى عام 1993 نجح %7 من الجمهوريين الإنجيليين فى دخول مجلس النواب لأول مرة، الرقم يقترب الأن من 40 %.
ولا ينظر الإنجيليون إلى الصراع فى فلسطين باعتباره صراعًا سياسيًا، فهم لا يفهمونه على هذا النحو، ويعتبرونه صراعا دينيا ويستخدمون فيه المصطلحات الدينية، مثل الأرض يهودية بالحق الإلهى، الوعد صالح إلى الأبد، وبات موقفهم أكثر تشددًا من اليهود الأمريكيين أنفسهم.
ثانيا: بزوغ المحافظين الجدد الذين كانت لهم الغلبة الفكرية فى الساحة الأمريكية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى التسعينيات، وقد أقنعوا أغلب قادة الحزب الجمهورى على جميع المستويات التنظيمية للحزب بأن يكون «تأييد إسرائيل» من القيم الأساسية المحافظة للجمهوريين.
أى لم يعد الإنجيليون فقط هم القوة الوحيدة المؤيدة لإسرائيل فى الحزب الجمهورى، قد يكون غير الإنجيليين أقل حماسا واندفاعا وبعضهم عنده تحفظات، لكن تأثير الإنجيليين على بقية أعضاء الحزب بات واضحا للغاية، ويؤرخ فوز الرئيس رونالد ريجان بالرئاسة عام 1980 بأنه نقطة تحول مهمة فى طبيعة الحزب الجمهورى، وهى بدء إحكام قبضة المحافظين الجدد على أفكار الحزب ومسيرته فى السياسات الداخلية والخارجية، ورأى المحافظون الجدد فى الدعم الأمريكى لإسرائيل دورا حاسما فى صراع أمريكا العالمى ضد الشيوعية، وأن إسرائيل هى الشريك الأكثر جدارة بالثقة فى تقليص النفوذ الروسى فى الشرق الأوسط، ساعد على هذا التحول أن عددًا كبيرًا من المحافظين الجدد البارزين كانوا يهودًا.
ثم شكلت أفكار المحافظين الجدد السياسة الخارجية الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر على البنتاجون فى واشنطن، وبرجى التجارة العالمى فى نيويورك، وفى نفس توقيت هذه الهجمات كانت إسرائيل تواجه الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فأيدوا إسرائيل على رد فعلها شديد الوحشية للقضاء على ما سموها «الإرهاب»، وارتفع تأييد إسرائيل بين الجمهوريين، حسب دراسة لمركز بيجن- السادات للدراسات الاستراتيجية، من 60 % فى عام 2000 إلى 85 % فى عام 2010.
باختصار لم يعد تأييد إسرائيل دون شروط مجرد مشروع إنجيلى أو مشروع للمحافظين الجدد، بل مشروع عام داخل الحزب الجمهورى، يتبناه أى عضو جمهورى يريد أن يكون صاحب وضع جيد مع قاعدة الحزب.
يعنى حالة حرجة من الحب..
ومن هنا يمكن أن نتوقع ما الذى يمكن أن يحدث بعد قدوم الجمهورى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأتصور أن فكرة إنهاء الحرب التى أعلن عنها دون أن يُحقق لإسرائيل ما تريد هو نوع من التفكير الغيبى أو الغبى، خاصة أن ترامب بعد تجربته فى ولايته الأولى يتصور أنه يفهم شخصية العرب ويعرف كيف يتعامل معهم، ألم يقنعهم بأن الإبراهيمية «دين جديد» من السماء؟!، ويمكن أن يؤسسوا عليه علاقات طبيعية جيدة مع إسرائيل إلى الأبد، وإن إسرائيل دولة وديعة (تستميت فى التسليح والقوة المفرطة) من أجل دعم السلام مع جيرانها، وأن الدولة الفلسطينية مسألة وقت مهما طال زمن غيابها، فأمرها مرهون بمشيئة الله، فلا تعارضوا مشيئته، ولا تستعجلوها.
وكادت الإبراهيمية تسود فى القمة دون الناس، وتذهب ريح القضية الفلسطينية إلى غير رجعة، لكن السابع من أكتوبر أوقفها خارج الأبواب، فهل يعيد ترامب الكَرَّة ويُدخلها من الشبابيك الخلفية؟
الشهور القادمة قد تكون أصعب إلا «لو»، ولو من عمل الشيطان، وقد يكون مفيدًا هذه المرة!.