الذكرى الثانية عشرة لتجليس البابا تواضروس الثانى مسيــرة مــن الخدمـة والتجديـد
وفاء وصفى
بداية شهر نوفمبر من كل عام تشهد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية احتفالات اختيار وتجليس البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ118، وتكون البداية فى اليوم الرابع من الشهر؛ حيث الاحتفال بعيد ميلاد البابا تواضروس الذى يوافق تذكار اختياره بالقرعة الهيكلية والتى أجريت على يد القائمقام فى ذلك الوقت الأنبا باخوميوس مطران البحيرة والخمس مدن الغربية.
وفى 10 نوفمبر تتذكر الكنيسة ارتداء البابا تواضروس الإسكيم المقدس الذى تم فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، بحضور نحو سبعين من الآباء المطارنة والأساقفة، والإسكيم هى كلمة يونانية الأصل تعنى «شكل»، وتأتى فى المصطلح الدينى بمعنى «الشكل المقدس».
وهو شبه حِزام من الجلد (منطقة) يلبسه الراهب حينما يصير متوحدًا أو عندما يتقدَّم روحيًا ويدخل فى حياة أشبه بالوحدة ولو فى داخل الدير.
ويضم مجموعة من الصلبان، وبعد إقامة صلوات خاصة بارتدائه، يقدم الراهب الذى سيرتديه صلوات وأصوامًا وميطانيات أكثر من الراهب العادى؛ حيث يخضع لقوانين رهبانية معينة ونسكيات زائدة...
والإسكيم الرهبانى عبارة عن قطعة من الجلد المضفور ضفيرتين، يحوى 12 صليبًا إشارةً إلى الفضائل الاثنتى عشرة التى يجب أن يتحلَّى بها الراهب، وهى الإيمان، الرجاء، المحبة، الطهارة، البتولية، السلام، الحكمة، البر، الوداعة، الصبر، طول الأناة والنسك.
ولبس الإسكيم له طقسه الخاص (قانون روحى يومى يختلف عن القانون الروحى الخاص ببقية الرهبان، فالراهب الذى يلبس الإسكيم يلتزم بقوانين خاصة كعمل عدد معين من المطانيات والأصوام، كما يتضمن قراءة سفر المزامير يوميًا والإكثار من قراءة الكتاب المقدس عمومًا وسير الآباء القديسين والإقلال من الكلام والصوم حتى غروب الشمس يوميًا وغيرها من الالتزامات الروحية)، الأمر الذى يصعب الالتزام به لغير المتوحدين، لهذا ألغى البابا شنودة الثالث طقس لبس الإسكيم عند سيامة الأساقفة الجدد باستثناء رؤساء الأديرة، حتى لا يتثقَّل ضمير الأسقف إذ لا يستطيع ممارسة قوانين الإسكيم أثناء جهاده فى الرعاية وسط شعبه.
وتأتى الذكرى الثانية عشرة لتجليس البابا تواضروس الثانى على كرسى مارمرقس الرسول، لتكون مناسبة للاحتفال بجهوده وإنجازاته فى قيادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث تولى البابا تواضروس الثانى، هذا المنصب فى الثامن عشر من نوفمبر 2012، خلفاً للبابا الراحل شنودة الثالث.
وقد شهدت فترة خدمته العديد من التحديات والإنجازات التى أثرت إيجاباً على الكنيسة والأقباط والمجتمع المصرى بشكل عام.
خلال السنوات الاثنتى عشرة الماضية، حقق البابا تواضروس الثانى، العديد من الإنجازات البارزة التى تركت بصمة مهمة فى الكنيسة والمجتمع، حيث اهتم بتطوير التعليم اللاهوتى فقد عمل على تحسين جودة التعليم الدينى داخل الكنيسة من خلال تطوير المناهج اللاهوتية، وتحديث المناهج فى الكليات والمعاهد اللاهوتية، ما أسهم فى إعداد جيل جديد من الكهنة والمكرسين ذوى معرفة عميقة وخبرات واسعة.
كذلك عمل إصلاحات هيكلية وإدارية؛ حيث أجرى عدة إصلاحات إدارية فى الكنيسة، من بينها تحسين النظام الإدارى وتحديث الهياكل التنظيمية، ما ساعد على تنظيم العمل الداخلى للكنيسة وتحسين خدماتها للمجتمع.
كما شهدت الكنيسة الأرثوذكسية فى عهده الانفتاح والتواصل مع الكنائس الأخرى؛ حيث سعى إلى بناء جسور تواصل قوية مع الكنائس المسيحية الأخرى من خلال المشاركة فى لقاءات ومؤتمرات مسكونية، كما أنه بذل جهوداً لتحقيق الوحدة بين الكنائس، كما حرص البابا تواضروس فى تقليد جديد أرساه فى عهده أنه يذهب بنفسه على رأس وفد من الكنيسة القبطية لتقديم التهنئة فى الأعياد فى تجسيد صورة حية للمحبة ولمبدأ «المحبة لا تسقط أبدًا» وهى الآية الكتابية التى تتصدر مكتبه البابوى فى القاهرة أيضًا.
كما يسجل التاريخ الدور الوطنى للبابا تواضروس وتأييده للوحدة الوطنية فمنذ بداية خدمته، أكد البابا تواضروس على أهمية الوحدة الوطنية، وأبدى دعمه للدولة المصرية، مساهماً فى تعزيز التعاون بين الكنيسة والحكومة وكان له دور فاعل فى مواجهة الأزمات الوطنية، مثل فترة الاضطرابات بعد عام 2011 وسجلت له مقولته الشهيرة «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن»، وذلك عقب حرق الكنائس على يد جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عقب فض ميدانىّ رابعة العدوية والنهضة بعد ثورة يونيو 2013.
أيضا عمل البابا تواضروس على تعميق وتعزيز الحوار بين الأديان؛ حيث عمل على تعزيز الحوار مع الأزهر والمؤسسات الإسلامية، مؤكداً على أهمية التعايش والسلام الاجتماعى بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، ما ساهم فى تعزيز روح التآلف والوئام بينهما.
وقد أبدى البابا تواضروس التزاماً بتقوية العلاقات مع المؤسسات الإسلامية فى مصر، مثل الأزهر الشريف. وقد شكلت لقاءاته المستمرة مع الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب خطوة مهمة نحو تعزيز السلم المجتمعى ونبذ الفكر المتطرف، ما يعكس دور الكنيسة فى دعم التعايش السلمى بين الأديان فى مصر.
كما سعى أيضا إلى التوسع فى بناء الكنائس؛ حيث شهدت فترة باباويته بناء عدد كبير من الكنائس داخل مصر وخارجها، وذلك تلبيةً لاحتياجات الجالية القبطية فى الخارج وتلبية متطلبات أبناء الكنيسة فى المهجر.
كما عمل على رعاية الجاليات القبطية فى الخارج؛ حيث قام البابا تواضروس بزيارات عديدة للجاليات القبطية فى دول متعددة، ما عزز الروابط بين الكنيسة الأم والمغتربين، وساعد فى تلبية احتياجاتهم الروحية وتعزيز انتمائهم.
كما اهتم بالشباب حيث وضع البابا تواضروس أولوية لبرامج الشباب، مقدماً دعماً كبيراً لأنشطة الشباب وتوفير بيئات مناسبة للتعليم والتوجيه الروحى، ما ساعد فى تقوية ارتباط الشباب بالكنيسة وقيمها وتجسد ذلك الاهتمام من خلال مؤتمرات الشباب «اللوجوس» والتى تقام كل عامين سواء كان للشباب المولود بالمهجر ليربطهم بوطنهم الأم أو للشباب المصرى ليريه كيف يتمتع بجذوره وذلك من خلال برنامج موضوع بعناية يجعلهم يرون من خلاله بلادهم التاريخية والأثرية والحضارية.
لقد نجح البابا تواضروس فى إحداث تأثير إيجابى على الكنيسة والمجتمع من خلال رؤية متوازنة بين التقاليد العريقة والاحتياجات المعاصرة للكنيسة والمجتمع فتاريخ حبريته ملىء بالتحديات فمع تسلمه مهامه الروحية، كان التحدى الأبرز أمامه هو توحيد الكنيسة وتعزيز روح المحبة والوحدة بين الأقباط، خصوصاً بعد فترة عصيبة شهدتها مصر من التغيرات السياسية والاجتماعية عقب ثورة 25 يناير.
ورغم هذه الظروف الصعبة، سعى إلى تثبيت قواعد المحبة والسلام داخل الكنيسة وخارجها، ما جعل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تلعب دوراً فعالاً فى المجتمع.
أحد أبرز ما يميز خدمة البابا تواضروس الثانى هو توجهه نحو التحديث والتطوير. فمنذ توليه منصب البابا، أولى اهتماماً كبيراً لتطوير المنظومة التعليمية فى الكنسية، حيث وضع برامج متطورة لتدريس اللاهوت وتعليم الكتاب المقدس، ما ساهم فى خلق جيل جديد من الشباب المثقف روحياً وعلمياً.
كما شملت عملية التطوير إدخال نظام الإدارة الإلكترونية للعديد من المؤسسات الكنسية، ما ساهم فى تحسين مستوى الخدمات المقدمة، وتقليل الفجوة بين الكنيسة وأبنائها فى جميع أنحاء الجمهورية، بل وامتد ذلك إلى أقباط المهجر.
كما أظهر البابا تواضروس الثانى التزاماً عميقاً بمبدأ الحوار والانفتاح على الآخرين، سواء داخل مصر أو خارجها.
إذ يعتبر من أوائل البطاركة الذين أظهروا اهتماماً واضحاً بتعزيز العلاقات مع الكنائس المسيحية الأخرى، وهو ما تجسد فى زيارته للكنيسة الكاثوليكية فى الفاتيكان عام 2013، التى كانت الأولى من نوعها منذ عقود، ما فتح الباب أمام حوار أوسع وأعمق بين الكنائس، يعزز روح الوحدة المسيحية.
على مدار خدمته، لم تتوانَ الكنيسة تحت قيادة البابا تواضروس عن دعم القضايا الوطنية، حيث اعتبر البابا الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى.
حيث أبدى البابا تواضروس اهتماماً كبيراً بدور الأقباط فى تنمية المجتمع، فحثهم على المشاركة الفعالة فى جميع المجالات، انطلاقاً من إيمانه بأن الكنيسة لا تقتصر على الصلاة والعبادة فقط، بل لها دور مجتمعى فى دعم الدولة وتحقيق رفاهية الشعب.
فى الذكرى الثانية عشرة لتجليسه، يظل البابا تواضروس الثانى شخصية محورية فى حياة الكنيسة القبطية والمجتمع المصرى، إذ أسهمت رؤيته العميقة والتزامه بخدمة شعبه فى تعزيز دور الكنيسة على الصعيدين الروحى والمجتمعى. تمكن البابا تواضروس من تحويل الكنيسة إلى مؤسسة عصرية قادرة على مواجهة التحديات، ما يعكس إصراره على مواصلة رسالته فى نشر المحبة والسلام وتعزيز روح الوحدة بين مختلف طوائف المجتمع المصرى وهو دور ليس بجديد على بطاركة الكرسى المرقسى الذين دائما يرفعون راية الوطن ويحافظون على وحدته مهما كانت الصعاب والظروف ولذلك فهو يكمل مسيرة أسلافه ويبنى عليها.. كل عام والكنيسة المصرية دائما بخير.