هل بدأت طهران مرحلة المقايضة مع واشنطن على حساب أذرعها؟ إيــران «فقاعة» هواء فى مرمى الحرب
مروة الوجيه
بينما ترفع إسرائيل من وتيرة عملياتها ضد حزب الله، وتستهدف مواقع استراتيجية، وتعمل بشكل ممنهج على تصفية قياداته، وتحويل لبنان إلى ساحة حربٍ حقيقية، يسجل تراجع إيران عن هذه المواجهة، وجنوحها نحو ترتيب أوراقها السياسية مع الولايات المتحدة والغرب، وفق محللين سياسيين لبنانيين، ويستدلون على ذلك بما صرح به المرشد الأعلى على خامنئى عن «تراجع تكتيكى» فى الرد على استهداف إسرائيل للمصالح الإيرانية، وصرف النظر عن الانتقام لاغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية فى عمق طهران، وكذلك يستشهدون بما أعلنه وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى من أن بلاده مستعدة لإجراء محادثات حول ملفها النووى فى نيويورك.
ويعتبر حزب الله، أكبر جماعة مسلحة ضمن «محور المقاومة» - وهو تحالف من الجماعات المسلحة الإقليمية المعارضة لإسرائيل - ويتمتع بدعم كامل من إيران منذ إنشائه، وتوقع الكثيرون بعد الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة،التى عطلت بنية قيادة حزب الله إلى حد واضح، ووضعت ما يطلق عليه «أقوى جيش غير حكومى فى العالم» فى منعطف حرج، أن تؤدى إلى رد فعل أكثر حزمًا وحسمًا من إيران، إلا أن هذا الرد لم يأت بعد، ولم تظهر إيران أى بادرة على رد عملى أو انتقامى، على الرغم من أنها تصرح بأن حزب الله هو «خطها الأحمر»، وحتى بعد أن أعلن زعيم حزب الله حسن نصر الله مؤخرًا أن إسرائيل «تجاوزت كل الخطوط الحمراء».
حتى أن الخطاب الإيرانى المعتاد بالانتقام والملىء بالتهديدات ضد إسرائيل كان مقيدًا بشكل لافت، مما يضع أمامنا عدة أسئلة جوهرية لكن أهمها.. أين إيران؟
مقايضة أم هروب «تكتيكى»
تضاربت قراءات الخبراء حول أبعاد السياسة الإيرانية الجديدة، وما إذا كانت دخلت فعلًا مرحلة المقايضة على أذرعها العسكرية فى المنطقة، مقابل مكاسب سياسية تحققها على طاولة المفاوضات، أم أن العلاقة العقائدية بين إيران و«حزب الله» يصعب تفككها.
وفق تصريحات للنائب اللبنانى السابق فارس سعيد، يرى أن المشهد فى غزة المستمر منذ أشهر يتكرر الآن فى لبنان، مشيرًا إلى أن الأيام المقبلة ستبين ما إذا كانت إيران تقود محور المقاومة فى وجه إسرائيل، أم أنها تحارب تل أبيب عبر حلفائها، بينما هى مهتمة بالتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ويضيف سعيد فى حديث صحفى: «يتبيّن يومًا بعد يوم أن المنخرطين فى أذرُع إيران بالمنطقة هم الذين يموتون بمواجهة إسرائيل، من أجل تحسين ظروف مفاوضات طهران مع واشنطن»، ملاحِظًا أن اللبنانيين يشعرون اليوم بأن (حزب الله) الذى كان يتغنّى بأنه مدعوم من إيران، وأن طعامه وشرابه وأمواله وأسلحته من طهران، يخوض الآن المعركة وحيدًا، وكأنه متروك لقَدره، بينما تنشغل إيران بترتيب ملفاتها مع الغرب.
ورأى النائب السابق فارس سعيد أن القيادة الإيرانية «تحاول أن تنجو من هذه الحرب، وربما تقايِض على رأس (حزب الله) فى لبنان، والحوثى فى اليمن، والحشد الشعبى فى العراق».
وقال: «للأسف، ليست المرة الأولى التى يربط فيها فريق لبنانى مصيره بجهة خارجية ويخسر الرهان»، مذكّرًا بأنه «عندما قررت الحركة الوطنية فى سبعينيات القرن الماضى ربط مصيرها بياسر عرفات (رئيس منظمة فتح)، وقرر (الرئيس السورى الراحل) حافظ الأسد تصفية (فتح)، وبدأ باغتيال كمال جنبلاط، ومن ثم (الرئيس اللبنانى المنتخب) بشير الجميل، لم يتمكن أبو عمار من حماية كمال جنبلاط، ولم يأتِ أحد من الخارج لإنقاذ بشير الجميل»، مضيفًا: «إن القوة الإقليمية تستخدم الفريق الداخلى، وليس العكس، والوقائع اليوم تثبت أن (حزب الله) هو من يتبع توجيهات طهران والحرس الثورى الإيرانى، بعكس ما كان نصر الله يقوله من أنه هو مَن يقرّر، وإيران تسانده فى المعركة».
ولم يكن للدور الإيرانى أن يتعاظم إلى هذا الحدّ لولا تَماهى الدول العظمى مع هذا الدور.
مصير معركة «حزب الله»
وبقاء إيران خارج المعركة الإسرائيلية الأشرس على لبنان منذ الثامن من أكتوبر الماضى، لا يعنى تخلّى طهران عن «حزب الله» بأى حال من الأحوال، على حدّ تعبير الباحث فى الشؤون الجيوسياسية زياد الصائغ، الذى رأى أن القول بانفكاك عقد البنوة والأبوة بين (حزب الله) وإيران يعد تبسيطًا ساذجًا؛ إذ هى أيديولوجية غيبية تجمع بينهما، إلى حد انسحاب هذه الأيديولوجية على مستويات فائقة التعقيد.
ودعا الصائغ فى تصريحات صحفية، إلى وجوب وعى أن رهانًا مماثلًا، ما أدى بكل الخيارات إلى دمار انتحارى شامل، مشدّدًا على أن «انفكاك هذا العقد يطول أطراف حلف الأقليات الذين اجتمعوا على مدى عقود لتدمير لبنان والحالة العربية بنَفَسِها الحضارى، وهذا ما جعل إيران وإسرائيل فى مربع المصلحة الموضوعية المتقاطعة. من هنا دخلت الأولى إلى الشرق الأوسط بأذرُع لم تُقِم وزنًا للإنسان ومنطق الدولة، بقدر الانقضاض على هذَين المكونَين الحضاريين اللذَين يؤمنان حكم القانون، ويثبّتان مفهومَى الأمن القومى والأمان الإنسانى».
ويسود الاعتقاد فى الشارع اللبنانى بأن انكفاء إيران أو غيابها عن الأحداث الخطيرة التى شهدها لبنان، بدءًا من تفجيرات أجهزة الاتصالات، مرورًا بقصف الضاحية الجنوبية، واغتيال القادة البارزين فى «كتيبة الرضوان»، وصولًا إلى تجاهلها الغارات الإسرائيلية التى شملت مختلف الأراضى اللبنانية، يعنى أنها تخلت عن شعاراتها القديمة، وتركت الحزب واللبنانيين لقدرهم.
وأشار زياد الصائغ إلى أن الغرب غطى هذا الدور لعقود، وها هى شعوب المنطقة تدفع ثمن هذا الغطاء الخبيث، ولن ينجو هو من ذلك أيضًا، ويوضح الصائغ: «دخلنا حقبة إنهاء التطرف الجامع بين الأيديولوجية القومية والدوجماتية الدينية، وأفضل تعبير عنها إسرائيل وإيران، فى وقت لا بد للعالم العربى من قيادة مسار قيام دولة فلسطين، ولا بد لـ(حزب الله) من استعادة حقائق التاريخ والجغرافيا من بوابة الهوية اللبنانية الجامعة، تحت سقف تطبيق الدستور، والالتزام بسيادة الدولة الحصرية، فهناك الخلاص».
التدخل المباشر
من جهه أخرى، فى تحليل للباحث المتخصص فى الشئون الإيرانية بمعهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى، راز تسيمت، نشرته صحيفة يدعوت أحرنوت، أوضح أن إيران لا تجد أن الوقت مناسب للتدخل المباشر فى الحرب الجارية بين جيش الاحتلال وحزب الله فى لبنان.
وأن التصعيد الحالى بين إسرائيل وحزب الله يأتى فى وقت غير مناسب لطهران التى لا ترى سببًا مقنعًا للتدخل المباشر للتصدى لهجمات إسرائيل، لأنها تعتقد أن الحزب لا يزال قادرًا على الصمود والمواجهة بمفرده.
وأكد تسيمت أن القيادة الإيرانية ستتخذ قرارًا بالتدخل المباشر فى حال رأت أن القدرات الإستراتيجية لحليفها تتعرض للتدمير، على الرغم من قناعتها الحالية بأن إسرائيل غير قادرة على هزيمة حزب الله كليًا، حتى فى ظل تراجع قدراته العسكرية.
وشرح الباحث الإسرائيلى الظروف التى تواجهها طهران فى ظل العدوان الإسرائيلى على لبنان، وقال: إن المرحلة الجديدة من المواجهة بين إسرائيل وحزب الله تأتى لإيران فى وقت غير مناسب.
وأضاف: إن الحكومة الإيرانية تركز حاليًا على هجوم دبلوماسى يقوده الرئيس مسعود بزشكيان لتعزيز ترتيب سياسى محتمل مع الولايات المتحدة بشأن القضية النووية.
وأضاف الباحث الإسرائيلى: إن آخر ما تريده إيران فى خضم الحملة الدبلوماسية الحالية هو الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، وأكثر من ذلك مع الولايات المتحدة.
وأشار الباحث الإسرائيلى إلى القيود والاعتبارات التى توجه السياسة الإيرانية التى قال إنها لم تتغير بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة.
وأضاف أنه منذ بداية الحرب فى غزة، كانت طهران تسعى للوصول إلى وقف لإطلاق النار يحافظ على قدرات حماس فى غزة ويصون القوة العسكرية لحزب الله فى لبنان. ومع استمرار الصراع، يبدو أن الاستراتيجية الإيرانية ترتكز على إنهاك إسرائيل عبر حرب متعددة الجبهات دون الحاجة إلى دفع ثمن باهظ من خلال التدخل المباشر.
وقال أيضًا: إن إيران تدرك أن أى تورط مباشر فى القتال سيؤدى إلى نتائج عكسية، حيث إن إسرائيل تحاول بالفعل جر إيران إلى مواجهة شاملة عبر استدراجها إلى ساحة المعركة.
وأشار الباحث إلى أن طهران تحرص على عدم الوقوع فى الفخ الذى تسعى إسرائيل إلى نصبه من خلال تصعيد الوضع فى غزة والشمال.
ويضيف الباحث الإسرائيلى: إن إيران قد تلجأ إلى الضغط على إسرائيل من خلال استخدام القوات المسلحة التى تدعمها فى العراق وسوريا واليمن لتعزيز الجبهات المتعددة ضد إسرائيل، وذلك دون الحاجة إلى تدخل عسكرى مباشر.
ولكنه يرى أن إيران قد تضطر لتغيير موقفها فى حال رأت استمرار تدهور قدرات حزب الله.
وفى المقابل، يطرح الباحث فرضية أخرى تقول إنه إذا تصاعد الصراع ليصل إلى حرب شاملة تشمل البنية التحتية الوطنية فى لبنان، فإنه من المرجح أن يزيد الضغط الدولى والمحلى لفرض وقف إطلاق النار على الجانبين. وفى مثل هذا السيناريو، من المحتمل أن تتجنب إيران التدخل العسكرى المباشر قبل الوصول إلى هذا المستوى من التصعيد.