عن الحرية والحياد فى الثلاثينيات والأربعينيات
سمر فتحى
«روزاليوسف» اسم يعنى الكثير فى بلاط صاحبة الجلالة، فعلى مدار عمرها الطويل الذى يمر عليه الآن مائة عام، لاتزال تؤدى رسالتها القوية، حاملة مشعل الحرية والانحياز للتنوير والضمير المهنى. فمنذ انطلاق شرارة العدد الأول لمجلة «روزاليوسف» عام 1925 وهى بمثابة إلقاء حجر فكرى قوى فى بحيرة المهنة.
بدأت «روزاليوسف» بمنظور فنى بحت ثم تقلص فيها الفن ليصبح جزءًا من صفحات الملزمة الأخيرة، وعلى الرغم من ذلك كانت الأقلام الفنية بها تسير على نهج حرية الفكر والإبداع.
ومع بداية الثلاثينيات أصبح الفن فى مجلة «روزاليوسف» منحصرًا فى الملزمة الأخيرة التى تبدأ بـباب « أخبار المسارح والملاهى» والذى اختص بنشر أخبار الفن والفنانين وكواليس ما وراء الخبر هذا بخلاف بعض التحقيقات الفنية التى تشبه كثيرًا فى محتواها العديد من القضايا الفنية التى لا نزال نناقشها حتى اليوم.
أزمة يوسف وروزاليوسف
أن يتناول الصحفى نقدًا لبعض الفنانين هو أمر مشروع فى الصحافة الفنية، فالنقد ليس شخصيًا، بل هو فنى بحت، ومنذ أن ظهرت فرقة مسرح رمسيس ومؤسسها الفنان الراحل «يوسف وهبى» فى منتصف العشرينيات وحتى أواخر الثلاثينيات تناولت «روزاليوسف» مسيرة تلك الفرقة بكل موضوعية دون تحيز لأحد، ولكن ما أشيع وقتها أن «روزاليوسف» شنت حملة هجوم عنيفة على الفنان «يوسف وهبى»، ولكن بنظرة جديدة سنجد أن تلك الحملة – إن جاز التعبير – كانت لها أسبابها المنطقية وذلك وفقا لما ورد فى المقالات التى نشرت على صفحات المجلة فى تلك الفترة. ففى العدد 204 لعام 1932 نشر موضوع بعنوان «من هو الممثل العالمى» والذى جاء ردًا على بريد أحد القراء وهذا ما نشر وقتها: (كتبت إلينا آنسة مهذبة تسألنا لماذا نحن ننكر على الأستاذ يوسف وهبى حقه فى أن يكون ممثلاً عالميًا).
ليكون الرد بمنتهى الموضوعية ومع الاعتراف بشعبية «يوسف وهبى»، فيقول الرد: (نرى قبل أى شىء أن من حق الأستاذ يوسف وهبى علينا أن نسجل له هذه الحقيقة وهى أن أنصاره أكثر من معارضيه وأن المعجبين به يفوقون عددًا الناقمين عليه، إلا أن مفهوم العالمية واضح، وعلى الرغم من أن يوسف وهبى سافر شرقًا وغربًا لم تنشر جريدة واحدة فى العالم يومًا عنه فهو ليس عالميًا وليس فى مصر كلها ممثل واحد عالميًا).
لم تشبه عناوين مجلتنا العريقة أيًا من الصحف الأخرى، بل ظلت فريدة بنوعها حتى وإن كانت عناوين صارخة تسببت فى بعض الانتقادات، إلا أن أقلام كتابها كانت دومًا لنصرة الفن والذوق العام. ففى العدد 209 نشر مقال بعنوان «جاسوس على الأسرة المصرية.. يوسف وهبى فى أولاد الذوات وأولاد الفقراء» حيث صورت رواية (أولاد الذوات) الشاب فيها سارق، مزور، عربيد، مقامر فى حين تناولت رواية (أولاد الفقراء) الأسرة المصرية البسيطة بأنها تعيش بالدعارة وللدعارة والشريف بينهما يحمل لقب «قواد»، أما فى العدد 258 فنشر مقال آخر بعنوان: «فليسمع يوسف وهبى رأى الجمهور فى تأليفه وتمثيله» وكان الحديث وقتها عن رواية (بنات اليوم) فتأتى بكل نقيصة تتصف فيها البنات فى فترة الثلاثينيات من الذهاب إلى الملاهى الليلية وحرية الزواج وحرية الفكر لينال فى روايته من كل أفراد العائلة بشكل يفسد تقاليد الأسر المصرية فى هذا الوقت، وهذا ما رفضته مجلة «روزاليوسف» متمثلة فى أقلامها النقدية شكلاً وموضوعًا ليكون نقدًا لاذعًا لـ«يوسف وهبى» بإفساد الذوق العام.
حديث «يوسف وهبى» بأنه بطل التمثيل فى عالم الشرق وأنه المؤلف المسرحى الذى يفوق «شكسبير» و«مولير» إلا أن الحقيقة كشفت غروره الذى وضعه فى مقتل أمام الجمهور فبعد أن اعتزم تقديم ثلاث روايات لأمير الشعراء «أحمد شوقى بك» - كما كان يلقب وقتها – وهى (قمبيز)، (عنتر)، و(على بك).. خرجت الرواية الأولى وكان سقوطها مدويًا، مما دفع «شوقى بك» أن يسترجع روايتيه الباقيتين.
ولأن مجلة «روزاليوسف» سارت على نهج حرية التعبير والاستماع إلى الآخر وأن رأى القراء أمر مهم للغاية، فقد نشر فى العدد 213 موضوع بعنوان: «لماذا نتحامل على يوسف وهبى» ليس تبريرًا لحملة هجوم كما يظن البعض، وإنما رسالة توضيح لما تناولته صفحات المجلة عن مسيرة هذا الفنان الذى أفسد الذوق العام بروايات مملوءة باللطم والعويل والصراخ وشد الشعر وجثث القتلى والجرحى والمشوهين، هذا بخلاف تقبله لوصف وزير المعارف فى ذلك الوقت على أن التمثيل أشبة بـ«الدعارة».. والممثلون هم «الدواعر» ولم يصدر موقف واضح وصريح من «يوسف وهبى» تجاه هذه «السبة» حتى لا يحرم من الإعانة المالية على عكس ما حملته مجلة «روزاليوسف» فى الدفاع عن كرامة الممثلين ومن بينهم «يوسف وهبى» على إساءة تطال الفن والفنانين فى مصر.
دعم عبدالوهاب وأم كلثوم
كانت مجلة «روزاليوسف» شاهدة على مولد الكثير من نجوم الغناء فى مصر وبالأخص فى فترة الثلاثينيات مثل المطرب «محمد عبدالوهاب» أو كما لقبه جمهور تلك الفترة بـ«البلبل الصغير» والذى عزف على أوتار الحب بعذوبة صوته، ليأتى بريده اليومى حاملًا خطابات معطرة تحمل العديد من الكلمات الحالمة التى جعلته قرة عين النساء والفتيات، لتنشر صفحات مجلة «روزاليوسف» فى العدد 211 فى باب «أخبار المسارح والملاهى» أن موضة رسائل المخاطبة بين العشاق يقودها الفنان «محمد عبدالوهاب» حيث ورد خطابا من مجهول يشكره أن أسطواناته كانت سببًا فى استرضاء قلب الحبيبة وإيصال المعانى من غير الحاجة إلى خطابات قد تقع فى يد الأهل وتفقده التواصل معها.
ويواصل «عبدالوهاب» مسيرته الفنية التى جعلته مطربًا يتظاهر بأنه لا يؤمن بالحب ولا يفهمه، ولكن من يقترب منه ويعرفه عن قرب يعلم جيدًا أنه والحب صديقان وأنه حبّيب - بتشديد الباء- لا يشق له غبار.
كما كانت «روزاليوسف» شاهدة أيضًا على مولد كوكب الشرق «أم كلثوم» التى تعد أحد أعمدة الغناء فى الوطن العربى ليستمر الحديث عنها فى أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات عبر أخبار حصرية عنها ووجود إعلانات على صفحة أو نصف صفحة أو ربع صفحة بموعد ومكان الحفلات الخاصة بها، ليس ذلك فقط بل كان صورتها أحد أغلفة المجلة فى فترة العشرينيات.
إلا أن المنافسة بينها وبين «فاطمة قدرى» احتدت للغاية ليأتى مقال نشر فى العدد 218 بعنوان: «أيام كانت فاطمة قدرى مطربة شهيرة تعطف على أم كلثوم» ليتناول الحديث عن أول لقاء بينهما والتى طالبت فيه «فاطمة» برؤية «أم كلثوم» للتعرف عليها، وقد جاءت الأخيرة مرتبكة لا تدرى ماذا تفعل أو تقول لتنقلب الدنيا بعد ذلك رأسًا على عقب ويذيع صيت «أم كلثوم» فى الوجه البحرى والصعيد وتتربع على عرش الطرب فى مصر.
فمثلها كمثل «عبدالوهاب» فى حديثها مع الصحافة فهى لا تؤمن بالحب رغم غنائها المولع بالحب وآهاتها التى لا تخرج إلا من قلب جريح لنجد حوارًا بينها وبين أحد كتّاب المجلة والذى نشر فى العدد 234 فى منتصف الثلاثينيات بعنوان: «أم كلثوم تحب وتفشل فى الحب» حين سألت عن الحب لتنزعج من السؤال وترد بقسوة وتصف الحب بأنه كلام فارغ وكعادة «روزاليوسف» التى دومًا تبحث وتتعمق حول كواليس تلك التصريحات لتجد أن «أم كلثوم» كانت مغرمة بشاب وتقابله يوميًا إلا أنها عندما بدأت تخطو أولى خطواتها نحو سلم المجد، هجرها الشاب قبل أن تهجره ليتحطم قلبها وتصدر أسطوانة (ياما أمر الفراق).
ورغم أن «أم كلثوم» كانت فى منتصف الثلاثينيات تتمتع بشعبية عالية، وكانت أخبارها دائمًا على صفحات مجلة «روزاليوسف» خاصة بعد أن أعلنت عن فتح صالة خاصة بها لإقامة حفلاتها إلا أن تواجد بار ينافس بارات عماد الدين فى ذلك الوقت جعل مجلتنا تصدر مقالًا بعنوان: «كلمة إلى المطربة الكبيرة أم كلثوم» تلومها على ذلك وتؤكد أن الجمهور كان يتمنى أن تكون صالة يمنع فيها أى وسيلة للتسالى سوى صوتها العذب لتعدل كوكب الشرق بعد ذلك عن هذا وتكون صالتها مكانًا للطرب فقط.
ما أشبه الليلة بالبارحة
فى الوقت الحالى الذى تتناول فيه الصحف والمجلات الفنية قضايا أجور الفنانين وأن الجمهور هو الضلع الرئيسى لنجاح أى ممثل هذا بخلاف قضية تقاعد النجوم بسبب تقدمهم فى العمر وغيرها من القضايا هو نفس الأمر الذى ناقشته المجلة فى فترة الثلاثينيات فى العدد 340 حيث نشر موضوع يناقش قضية الأجور، جاء بعنوان: «أجور الممثلين فى مصر كالعبيد يقل ثمنهم كلما تقدموا فى السن» هذا بخلاف الموضوع الذى نشر فى العدد 227 بعنوان: «هل تتناسب أجور المطربين والمطربات مع مقدرتهم الفنية».
الأربعينيات والغياب المتعمد لأهل الفن
تعد حقبة الأربعينيات من أكثر الفترات الصعبة على العالم العربى وبالأخص مصر وجاء ذلك نتيجة الحرب العالمية الثانية ثم نكبة 1948 التى ألقت بظلالها على الجانب السياسى والاجتماعى والاقتصادى وأيضًا الفنى.
لتكون أقلام كتابنا بمثابة صفعة قوية لأهل الفن وتوجيههم للدور الذى من المفترض أن يؤدوه فى مثل هذه الظروف ففى حوار أجرته مجلة «روزاليوسف» مع المخرج «أحمد بدرخان» نقيب السينمائيين عام 1948 تحت عنوان: «ليس للشيوعية مكان فى الوسط الفنى» والذى أشار فيه إلى أن السبب فى فشل السينما المصرية يعود إلى تواجد أثرياء الحرب فى عملية الإنتاج السينمائى لينتج عن ذلك قصص ضعيفة وموضوعات هاوية، هذا بخلاف صعود أشباه النجوم الذين لا يملكون أى موهبة.
ورغم تأثر السينما بهذه الحرب كان واقعها على المسرح أيضًا أقوى ففى عام 1943 نشر حوار للفنان «زكى طليمات» المدير الفنى للفرقة المصرية حينها وقد قال فيه: (إن الحرب القائمة لن تطول وأن بعد انتهائها سيهيأ للمسرح المصرى مجال يتضاعف فيه نشاطه ويشق له آفاق جديدة، ستعود المسارح التى أصبحت للرقص والترفيه إلى سيرتها الأولى، للتمثيل، وتعود الفرق المشتتة إلى عملها المنظم).
ومن المعارك التى خاضتها ورفضتها «روزاليوسف» هو تواجد عدد من النجمات الفاقدات لكل نواحى الموهبة واللائى يتباهين فقط بجمالهن أمام الكاميرا، وهذه المقومات لا تصنع نجمة، لينشر فى العدد 995 مقال يحمل عنوان: «مدعيات الفن» ويتم من خلاله تناول ظهور كل من «نيللى مظلوم» و«كاميليا» و«آسيا داغر» وقد فشلت الأخيرة بالفعل فى إقناع الجمهور بها كممثلة فاتجهت للإنتاج.
احتفاء وتشجيع.. متأخر
وأخيرًا قررت النخب الفنية المشاركة فى الجهاد المقدس والقيام بدورها الصحيح.. وفى تحقيق نشر بعنوان: «الفنانون فى خط النار» سألت مجلة «روزاليوسف» كبار النجوم عن تحركاتهم فى دعم الفن للجنود على الجبهة فى حرب 1948.
فقال موسيقار الأجيال «محمد عبدالوهاب»، أنه على أتم الاستعداد للذهاب إلى ميدان القتال بنفسه لو تطلّب الأمر ليشارك الجنود على أرض المعركة، والأمر نفسه صرح به كل من «ليلى مراد» و«أنور وجدى» بأنهما على استعدادهم لتقديم أفلام بالمجان للجنود.
فى حين قالت كوكب الشرق «أم كلثوم» أنها عرضت استعدادها الكامل فى تقديم حفلات بالمجان للجنود بفرقتها الخاصة كنوع من الترفيه عنهم.
لتنادى «روزاليوسف» كل نجوم المسرح والسينما وحتى الفنانين التشكيليين بتوجيه فنهم للحركة الوطنية ودعم جنودنا.
لتكون مجلة «روزاليوسف» صاحبة الفضل بأقلام أبنائها لتوجيه أهل الفن إلى مسارهم الصحيح ودورهم فى مثل هذه الأوقات العصيبة.