طارق الشناوي
(موسيقار الأجيال) وأنا محمد عبدالوهاب.. صاحب كلمة السر فى مشوارى الصحفى!
ثلاث محطات فى حكايتى مع روزاليوسف، كان بطلها الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، الأولى إصدار قرار تعيينى فى روزاليوسف وأنا طالب فى كلية الإعلام نهاية السبعينيات، وهو ما يُعتبر مخالفة إدارية، الإجراءات الشكلية تشترط ضرورة الحصول أولاً على شهادة عليا، وثانيًا أداء الخدمة العسكرية، القرار تم بالفعل إصداره من دون أهم شرطين، ثانى محطة كان بطلها أيضًا عبدالوهاب، التهديد برفتى من المجلة، وإنهاء علاقتى بالصحافة نهائيًا عام 1984، وهو ما سوف أشرح تفاصيله بعد قليل، الثالثة عودتى بعد انقطاع ثلاث سنوات للكتابة على صفحات (روزا) عام 1991.
نبدأ بالتعيين، كانت «روزاليوسف» هى مقصدى، وأنا طالب بكلية إعلام القاهرة، التحقت بالكلية لدراسة الصحافة نظريًا، كانت عينى عمليًا على «روزاليوسف»، من حُسن حظى أن الدراسة بالكلية تبدأ بعد الثالثة ظهرًا.
لم يكن للكلية فى ذلك الزمن مَقر، كان ينبغى أن ننتظر مغادرة أصحاب المكان الأصليين طلبة كلية (السياسة والعلوم الاقتصادية) مقاعدهم، حتى نبدأ الدراسة.
فى الصباح كنت أذهب إلى مجلة «روزاليوسف»، وأنا فى جعبتى عدد من الأخبار الفنية، وقتها كنت أتدرب على عزف العود عند أستاذة فى معهد الموسيقى العربية دكتورة صيانات حمدى، اقترحت مستغلاً أن عندى معرفة مسبقة بالتاريخ الموسيقى وأيضًا قدرًا من الإلمام بالغناء والنغمات والإيقاعات أن أجرى لقاءات مع كبار الملحنين أمثال: رياض السنباطى ومحمود الشريف ومحمد الموجى وأحمد صدقى وكمال الطويل وبليغ حمدى وسيد مكاوى ومنير مراد وجمال سلامة وغيرهم، وبالطبع هذه السلسلة يجب أن تصل للذروة، ولا توجد ذروة سوى الموسيقار محمد عبدالوهاب، الأمر أبسط مما تعتقدون، مجرد أن أدرت قرص التليفون وجاءنى (ألو) بصوت عبدالوهاب الذى لا يمكن لأى كائن حى أن يخطئه، قلت له إننى أعمل صحفيًا فى «روزاليوسف»، أسقطت عامدًا متعمدًا أننى (تحت التمرين)، حتى أحافظ على (برستيجى)، وحصلت على الموعد.
فى اليوم التالى، الأستاذ عبدالوهاب أراد تأجيل الموعد حتى نهاية الأسبوع؛ لظرف خاص به، اتصل بى فى المجلة،- طبعًا قبل اختراع المحمول- وأنا لم أكن أذهب للمجلة فقط سوى يوم الاثنين، تلقى المكالمة عبدالرحمن وشهرته «عم عوف»، أشهَر (تليفونست) فى الصحافة المصرية، الذى استوحى منه الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس قصة قصيرة «شرف المهنة»، وكان قطعًا يعرف عبدالوهاب من صوته، كما أن الموسيقار الكبير، يعرفه؛ لأنه منذ إنشاء «روزاليوسف» وهو على تواصل مع كبار كتّابها أمثال: محمد التابعى وكامل الشناوى وإحسان عبدالقدوس وصلاح جاهين وغيرهم.
على الفور تفتق ذهن (عم عوف) على أن تصل المكالمة إلى رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير فى تلك السنوات الكاتب الكبير الأستاذ مرسى الشافعى.
لأول مرّة يعرف الأستاذ مرسى، أن لديه صحفيًا تحت التمرين اسمه طارق الشناوى، واستوقفه أن هذا الصحفى المغمور دفع عبدالوهاب للاتصال به، واستدعانى بعدها إلى مكتبه وقرّر تعيينى لإحساسه أننى مشروع صحفى مجتهد، وتقدمت بكل الأوراق المطلوبة ماعدا أهم شهادتين بكالوريوس الإعلام وأداء الخدمة العسكرية ورحل الأستاذ مرسى الشافعى، وأنا لا أزال طالبًا، وأتممت الدراسة والخدمة العسكرية واستكملت الأوراق فى عهد الأستاذ عبدالعزيز خميس الذى تولى قيادة المؤسّسة بعد رحيل مرسى الشافعى.
طبقًا للقانون خريج الإعلام يحصل على عضوية النقابة بعد مرور ستة أشهُر على التعيين، وتقدمت بورقة لرئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير الأستاذ عبدالعزيز؛ حتى أحصل على الورقة التى تفيد بأننى مضى على تعيينى ستة أشهُر؛ لتقديمها للنقابة، كتب الأستاذ عبدالعزيز على الطلب وبخط أحمر (يا حدق أنت لسّه ما تعينتش).
اكتشفت طبعًا من هذا التعليق الساخر، ليس فقط أنه لا يعرف ولكن لم يكن ينتوى أساسًا تعيينى، أسقط فى يده (سبق السيف العزل)، وأعلنها ثورة ضدى، القانون لا يمنح صلاحية للمسئول بإلغاء التعيين بعد مرور 6 أشهُر، إلا إذا ارتكب الموظف خطأ جسيمًا، ولم يجد شيئًا من الممكن أن يستند إليه؛ لرفتى، وصرت عضوًا عاملاً بالنقابة فى مطلع الثمانينيات بسبب مكالمة محمد عبدالوهاب.
الموقف الثانى مع الأستاذ عبدالوهاب تراجيدى هذه المرّة، كنا نصدر فى «روزاليوسف» مجلة مصرية سودانية اسمها «الوادى» يرأس تحريرها من مصر الفنان التشكيلى هبة عنايت ويدير التحرير الأستاذ عادل حمودة، الأستاذ عادل يطلب من الكاتب أن يختار الفكرة ويحدد عدد الصفحات التى يريدها، اقترحت عليه أن أكتب تحقيقًا متكاملاً عن السرقات الموسيقية لمحمد عبدالوهاب، وأربع صفحات من القطع الكبير، التحقيق كان له مردود جماهيرى واسع عنوانه: (أنا والعذاب وعبدالوهاب)، وبه حوار طويل مع الموسيقار رؤوف ذهنى، الذى كانت الكثير من الأقاويل تنسب له تلحين بعض الأغنيات من الباطن؛ للموسيقار الكبير، كما أنه تناول الاتهامات المماثلة لعدد من الملحنين أمثال: محمد الموجى ومحمود الشريف وعبدالعظيم عبدالحق ومختار السيد، كما أننى استعنت بالدكتورة صيانات حمدى التى أشارت إلى نحو 40 لحنًا أجنبيًا، استمد منها عبدالوهاب عددًا من أغنياته، تواصل محمد عبدالوهاب مع دكتور صبحى عبدالحكيم وكان رئيسًا لمجلس الشورى ومسؤلاً عن المجلس الأعلى للصحافة، وكان المطلوب هو عقابى بالرّفت كما علمت بعد ذلك من الأستاذ الكاتب الكبير لويس جريس، وكان يشغل منصب العضو المنتدب لمؤسّسة روزاليوسف، استطاع الأستاذ لويس احتواء الأزمة، وقال لى إن كل مطبوعات المؤسّسة تسعى للصلح مع عبدالوهاب ونزع فتيل الأزمة. وأضاف الأستاذ لويس إن عبدالوهاب يعتقد أن هناك حملة موجهة ضده، يقودها أحد الملحنين من الجيل التالى له، وأننى كنت منحازًا لهذا الملحن على حسابه.. الغريب أن هذا الملحن تحديدًا رفض تمامًا أن يشارك ولو بمجرد الرأى فى هذا التحقيق.
مرّت عدة أشهُر وعاودت الاتصال بعبدالوهاب، وكنت أسبق اسمه دائمًا بلقب الأستاذ، قال لى بكل ود: (أنا أعتبر نفسى مثل أعمامك كامل ومأمون الشناوى، قل لى يا عمى)، ولم يتطرّق أبدًا لما نشرته فى مجلة «الوادى»، أتذكر فى إحدى المكالمات قلت له إن عمّى كامل له قصيدة رائعة لم تغن عنوانها (ظمأ وجوع)، طلب منّى أن أرددها أكثر من مرّة وتبدأ بهذا المقطع (أحببتها وظننت أن لقلبها / نبضًا كقلبى لا تقيده الضلوع).
وقال لى إنه يفكر بالفعل فى تلحينها؛ خصوصًا أنه لحّن لعمّى كامل العديد من قصائده وأشهَرها طبعًا (لا تكذبى).
فى تلك الأثناء نهاية الثمانينيات، كنت أنشر مقالاتى على صفحات مجلة «صباح الخير» فى ظل رئاسة الأستاذ لويس جريس للتحرير، بسبب خلاف عابر فى مجلة «روزاليوسف» مع المسئول عن تحرير الصفحة الفنية، فى عام1991 أصبح الأستاذ مفيد فوزى رئيس تحرير «صباح الخير»، وكان قد سبق لى أن نشرت مقالاً فى جريدة «الوفد» انتقدت أغنية (من غير ليه)، التى سَجّلها عبدالوهاب بصوته، وقدّم الأستاذ مفيد عنها فقرة طويلة فى برنامجه الشهير (حديث المدينة) يؤكد خلاله أن ما نسمعه هو صوت عبدالوهاب فى عام 1989 وقت تسجيل الأغنية، رغم أن الحقيقة أنه صوت عبدالوهاب عام 1977 أثناء البروفات مع عبدالحليم، وأشرت إلى أن مهندس الصوت زكريا عامر أخذ صوت عبدالوهاب منفردًا من بروفة عبدالوهاب مع عبدالحليم أثناء تحفيظه اللحن، وعن طريق المكساج (المزج الصوتى) أضاف عزف فرقة أحمد فؤاد حسن، حتى يبدو أنه صوت عبدالوهاب الآن.
وكان عنوان المقال (ألف ليه وليه)، وغضب الأستاذ مفيد من المقال، واعتقدت أنه لن يسمح لى- بعد أن أصبح رئيسًا لتحرير «صباح الخير» أن أكتب على صفحات المجلة فى عهده، ولم يكن هذا صحيحًا، كما أخبرنى بعد ذلك، ولكن كان لدىّ حالة من التخوف المشروع، ويرحل الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب 4 مايو 1991، ويستدعينى الأستاذ عادل حمودة لكى أشرف على فصل فى العدد الذى سيصدر من «روزاليوسف» عن عبدالوهاب، كان رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير الأستاذ محمود التهامى، قد منح عادل حمودة صلاحيات مطلقة فى النشر.
وكتبت أيضًا مقالاً أشرت فيه إلى أن كل ما هو منسوب من سرقات موسيقية، استطاع الموسيقار الكبير أن يحيله إلى حالة (وهّابيّة) بالمعنى الموسيقى للكلمة، وبالفعل مع الزمن أدركت أن عبدالوهاب تأثر بالموسيقى العالمية وتأثر أيضًا بالآخرين، ممن سبقوه زمنيًا أو لحقوه زمنيًا، إلا أنه ظل عنوان مصر والعالم العربى للموسيقى متوجًا بلقب (موسيقار الأجيال) وعن جدارة.
وتصورت وقتها أننى بهذا المقال أضع باقة ورد على قبره.
تلك كانت لمحة فى مشوارى بطلها الموسيقار الكبير، لم يقصد محمد عبدالوهاب شيئًا، ولم أتعمّد أنا أيضًا شيئًا، ولكن (أهو ده اللى صار)!