أسامة سلامة
الصهيونية المسيحية (1)
تشير الإحصاءات إلى أنه يوجد على الأقل واحد من بين كل أربعة مسيحيين أمريكيين شملهم الاستطلاع الذى أجرته مجلة «Christianity Today» مؤخرًا يعتقدون أن مسئوليتهم الكتابية هى دعم دولة إسرائيل، وقدر مركز «بيو» للأبحاث أن 63 % بين بعض الطوائف الأمريكية يدعمون فكرة بناء الهيكل والسبيل فى ذلك تقوية الدولة اليهودية فى فلسطين. ووفقا لمسح أجراه» Pew Research» عام 2003 وافق أكثر من 60 % من المسيحيين الإنجيليين على أن وجود إسرائيل حقق نبوة كتابية، وقال حوالى55 ٪ من المشاركين فى الاستطلاع إن تفسير النبوءات فى الكتاب المقدس بالشكل الحرفى كان له التأثير الأكبر لدعم إسرائيل.
الفقرة السابقة جاءت فى كتاب «الصهيونية المسيحية» للدكتور القس رفيق إبراهيم، الذى صدر مؤخرا عن دار نشر «دار الثقافة» التابعة للكنيسة الإنجيلية، وتأتى أهمية الكتاب فى أنه يكشف لماذا يقف عدد غير قليل من الأمريكيين مع إسرائيل فى اعتدائها الغاشم على الفلسطينيين؟ ولماذا يوافق سياسيون أمريكان على حرب الإبادة التى تجرى الآن ضد الفلسطينيين فى غزة؟ والأهمية الأخرى للكتاب أنه يفند التفسيرات الخاطئة والمتعنتة للنبوءات التى جاءت فى الكتاب المقدس بشأن إسرائيل ووجودها، كما أن مؤلفه قس إنجيلى مصرى يعيش فى أمريكا وهو راعى الكنيسة الإنجيلية العربية بتميكيلا بكاليفورنيا ما يجعله قريبا وراصدا لجماعات الصهيونية المسيحية.
الأرقام الواردة بالكتاب تقودنا إلى السؤال: ما هى الصهيونية المسيحية؟ وكيف نشأت؟ يقول الدكتور القس رفيق إبراهيم: «يمكن إرجاع أصول هذه الحركة إلى أوائل القرن التاسع عشر عندما بدأت مجموعة من القادة المسيحيين البريطانيين فى الضغط من أجل استعادة وطن جديد لليهود فى فلسطين كشرط ضرورى لعودة المسيح حسب تفسيراتهم، واكتسبت الحركة زخما منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما أصبحت فلسطين منطقة استراتيجية للمصالح الاستعمارية البريطانية والفرنسية والألمانية فى الشرق الأوسط ولذلك فإن الصهيونية المسيحية سبقت الصهيونية اليهودية بأكثر من 50 عاما، ويستطرد القس رفيق: «منذ الأربعينيات أصبحت الصهيونية المسيحية حركة عالمية لها شبكة واسعة من المنظمات، وأحدثت هذه الحركة تحولا لاهوتيا وسياسيا وثقافيا فى المواقف المسيحية تجاه إسرائيل مما شكل الدبلوماسية الأمريكية الإسرائيلية والعلاقات اليهودية المسيحية حول العالم.. ويُعرف الكتاب الصهيونية المسيحية بأنها «حركة لاهوتية وسياسية حديثة تحتضن المواقف الأيديولوجية الأكثر تطرفا للصهيونية، وهذه الحركة تنشر وجهة نظر عالمية يتم فيها تقليص الرسالة المسيحية إلى أيديولوجية ذات نزعة استعمارية وعسكرية، وتركز على الأحداث المروعة التى تؤدى إلى نهاية التاريخ بدلا من العيش بمحبة وعدالة المسيح»، ويضيف: «أتباع الصهيونية المسيحية مقتنعون أن تأسيس دولة إسرائيل فى عام 1948 والاستيلاء على القدس عام 1967 كان بمثابة تحقيق لوعود الله التى قطعها لإبراهيم بأنه سيؤسس إسرائيل كدولة فى فلسطين إلى الأبد، وتُفسر الصهيونية المسيحية نصوص التوراة والعهد الجديد على أنها نصوص نبوية تصف الأحداث المستقبلية لكيفية انتهاء العالم يوما ما بعودة المسيح من السماء ليحكم الأرض، وبالنسبة لهم فإن إسرائيل وشعبها أمر مركزى فى رؤيتهم, فهم يفسرون مقاطع أسفار حزقيال ودانيال واشعياء على أنها تنذر بالعصر المسيحى القادم»، ويشرح القس رفيق هذا الأمر قائلاً: «يقرأ العديد من المسيحيين سفر الرؤيا فى العهد الجديد كنص نبوى يوضح كيف سيكون العالم فى نهاية الزمان ويضعون دولة إسرائيل فى تفسيراتهم، ويستخدم الفكر الصهيونى المسيحى التفسيرات الدينية لفرض سيطرته على أرض فلسطين وتمكين النظام الصهيونى من إقامة دولة يهودية، ولذا كان لا بد من وجود دعم عسكرى ومالى كبيرين وهذا ما تم من قبل المؤسسات والحكومات فى أمريكا وأوروبا والتى تدعم الفكر الأصولى الدينى لقيام إسرائيل وحتى الآن يتم الترويج لبناء الهيكل ليعجل هذا بعودة المسيح للأرض، وتمتع المنظمات الصهيونية المسيحية بنفوذ كبير فى أروقة السياسة الأمريكية فى البيت الأبيض كما أن الصهاينة الأوروبيين ليسوا أقل تحركا فى تنشيط الصهيونية العالمية ويضغطون لصالح الكيان الصهيونى ودولة إسرائيل من خلال الحكومات ويهاجمون منتقديهم ويفُشلون عملية السلام لأغراض أيديولوجية فى المقام الأول»، ويقارن مؤلف الكتاب بين تجربة تنظيم الصهيونية وتنظيم داعش، فكلاهما تم برمجته عن طريق تفسير النصوص الدينية والفارق أن تنظيم داعش وقف المجتمع الدولى أمامه بالتدخل العسكرى، لكن دعم المجتمع الدولى لإسرائيل جعلها تقف فى مواجهة كل الدول المحيطة بها، ولكن الحقيقة لا يوجد فارق بين الطرفين المتشددين الإسلاميين والصهاينة فهما يستخدمان التفسيرات الدينية لمحو كل طرف من على وجه الأرض، ويلخص الكاتب أفكار وأهداف الصهيونية المسيحية فى عدة نقاط، أولا: الاعتقاد بأن اليهود شعب الله المختار يقود الصهاينة المسيحيين إلى مباركة إسرائيل وتأييد سياساتها العنصرية، ثانيا: أرض إسرائيل كما هو محدد فى الكتاب المقدس من النيل إلى الفرات وهو ملك حصرى لليهود ولذلك يجب ضم الأرض وإخراج الفلسطينيين من منازلهم وتوسيع المستوطنات وتوطيدها، ثالثا: أورشليم «القدس» العاصمة الأبدية لليهود ولا يمكن تقاسمها مع الفلسطينيين ولذلك ضغط الصهاينة المسيحيون على الإدارة الأمريكية لنقل سفارتها إلى القدس لضمان الاعتراف بها عاصمة للدولة اليهودية، رابعا: الهيكل سيبنى ومن أجل تحقيق هذا الغرض يقدم الصهاينة المسيحيون الدعم لمنظمات يهودية منوط بها بناء الهيكل وقد التزموا بهدم قبة الصخرة وإعادة بناء الهيكل فى حرم المسجد الأقصى بجانب حائط المبكى، خامسا: ينظر الصهاينة المسيحيون إلى المستقبل بتشاؤم وهم مقتنعون بأنه ستكون هناك حرب مروعة فى العالم فى وادى هرمجدون ويستخدمون الأحداث السياسية كتأييد لتفسيراتهم للنبوءات الكتابية وهم يرفضون السلام مع الفلسطينيين وينظرون إليه على أنه رفض لوعود الله لإسرائيل، سادسا: ينظر الصهاينة المسيحيون إلى الفلسطينيين على أنهم أجانب مقيمون فى إسرائيل وأنه لا يوجد شعب فلسطينى ويدعون أنهم هاجروا إلى إسرائيل من الدول العربية المجاورة.
ولكن هل كل الكنائس الإنجيلية تؤمن بهذا التوجه؟
نجيب على السؤال الأسبوع القادم.
ملحوظة: خانتنى الذاكرة التى اعتمدت عليها فى مقالى الأسبوع الماضى «من يشترى ساعة عبدالناصر؟» وكتبت أن القبض على تنظيم ثورة مصر كان فى بداية التسعينيات من القرن الماضى والصحيح أنه كان أواخر عام 1987 وأوائل عام 1988، وهو ما نبهنى إليه العديد من الأصدقاء، ولكن الوقائع كلها صحيحة، وحق القارئ أن أعتذر له عن هذا الخطأ غير المقصود.