أسامة سلامة
تجربة تفوق
بوست منتشر على وسائل التواصل الاجتماعى، يقول إن رحلة نجاح إحدى البلوجرات وسيدات الأعمال والتى يضرب بها المثل فى كفاحها نحو تحقيق حلمها بدأت بمليون دولار حصلت عليها من والدها، ولكن المقصودة بالبوست نفت هذا الأمر فى فيديو لها وأكدت أنها لم تعتمد على فلوس والدها وأنها كافحت وتعبت كثيرا من أجل النجاح والتفوق، ورد آخرون بأن مشروعها وهو تصميم المايوهات وبيعها لا يمكن أن يبدأ من الصفر ويحتاج رأسمال كبيرا خاصة أن المايوهات التى تبيعها غالية الثمن وموجهة إلى طبقة بعينها، ولفتت هذه المعركة المفتعلة نظرى وطرحت عندى سؤالا: هل يمكن اعتبار هذه السيدة مثالا للكفاح كما يتم تقديمها؟ حتى إن فيديوهاتها عن قصة حياتها يتفاعل معها آلاف المتابعين لها، هى ناجحة فى مجالها بالتأكيد ومبتكرة فى مشروعها وفكرتها ولكن الكفاح له أوجه مختلفة ودرجات متعددة وحكايات أخرى أكثر إثارة تعطى القدوة والأمل للبسطاء، وهناك تجارب عديدة لمن واجهوا الظروف الصعبة والعراقيل الكبيرة من أجل الارتقاء بأنفسهم وأهلهم وكان التعليم هو طريقهم الوحيد نحو تحقيق أحلامهم وطموحاتهم، ولعل فى كثير من أبناء الريف والصعيد أمثلة لهذا الكفاح والتفوق، وتصادف أننى شاهدت البوست عن هذه البلوجر والمعركة حوله وأنا أقرأ كتاب الصديق والصحفى البارع والكاتب الكبير عاطف صقر «التفوق.. تجربتى وآخرين»، ويحكى فيه قصة كفاح حقيقية لابن إحدى قرى أسيوط من أجل التعليم وكفاحه للوصول إلى مكانة مميزة، ولفت نظرى مشهد كتبه ببراعة يكشف مدى المعاناة التى لاقاها هو وجيله من أبناء القرى فى السبعينيات والثمانينات من القرن الماضى الذين أصروا على مواصلة التعليم، هو ابن قرية فزارة التابعة لمركز ومدينة القوصية بأسيوط وهى نفس المدينة التى انتمى إليها، ولم تكن هناك فى هذه السنوات سوى مدرسة إعدادية وحيدة فى المدينة ومن يريد الالتحاق بها من أبناء القرى عليه أن يسافر إليها، ولم تكن وسائل المواصلات فى هذا الوقت متوافرة،فلم تكن تتواجد فى معظم هذه القرى سيارات أجرة أو ميكروباصات ولا توكتوك، وكان الطلاب ينقسمون إلى عدة فئات، الميسورون منهم يمتلكون درجات وعليهم قطع عدة كيلومترات يوميا للذهاب إلى المدرسة أما الباقى من الطلاب فليس أمامهم سوى المشى على الأقدام عدة ساعات فى البرد القارس شتاء والحر القائظ صيفا والقليل منهم وهم من أبناء القرى البعيدة يستأجرون غرفا متواضعة فى أحد منازل المدينة، وكان من حظ عاطف أن قريته يتوقف بها قطار الركاب، وكان عليه حتى يذهب إلى المدرسة إما أن يركب القطار أو ينتظر المعدية على شاطئ ترعة الإبراهيمية لتنقله إلى الضفة الأخرى بما تحمله هذه الوسيلة من مخاطر وبرودة شديدة فى الشتاء ثم يواصل السير عدة كيلومترات إلى المدرسة، ولهذا كان من الأفضل أن يستقل القطار ومعه مجموعة متنوعة من الطلاب الذين يدرسون بالإعدادية والثانوية، ورغم ذلك لم يكن الأمر سهلا فيجب عليه الاستيقاظ مع الفجر والخروج من المنزل فى الظلام قبل شروق الشمس، وكان الأمر أكثر صعوبة فى الشتاء حيث البرودة الشديدة فى هذا الوقت من اليوم وتزداد الصعوبة إذا أمطرت السماء، ولهذا كان الطلاب يتحركون سويا محتمين ببعض، وفى يوم كما يحكى طال انتظاره لزميله وخوفا من عدم اللحاق بالقطار هرول سريعا إلى المحطة، ويضيف: «كنا نعرف مكان القطار فى الظلام من صوت احتكاك عجلاته بالقضبان أو الإضاءة بمقدمته وواصلت العدو للحاق به وعند بداية رصيف المحطة لحقته وهو يتحرك ولكن قطرات الندى على القائم المثبت بالباب سهلت انزلاق يدى لأسقط بجوار القضبان فصرخ الركاب نحو السائق فتنبه وأوقف القطار وأنا فى المسافة الفاصلة بين عجلاته ورفعنى بعض الركاب إلى باب القطار»، هذه واحدة من حكايات عاطف التى يمتلأ بها الكتاب، والتى تمحورت حول عمله فى الحقل مع والده منذ طفولته ومساعدته له فى بيع المحصول وذهابه إلى المدرسة ومذاكرته على ضوء لمبة جاز إذ أن قريته فى ذلك الوقت لم تدخلها الكهرباء، ورغم ذلك كان يحفز نفسه حتى يكون من الأوائل وهو ما تحقق له فى الابتدائى والإعدادى أما فى الثانوية العامة فكانت المفاجأة إذ أنه لم يكتف بالتفوق بل كان العاشر على الجمهورية أدبى وهو ما جعله مضرب المثل فى الكفاح والتفوق على مدى سنوات طويلة فى بلدتنا، وظل طموحه فى أن يكون له مكان تحت الشمس يحفزه على التفوق فالتحق بالأهرام بعد دراسته فى كلية الإعلام التى فضلها على كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتولى العديد من المناصب فى الجريدة العريقة ومنها مدير تحرير ومدير مكتب الأهرام فى دمشق وترشح أكثر من مرة لرئاسة التحرير، وحاز من خلال عمله على عدة جوائز من نقابة الصحفيين، ولعل حبه للتفوق دفعه إلى ذكر عدد من المتفوقين فى قريته فى مجالات مختلفة افتخارا بهم ومحبة لهم واعتزازا بنجاحهم، حكايات كثيرة مثيرة وممتعة فى كل صفحات الكتاب ولكنها ملهمة لمن يريد أن يتفوق ويتجاوز أى صعوبات تقابله ويتحدى أى عراقيل تواجهه فى رحلة طموحه.