حكى حكاياته من دفتر الفن ثم رحل: رسالة «عاطف بشاى» الأخيرة.. أنا قادم أيها الأصدقاء
هبة محمد على
فى مستشفى الحياة بمصر الجديدة، وبينما كان شبح الموت يحوم حول سريره، وقبل ساعات قليلة من دخوله فى غيبوبته الأخيرة، لوّح لى بيمينه التى أثقلتها الأنابيب، بعدما قالت له زوجته الوفية السيدة «مارى عزيز» (دى هبة يا عاطف قل لها مع السلامة).
كنت أعلم أنها النهاية، عدت إلى منزلي، وقررت قراءة كتابه الذى صدر قبل أيام من رحيله (حكاياتى من دفتر الفن)، فقد وعدته أن أقرأه بمجرد صدوره، ووعدنى بأن أحصل على توقيعه فى أول لقاء يجمعنى به، وكنت أريد أن أفى بوعدى له قبل أن يرحل، لكنى لم أستطع، فشعورى أن الدفتر سوف يغلق قريبًا كان سببًا فى أن يجعل دموعى تنهمر، مما حال بينى وبين القراءة.
حتى تحررت روحه من جسده، فتحررت أنا من قيدي، وشرعت فى قراءة الكتاب، ففاجأنى الإهداء الذى قرر الأستاذ أن يخصصه للفنان الراحل «محمود مرسى» فكتب: (إلى الذى حينما انقض طائر الموت واختطفه منا عاتبت التراب الذى يواريه لماذا لم يبق لنا المعلم حلو الشمائل من عفة وإباء وكبرياء وزهد وموهبة جبارة) ما هذا يا أستاذ عاطف؟ كيف تتحدث بلساننا وأنت فى عالمك الآخر؟ هذا الإهداء البليغ نعيده نحن إليك، فنحن أيضًا عاتبنا التراب الذى واراك، وتساءلنا نفس سؤالك: لماذا لم تبق لنا أيها المعلم حلو الشمائل؟
كان لـ «عاطف بشاى» قدرة عجيبة على ضخ الثقة داخل نفوس الموهوبين الذين يلتقيهم، فيشير إلى مواطن موهبتهم بأصابع خبير، ويمنحهم دروسًا مجانية فى تعاليم الحياة بكرم شديد، وتواضع بالغ، أما إذا أسعدك زمانك وقرر أن يقربك منه، فحتمًا ستنهل من فيض خبراته، فضلًا عن أنك ستقضى وقتًا ممتعًا مع حكاء من طراز رفيع قلما يجود الزمان بمثله، ومن المؤكد أن المقاعد الخشبية داخل مقهى شانتيه بالكوربة والذى كان يستقبل عليها أصدقاءه خير شاهد على ضحكات وذكريات تعيش فى النفوس حتى وإن رحل راويها، كما ستشهد أيضًا على خيبات وإحباطات لم يقابلها «عاطف بشاى» سوى بسخرية وتهكم لا يزيدانه إلا ترفعًا، ومحبةً للجميع، وسلامًا نفسيًا نجح فى أن يحافظ عليه حتى رحل.
الحديث يطول عن إنسانية «عاطف بشاى» وإخلاصه الشديد لقلمه الذى أبى أن يتركه حتى داهمته الوعكة الصحية الأخيرة، والحديث يطول أيضًا عن حبه لزوجته، وشريكة عمره التى لم تفارقه لحظة، وفى أى مهرجان أو حدث فني، أو تكريم حضره الراحل كانت السيدة «مارى عزيز» ترافقه بسعادة تفوق سعادته هو شخصيًا، وكيف لا وهى رفيقته، وأم ابنتيه، والقارئة الأولى لكل كتاباته، والمخلصة فى زمن شح فيه الإخلاص، وقد شاهدتها فى المستشفى تقبل قدميه وترجوه ألا يرحل، وألا يتركها تصارع الحياة وحدها.
وإذ كنا نرغب فى الاستطراد فى الحديث عن نبل «عاطف بشاى» فمن حقه علينا أن نشير إلى أعماله الخالدة، التى تبعث البهجة فى النفوس، فالرجل كان يتميز بقدرة مذهلة على تحويل القصص الأدبية إلى أعمال مرئية ببناء درامى يختلف عن السياق المكتوب به القصة مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكري، ليصل بالسيناريو إلى مرحلة الخلق الإبداعى المتكامل رغم كونه مأخوذًا عن عمل أدبي، وهو منهج اتبعه «عاطف بشاى» منذ بداياته، فقد بدأ رحلته الإبداعية بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى (تحقيق) المأخوذ عن قصة قصيرة بنفس الاسم لأديب نوبل «نجيب محفوظ»، وبينما كان ما زال اسمًا مجهولًا فى عالم الكتابة الدرامية، ذهب ليلتقى بـ«محفوظ» فى مقهى ريش حيث كان يطالع الصحف فى انهماك وتركيز، وحينما انقض عليه متلهفًا يعرفه بنفسه، قال له «محفوظ» فى حسم (لكنى أقرأ الجرائد الآن)، فانسحب «بشاى» فى حرج بالغ، وجلس إلى منضدة قريبة فى توتر وترقب، وبعد أن طوى «محفوظ» آخر جريدة كان يقرأها، استقبله بمودة وبشاشة تتناقض مع زجره السابق، واستمع بإنصات إلى معالجته الدرامية للقصة، ووافق عليها بترحاب، وحينما عُرض الفيلم على شاشة التليفزيون سأل الناقد «أحمد صالح» الأستاذ «نجيب محفوظ» عن رأيه ملمحًا له بأن «عاطف بشاى» قد غير كثيرًا فى أحداث القصة، ورسم الشخصيات، والنهاية فأجاب «محفوظ»: حسنًا ما فعل فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية لى هى (شهر العسل) بنفس طريقة الحكى والبناء فأغلق الناس التليفزيون.
وبالطبع ليس كل الأدباء تقبلوا عملية الخلق الدرامى تلك بصدر رحب، لكن إدراك «عاطف بشاى» بالفروق الجوهرية بين لغة الأدب وبين اللغة المرئية، وإيمانه بأن السيناريو فن قائم بذاته، وأن كاتبه ليس مجرد ناقل، أو محاك للراوية جعله يصر على موقفه، ويصطدم أحيانًا من أجل أن يثبت صحة رؤيته، مثلما حدث مع الكاتب المسرحى الكبير «نعمان عاشور» الذى قرر تحويل مسرحيته الشهيرة (المغماطيس) إلى مسلسل تليفزيوني، وغير فى النهاية التى كتبها «عاشور» للمسرحية، لعدم اقتناعه بها، وبعد انتهائه من كتابة الحلقة الأخيرة ذهب إلى منزل الكاتب الكبير بصحبة مخرج المسلسل «إبراهيم الشقنقيرى» ليقنعاه بحتمية تأليف نهاية أخرى للعمل، لكن «نعمان عاشور» انفجر فى ثورة عارمة، رافضًا المساس بالنهاية، وأمام إصرار «عاطف بشاى» على موقفه، قرر المخرج أن يجد حلًا وسطًا بأن يكتب «بشاى» نهايتين، إحداهما كما أرادها، والأخرى كما جاءت فى المسرحية، ويتم النقاش حولهما، وإقرار أيهما الأنسب، وبمجرد أن قرأ «نعمان عاشور» النهايتين اعترف بشجاعة أدبية بأفضلية النهاية التى كتبها «عاطف بشاى».
وكما ارتبط «عاطف بشاى» بعلاقة قوية مع الأدباء والمخرجين الذين ينتمون إلى العصر الذهبى للإبداع، والذى كان يجالسهم وهو لا يزال فى أوائل العشرينيات من عمره أمثال «يوسف إدريس، ومحمود السعدني، وصلاح أبو سيف، وسعيد مرزوق» ارتبط أيضًا بعلاقة إنسانية شديدة الخصوصية مع الفنانين الذين لعبوا بطولات أعماله، فلم يضبط متلبسًا بالحديث عنهم بأى سوء، ودائمًا ما كان يمدح عبقريتهم، وتفردهم فى الأداء، وتقديرهم لقيمة الكلمة المكتوبة، والحقيقة أن من يقتنى نسخة من كتابه الأخير (حكاياتى من دفتر الفن) سيدرك أنه ليس مجرد كتاب خطه فى أيامه الأخيرة ليكون شاهدًا على العصر قبل أن يغادر بلا عودة، لكنه بمثابة هدايا أرسلها لأصدقائه من الفنانين والمبدعين الذين سبقوه إلى السماء ليلوح لهم كما لوح لى فى اللقاء الأخير، وليبلغهم بأنه قادم إليهم، حتى يسعدوا، ويستعدوا لحفلات السمر والمؤانسة، وكان من بين الهدايا التى أرسلها لأصدقائه، رسالته إلى «فريد شوقى» الذى استرجع فى كتابه أيامه الجميلة معه وحكى فيه عن ساعات ساحرة قضاها بصحبته فى فيلته بالمهندسين مشدودًا إلى حديثه الشائق والمثير، حيث وصفه بأنه كان يحمل قلبًا وادعًا لا يعرف الكراهية، ولا يضمر ضغينة، كما كتب عن الأستاذ «محمود مرسى» الذى اقترب منه حينما كان طالبًا بالمعهد العالى للسينما، خاصة أن محاضرات «محمود مرسى» كانت تتحول عادة إلى ندوات مفتوحة، يتكالب الحضور عليها من كل حدب وصوب لدرجة جلوس الطلبة متكدسين على الأرض، وعندما انتهى «عاطف بشاى» من سيناريو مسلسل (وهج الصيف) عن قصة لـ «أسامة أنور عكاشة» وافق العظيم «محمود مرسى» على لعب دور البطولة فى المسلسل بعد أكثر من عشرين عامًا على علاقتهما، وكانت كواليس المسلسل غاية فى الإمتاع، لكن وبكل أسف انقض طائر الموت، واختطف «مرسى» أثناء التصوير، دون أن تكتمل التجربة، ودون أن يتحقق حلم «عاطف بشاى» الذى انتظره عشرين عامًا، والحقيقة أن الكتاب مليء بالحكايات التى تركها لنا «عاطف بشاى» لنأنس بها فى غيابه، ومليء بالهدايا والرسائل التى تحمل مضمونًا واحدًا (أنا قادم أيها الأصدقاء فانتظرونى)، أأمل أن تكون الآن سعيدًا يا أستاذى مع أصدقائك.