أسامة سلامة
تموت والاسم يحيا
«آخر حروف الأبجدية
أول حروف اسم يحيى
للموت كمان عبقرية
تموت ولو الاسم يحيى»..
من قصيدة «عدودة تحت نعش يحيى» التى كتبها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى فى رثاء صديقه الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبدالله، وهى تصلح فى رثاء كل يحيى مات من أجل وطنه ودفاعا عن قضيته العادلة، ولكنى غيرت قليلا فى الشطر الأخير من القصيدة عندما وضعته عنوانا للمقال وجعلته «تموت والاسم يحيا» بدلا من «تموت ولو الاسم يحيى»، نعم استشهد يحيى السنوار ولكن اسمه سيظل يحيا فى قلوب وعقول ونفوس كل فلسطينى وعربى غيور على القضية الفلسطينية، وستظل ذكراه شوكة فى حلق كل صهيونى سواء كان إسرائيليا أو مواليا أو مدلسا أو عميلا، الفيديو الذى انتشر للحظة استشهاد السنوار والذى ظهر فيه وهو يقاتل ويحارب حتى النفس الأخير سيجعله أيقونة فهو لم يمت مستسلما أو منهارا أو خائفا وإنما مقاوما حتى الرمق الأخير، ويذكرنا بكل الأبطال الذين استشهدوا وهم يقاومون فظلت ذكراهم حية فى النفوس، وحكاياتهم تتوارثها الأجيال يرويها الآباء لأبنائهم والأجداد لأحفادهم، كان السنوار يعرف أنه سيستشهد يوما ما، وأنه وهب حياته لقضية بلده ووطنه وربما كان يردد كل يوم قصيدة الشاعر الفلسطينى الراحل سميح القاسم التى تغنى بها الفنان اللبنانى مارسيل خليفة وغناها معه الملايين من الشعوب العربية:
«منتصبَ القامةِ أمشى
مرفوع الهامة أمشى
فى كفى قصفة زيتونٍ
وعلى كتفى نعشى
وأنا امشى وأنا أمشى»..
مات السنوار ولم يعط إسرائيل ما تتمناه ليضيف بطولة أخرى إلى بطولاته، كنت أخشى أن تقبض عليه إسرائيل فتذله وتهينه وتتيه فخرا ببطولة زائفة عن إمكانيات استخباراتها وقدرتها فى الوصول إلى ما تريد، ولكنه بالطريقة التى استشهد بها أضاع عليها هذا الفخر، ولأن الله يحبه ويعرف أنه مخلص لقضيته فقد أعمى الإسرائليين عنه فلم يتعرفوا على جثمانه إلا بعد فترة من مصرعه، ولأنهم فوجئوا بأنه الشخص الذى أعياهم بحثا عنه، ومن سعادتهم الغامرة بالصدفة التى حدثت فقد أسرعوا بالإعلان عن شخصيته وربما لو تريثوا قليلا لوضعوا جثمانه فى مكان آخر وألفوا سيناريوهات حقيرة عنه وعن بطولاتهم فى اصطياده، كان يمكن أن يزعموا أنه وجدوه مختبئا فى حفرة خائفا مذعورا أو جاءوا بامرأة تدعى أنها من الأسرى وأنه كان يغتصبها، أو وضعوا بجانبه أشياء مخذية حتى يشوهوا صورته ولا يجعلوا منه بطلا طاهرا، كان يمكنهم أن يفعلوا ذلك وتساعدهم فى ذلك آلة إعلامية حقيرة وخسيسة، ولكن الله أفشل مخططهم بأيدى جنودهم الذين نشروا فيديو استشهاده فمنع قيادتهم من تأليف أى مسرحية دنيئة عنه، ولكنه الآن أصبح رمزا فلسطينيا وعربيا مهما حاولوا وصفه بالإرهابى ووصمه بتهمة هو برىء منها، بينما يرتكبونها هم كل يوم بقتلهم الأبرياء والعزل والنساء والأطفال، السنوار أصبح مثل جيفارا الذى مازالت الأجيال تتغنى باسمه وترتدى تيشرتات تحمل صورته، ورغم استشهاده منذ 57عاما فمازال رمزا للنضال والنقاء الثورى، وبالفعل هناك تيشرتات تباع الآن فى دول عربية عديدة تحمل صور السنوار، كما أن كرسيه الذى استشهد وهو جالس عليه بعد إصابته صار رمزا حتى إن هناك مصانع موبيليا صنعت كرسيا مماثلا ووضعت عليه اسمه ويلقى رواجا بين المشترين، وأيضا عصاه التى حاول إصابة الطائرة الإسرائيلية بها صارت هى الأخرى رمزا للصمود، التشابه بين السنوار وجيفارا كبير خاصة فى لحظة استشهاد الاثنين وتذكرنا بقصيدة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم «جيفارا مات» التى غناها الشيخ إمام وما زالت الأجيال المختلفة ترددها فى مناسبات كثيرة، ووصف فيه لحظة استشهاده:
«عينى عليه ساعة القضا
من غير رفاقه تودعه
يطلع أنينه للفضا
يزعق ولا مين يسمعه
يمكن صرخ من الألم
من لسعة النار ف الحشا
يمكن ضحك
أو ابتسم
أو ارتعش
أو انتشى
يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع
لجل الجياع
يمكن وصية للى حاضنين القضية
بالصراع
صور كثير ملو الخيال
وألف مليون احتمال
لكن أكيد ولا جدال
جيفارا مات موتة رجال»..
نعم مات يحيى السنوار موتة رجال وسيأتى بعده مليون يحيى يحييون القضية الفلسطينية ويحملون السلاح ويقودون المقاومة حتى يتحقق الحلم والأمل الذى استشهد من أجله، استشهد السنوار وهو يردد مع محمود درويش قصيدته الشهيرة «سقط القناع» وكأنه يصف مشهد موته ويرسل وصيته من خلالها لكل فلسطينى وعربى:
«حاصر حصارك.. لا مفرُّ
سقطت ذراعك فالتقطها!
واضرِبْ عدوك.. لا مفر..
وسَقَطْتُ قربك، فالتقطنى!
واضرب عدوك بى، فأنت الآن حر
وحرٌّ.. وحرُّ
قتلاك.. أو جرحاك فيك ذخيرة!
فاضرب بها! إضرب عدوك.. لا مفرُّ !
أشلاؤنا أسماؤنا.. أسماؤنا أشلاؤنا
حاصر حصارك بالجنون!
وبالجنون! وبالجنون!
ذهب الذين تحبهم،
ذهبوا.. فإما تكون.. أو لا تكون.