الصحـافة والثـورة ذكريات ومذكرات - 2
موســى صبـرى «السادات.. المعارضة.. الغضب»!!
رشاد كامل
كانت العلاقة بين ثورة 23 يوليو 1952 وبين نجوم الكتابة الصحفية والأدبية، علاقة وثيقة منذ اللحظات الأولى للثورة. اندفع أصحاب القلم لدعم الثورة التى نادوا بها وبشروا بها لإنقاذ البلاد، وتمازج قادة الثورة معهم وأمدوهم بالأخبار والرؤى والانفرادات التى سعوا أن تصل للجماهير، ولكن سرعان ما اختلفت المسارات بين فكر الثورة وأقلام صحافتها.. ولكل منهم وجهة نظره. من هنا تأتى أهمية هذه الشهادات التى دونها الأستاذ «رشاد كامل» مع رموز القلم الصحفى فى حقبتى الخمسينيات والستينيات، فى محاولة لفهم العلاقة بين السياسة والصحافة.
هذه الحوارات هى حصيلة هذا الكتاب الذى يشرح سر العلاقة الغاضبة بين الصحافة والثورة.
لا يحتاج «موسى صبرى» إلى تعريف أو تقديم!
منذ سنوات طويلة وموسى صبرى يشغل دنيا الصحافة والسياسة بمقالاته ومعاركه التى لا تنتهى!
فى عصر عبدالناصر أصبح موسى صبرى رئيسًا للتحرير وحدث نفس الشىء فى عصر السادات!
وفى الوقت الذى تفرق فيه الأصدقاء والمنتفعون من حول السادات بعد رحيله ظل موسى صبرى على نفس الدرجة من الحب الشديد والدفاع الأشد عن السادات: الرجل والمواقف!
قلت: فجأة صار هيكل مسئولا عن أخبار اليوم بجانب الأهرام، ماذا كان موقفك، وكيف تعاملت فى تلك الفترة؟
- قال الأستاذ موسى صبرى: أصدر جمال عبدالناصر قرارًا بأن يتولى خالد محيى الدين رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم، وتحولت أخبار اليوم فى عهده إلى مؤسسة شيوعية، وقام خالد بتعيين عدد كبير من الشيوعيين فی أخبار اليوم، فأنشأوا مكتبًا سياسيًا للجريدة يصدر القرارات ويتابع تنفيذها! وكان خالد محيى الدين مقتنعا ومتأكدا أنه لن يخرج من أخبار اليوم حتى علم مصطفى أمين بأن عبدالناصر سيقيل خالد محيى الدين، وفى أحد الاجتماعات التحريرية قال مصطفى أمين: إن خالد محيى الدين لن يبقى فى أخبار اليوم! وفى نفس الوقت كتب خالد بيانًا وزعه الماركسيون فی أخبار اليوم وعلقوه فى كل الأدوار وفى الأسانسير وعلى الجدران: «أن خالد محيى الدين باق فى منصبه بأخبار اليوم وكل ما يقال لا يعدو أن يكون شائعات كاذبة ومغرضة»، رغم أن عبدالناصر قرر إخراج خالد فعلا من أخبار اليوم.
كنت أتناول رئاسة تحرير الأخبار مع حسين فهمى، يتولى حسين رئاسة التحرير ثلاثة أيام، وأتولاها أنا ثلاثة أيام، وكنا نعقد معا اجتماعات مجلس التحرير فى الصباح يوميًا، وذات يوم وبينما كنت أنا وحسين نرأس اجتماع مجلس التحرير وكانت الساعة حوالى التاسعة والنصف صباحا، دخل سكرتير خالد محيى الدين مهرولًا إلى صالة الاجتماع وقال: الأستاذ خالد يطلبكم للحضور فورًا إلى مكتبه، وأذكر أننى طلبت من حسين فهمى أن يذهب أولًا للقاء خالد محيى الدين على أن أذهب أنا بعد الانتهاء من الاجتماع، فقال لى السكرتير: الأستاذ خالد عاوزكم أنتم الاثنين مع بعض!
أنهينا الاجتماع وصعدنا إلى غرفة خالد محيى الدين، وجدنا عنده «هيكل» صافحت هيكل ببرود شديد للغاية، كان التعب باديًا على ملامح وجه خالد، وفجأة، قال هيكل لنا: الأستاذ خالد رأى أن يستقيل من أخبار اليوم!
فوجئت بكلام هيكل، الذى أكمل بسرعة: والريس جمال عبدالناصر كلفنى برئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم..
رحب حسين فهمى على سبيل الذوق بهيكل وقال له: أهلا وسهلاً.. أما أنا فلم أنطق بحرف واحد وبان على وجهى ملامح القرف الشديد!
فقال هيكل بسرعة: أنا شايف أن موسى مش مرحب باللى قلته؟
فأجبت قائلا: الحقيقة آه.. يعنى عايزنى أكدب عليك.. بقى ده معقول طب نشتغل إزاي؟!
ثم قال هيكل لخالد: تسمح لى أقعد شوية مع موسى وحسين؟
ثم دخلنا فى غرفة مجاورة لمكتب خالد محيى الدين، وأخذ خالد محيى الدين يطيب خاطرى قائلا: ولا يهمك يا موسى، أنت راجل بتشتغل بكفاءتك الصحفية.. ولا يهمك!
ولما جلسنا قلت لهيكل: ببساطة أنا مش ها أقدر أشتغل معاك!
سألني: ليه يا موسى؟ قلت: مش معقول.. طيب تيجى إزاى يعني؟
إزاى تبقى أنت رئيس تحرير الأهرام ورئيس الأخبار؟.. والأهرام والأخبار «جريدتين متنافستين».. وإحنا توزيعنا أكثر من الأهرام، ثم إن مش معقول إن الخبر يمنع نشره فى الأخبار كى ينشر عندك فى الأهرام.
وبهدوء شديد أنهى هيكل الحوار بسطر واحد: إحنا لازم نقعد قعدة تانية مع بعض.
وفعلاً ذهبت إلى مكتب هيكل وكان فى مبنى الأهرام القديم، وقال لى هيكل فى اجتماعه بي: إحنا ماجربناش صداقة العمل.. هه! يمكن حصل بينا سوء تفاهم! هه اسمع.. جرب صداقتى فى العمل... هه.. إيه رأيك؟
ولن أتدخل فى الأخبار... وليس لى أى علاقة بما تنشره الأخبار! وأتعهد لك أن أى خبر تنفرد الأخبار بنشره سأجعل الرقابة توافق عليه.. وإذا كان لى ملاحظات على ما نشر.. سأقولها لك بعد صدور الجريدة فعلاً.
دام الاجتماع مع هيكل ساعتين، ووافقت على ما قاله.. والتزم هيكل بكل ما قاله لى لفترة، ثم بدأت المتاعب، كان أخطر هذه المتاعب مثلا عندما انتحر المشير عبدالحكيم عامر بعد نكسة 5 يونيو 1967 بأسابيع قليلة. كان المشير قد انتحر فى سبتمبر 1967، وبالصدفة عرفت قصة هذا الانتحار وتفاصيل ما جرى فى بيت المشير، أقول عرفت هذه المعلومات من شقيق جمال عبدالناصر المرحوم عز العرب عبدالناصر وهو رجل فاضل جدًا، وكان صديقى جداً، وكتبت كل ما حصلت عليه من معلومات فى تحقيق صحفى لينشر فى الأخبار.. وكانت هناك تعليمات من الرقابة بألا ينشر شيء عن هذا الموضوع، فلم ينشر الموضوع الذى كتبته.
فى اليوم التالى كانت المفاجأة.. صدرت الأهرام وبها التفاصيل الكاملة لانتحار عبدالحكيم عامر، وصدرت الأخبار والجمهورية ليس بهما سطر واحد عما حدث! بالطبع كانت القصة والتفاصيل التى نشرتها الأهرام أوفى بكثير مما كتبته فى موضوعي، المهم حصل هياج وثورة بين المحررين فى الأخبار، وأحسوا بأن كلام هيكل لنا عن عدم التدخل فيما تنشره الأخبار غير صحيح! وأصر المحررون على الاجتماع بهيكل ليبلغوه استياءهم الشديد.. فى البداية رفض هيكل أن يجتمع بالمحررين، ثم قال لي: أنا موافق اجتمع بالمحررين بس أنت ماتحضرش! ثم عاد هيكل فقال: احضرالاجتماع معنا بس ما تتكلمش!
كانت فكرة هيكل أنه يستطيع فى اجتماعه بالمحررين أن يأكلهم بمنطقه فى الحوار والمناقشة، ولكن ما حدث أن المحررين احتجوا عليه بشدة فى لقائه بهم، وقال لهم هيكل: إذا كنت صحفيا لدى وسيلة الاتصال برئيس الجمهورية فهذه ميزة! فرد عليه الصحفيون: ولكن ليس معنى هذا أن تحجب الأخبار عن الجرائد الأخرى!
كانت هذه الواقعة هى بداية الخلاف الأساسى فى التعامل مع هيكل وبعد ذلك عندما أصدر النائب العام وقتها محمد عبدالسلام قراره فى التحقيق فى انتحار المشير عامر وكان قد كتبه فى حوالى 41 صفحة بعنوان «قرار فى حادث وفاة السيد المشير عبدالحكيم عامر»، فإن هذه التقرير الذى نشرته الصحف وقتها «الأهرام، والأخبار، والجمهورية» لم ينشر كاملا على القراء، فالذى حدث أن السيد «محمد فائق» وزير الإعلام فى ذلك الوقت استدعى المسئولين فى هذه الصحف وأخرج من درج مكتبه ثلاثة أقلام سوداء وسلم كل واحد قلماً منها، كى يشطبوا الفقرات غير المسموح بنشرها على الناس، وجرى الشطب أمامه حتى لا تفلت كلمة واحدة إلى الصحافة.
وتردد وقتها أن جمال عبدالناصر أمر بعرض تقرير النائب العام على محمد حسنين هيكل، وهو الذى حدد الفقرات التى يجب حذفها، وتولى وزير الإعلام تنفيذها مع مسئولى الصحف الثلاث.
بعد ذلك بفترة كانت محكمة الثورة قد بدأت النظر فى قضية المؤامرة، وكان من بين المتهمين الرئيسيين فيها شمس بدران وزير الحربية السابق، وصلاح نصر مدير المخابرات، وعباس رضوان.
كان السيد حسين الشافعى رئيس المحكمة التى حققت فى قضية المؤامرة، وقد تابعت كل تفصيلاتها وجلساتها.. كان ما سمعته داخل المحكمة يفوق الخيال، قال شمس بدران وقتها أنه استنتج أن عبدالناصر وعبدالحكيم اتفقا على التنحى معًا، وأن زكريا محيى الدين هو الذى سيصبح رئيسًا للجمهورية، وأن عبدالناصر رشحه شخصيًا لرئاسة الجمهورية ولكنه قال: لسه صغير بينما زكريا عنده خبرة.
المهم أننى كتبت مقالاً كان عنوانه «الفصل الحزين» أودعته كل ما سمعته ورأيته وكتبت فى نهايته: «ياللهول! يا لبشاعة المأساة! أية حقائق سوداء تعرض أمامنا من بطون الأيام السوداء! إننى لا أزال أكرر، قلبى حزين.. حزين».
وكان حسين الشافعى رئيس المحكمة يقول: من حق الشعب أن يعرف الحقائق، ويؤكد أن الصحافة حرة تنشر ما تشاء، وأنه لا رقابة على الصحف! فى نفس الوقت اتبعت الرقابة أسلوبًا لا مثيل له، كان هناك ثلاثة رقباء يتابعون ويراقبون كل ما يكتب عن هذه القضية، وكان يرسل نسخة من كل مقال أو موضوع إلى كل رقيب على حدة، فيقرأها ويشطب منها ما يشطبه، ثم يجتمع الثلاثة معاً يناقشون ويتفقون على المشطوب، فى نفس الوقت كان يوجد مندوب من المخابرات الحربية يقيم فى غرفة مجاورة لقاعة المحكمة، يسمع كل همسة ويسجل كل حرف ثم بعدها يحدد مع النائب العام ما ينشر وما يحذف.
ونُشر المقال.. أما سبب إجازته من الرقابة فهو أنه تضمن تعليقًا على الجلسة ولم يكن تسجيلا لكل ما دار بها، المهم بعد ذلك بأيام قليلة كان عبدالناصر قد التقى بوفد الصحفيين العرب الذى كان فى زيارة للقاهرة وألقى خطابا أكد فيه أنه مع كل قرار اتخذه الصحفيون العرب بشأن حرية الصحافة وحماية الصحفى من الفصل، ولكن حرية الصحافة لا تعنى أبدًا أن تحول إحدى الصحف الصباحية قضية المؤامرة إلى قضية فساد سياسى أو فساد حكم.
بمجرد سماعى لخطاب عبدالناصر توقعت قرار فصلى بين لحظة وأخرى.. فى ذلك الوقت كان هيكل لا يزال على رأس مؤسسة أخبار اليوم.. وصدر القرار بإبعادى عن الصحافة.. وأذكر أننى تحدثت مع هيكل بشأن هذا القرار فنفى لى الحكاية كلها وقال: غير صحيح أنك فصلت. بل الصحيح أن الذى سيترك أخبار اليوم هو أنا وسيتولاها بدلا منى محمود أمين العالم.
وفيما بعد علمت من الأستاذ جلال الحمامصى أن هيكل أبلغه أن قرار الفصل تم تأجيله فقط، ولكنه سيصدر بعد أن يترك هيكل أخبار اليوم ويتولى محمود أمين العالم المنصب! وعندما سألت هيكل من صاحب اقتراح فصلي؟
أجابني: على صبرى، ولما سألت على صبرى فاجأنى ترحيبه الشديد بى وأيضا إجابته عن سؤالى عندما قال: كل ما يجرى فى الصحافة مسئول عنه هيكل، وكيف أفصلك وأنا الذى طلبت من شعراوى جمعة أن يبلغ محمود أمين العالم بعدم تغيير أحد فى قيادات أخبار اليوم؟! وأؤكد لك أن محمود أمين العالم لن يتخذ ضدك أى إجراء.. وبعد عدة أسابيع صدر القرار بتوقيع على صبرى بنقلى إلى الجمهورية، وأبلغنى محمود أمين العالم بهذا القرار.. ولم يوضح القرار طبيعة عملى الجديد فى الجمهورية.. ساعي.. بواب.. مش عارف بالضبط.
فى ذلك الوقت كان الصديق فتحى غانم هو رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير الجمهورية، وكان موقفه تجاهى أخلاقيا جدا ومشرفًا جدًا، وسمح لى بالكتابة يومياً بدون توقيع عن الأزياء والموضة والتجميل، أوقع بإمضاء «آدم وحواء» رسائل بين زوج وزوجته عن السعادة الزوجية.. وطلبت من فتحى غانم أن أسافر فى رحلة صحفية خارج مصر، ووافق ببساطة على ذلك، ثم تبقت موافقة وزير الداخلية وقتها شعراوى جمعة؛ لأن اسمى كان مدرجًا ضمن قوائم الممنوعين من السفر. ووافق شعراوى جمعة على سفرى - بعد توسط صديقى المستشار عبدالحميد يونس - إلى الاتحاد السوفيتى والهند واليابان وماليزيا وبولندا وألمانيا.
عدت من رحلتى التى استغرقت حوالى ستين يومًا، وفى ذلك الوقت أصدر عبدالناصر قرارًا بأن يتولى هو نفسه مسئولية الإشراف على الأهرام والسادات يشرف على صحف أخبار اليوم، ويشرف على صبرى على صحف ومجلات دار التحرير ودار الهلال وروزاليوسف.
حتى ذلك الوقت كان اسمى ممنوعًا من الظهور على أى مقال أو شيء أكتبه. وأردت أن أعرف ماذا تم فى أمري، وحقيقة وضعى الجديد فى الجمهورية، وطلبنى على صبرى فى مكتبه وقال لي: أريد منك أن تجعل من الجمهورية جريدة ناجحة، ولك مطلق الحرية فى الاستعانة بمن تشاء من المحررين أو الصحفيين! واعتذرت للرجل فقال لي: على أى حال فكر فى الأمر.
وعلمت من عز العرب عبدالناصر شقيق الرئيس أنه قال لعلى صبري: إذا أردت إصلاح حال الجمهورية فخذ موسى صبرى وعينه رئيس تحرير وأعط له كل السلطات!
وقابلت السادات وطلبت منه العودة إلى بيتى الطبيعى الأخبار، فقال لي: ولكن من رأى عبدالناصر أن تبقى فى الجمهورية! أما بالنسبة لمسألة عودتك لأخبار اليوم فاتركها الآن؛ لأنها ستتحقق ولكن ليس الآن.
وقال لى فتحى غانم: بقاؤك فى الجمهورية مسألة غير قابلة للمناقشة واستمر عملى فى الجمهورية لفترة مع فتحى غانم، وأذكر بالمناسبة حينما رويت موقفه المشرف معى للسادات فيما بعد علق السادات قائلا: جدع فتحى راجل.. برافو عليه.. أنا أحب تصرفات الرجالة اللى زيه!
قلت: وكيف عدت إلى أخبار اليوم؟
قال: ذات مساء وبعد أن انتهيت من عملى فى جريدة الجمهورية توجهت إلى بيتى وفى منتصف الليل تقريبا أويت إلى فراشى متعبًا مكدودًا، وفجأة شرخ سكون الليل صوت دقات التليفون، وبكسل شديد رفعت السماعة وأنا أسأل: من الذى يطلبنى فى مثل هذه الساعة المتأخرة؟! وجاء الصوت من الناحية الأخرى: مساء الخير يا موسى!
فقلت: من؟ رد: أنا أنور يا أخى! أنت بتعمل إيه؟ فقلت: كنت لسه هانام. فقال: طيب ألبس وتعال على طول! قلت: فى البيت؟! فقال:
أنا موجود فى مكتبى هنا بأخبار اليوم!
ارتديت ملابسى بسرعة، وذهبت إلى أخبار اليوم وصعدت إلى مكتب السادات فى الطابق العاشر، ودخلت وصافحته وكان عنده قاسم فرحات العضو المنتدب، كان السادات جالسًا خلف المكتب وشكله حزين جدا، وقاسم فرحات ينظر تجاه أرض الغرفة، صافحنى السادات وهو واجم وحزين وقال: اقعد يا موسى! وجلست، وعلى ما أذكر طلب لنا نحن الثلاثة قهوة، ثم قال بنبرات حزينة: معلهش يا موسى.. اصبر شوية.. شد حيلك!
فى الحقيقة كنت مندهشًا من كل ما يحدث ولا أعرف ما هى الحكاية بالضبط، إلى أن قال لى السادات: معلهش يا موسى.. الريس عبدالناصر رفض إنك ترجع لأخبار اليوم، وأعتقد إنك لازم تتحمل الموقف شوية، وكلها كام شهر وهحاول تانى مع الريس يمكن يوافق على رجوعك!
وجدتنى أقول للسادات: أنا أشكرك من كل قلبي، أنت هتعمل إيه أكثر من كده؟!
ثم استأذن السادات منا ودخل دورة المياه الملحقة بغرفة مكتبه، وغاب لدقائق، ثم خرج من دورة المياه متهللاً ومبسوطًا ومنشرحًا، وفوجئت به يأخذنى بالأحضان قائلاًك أهلا بيك فى بيتك يا موسى! ثم قام السادات وطلب منى أن أشتغل الطبعة الثانية من الأخبار، ها.. ها.. يعنى السادات أخرج بنفسه حكاية رجوعى للأخبار.
قلت: هل كانت صدقة تاريخية - ولا أقول سياسية - أن يتوافق صدور قرار الرئيس السادات بالإفراج عن مصطفى أمين فى 26 يناير 1974 وتنحية هيكل عن الأهرام بعدها بخمسة أيام فى 31 يناير - بقرار أيضا؟!
ثم أكملت السؤال:
رواية هيكل ترى أن ما حدث كان جزءًا من صفقة أو كما كتب بالحرف الواحد فى كتاب «بين الصحافة والسياسة» إذ قال له السادات: ولماذا لا أجامل الأمريكان فيه؟ و.. من الأفضل الإفراج عن مصطفى أمين ضمن هذه الصفقة حتى لا يتجاسر يومًا ويفتح فمه.. فماذا تقول شهادة موسى صبرى؟
ما قاله هيكل فى كتابه كذب، وما حدث بالضبط أنه فى أوائل حكم الرئيس السادات، انتهزت فرصة زيارتى له فى استراحة القناطر وتحدثت معه فى مسألة الإفراج عن مصطفى أمين! وقال لى السادات يومها بالحرف الواحد: مصطفى أمين له وضع سياسي.
وبعد فترة قلت للسادات أيضًا أن مصطفى يعانى صحيًا، وأن حالته الصحية تتدهور يومًا بعد يوم؛ فقال لي: بالنسبة للحالات الإنسانية فأنا لا أتردد تجاهها، ولا مانع أن ينتقل مصطفى إلى المستشفى. وأبلغ السادات ذلك للسيد ممدوح سالم - كان وقتها وزيرًا للداخلية - كانت المفاجأة أن ينقل مصطفى إلى مستشفى السجن، بينما كانت نيتنا أن ينقل إلى مستشفى خارجى كقصر العينى مثلا، ولكن السادات لم يوافق على ذلك الطلب! وازدادت صحته سوءا وتدهورًا، وعندما عرف الرئيس من غيرى الحالة التى أصبح عليها مصطفى وافق على نقله إلى مستشفى قصر العيني!.. بعد ذلك بفترة كانت السيدة «أمين السعيد» فى زيارة للعاصمة لندن وأعطاها المرحوم على أمين رسالة مكتوبة وطلب منها توصيلها إلى الرئيس السادات، وعندما عادت السيدة أمينة السعيد للقاهرة سلمت رسالة على أمين للسادات، ولم يكن يطلب فيها سوى أن يسمح له بالحضور إلى القاهرة ورؤية أخيه مصطفى.. ووافق السادات.
وكانت حرب أكتوبر 1973 قد قامت وانتصرنا فيها، وفى ذلك الوقت استقر على أمين فى بيروت فأرسل رسالة أخرى للسادات يطلب فيها السماح بالحضور لرؤية أخيه الذى يرقد مريضا فى مستشفى قصر العيني، وذهب إلى إلى سفارة مصر فى بيروت وطلب من المسئولين بها أن يرسلوا برغبته إلى المسئولين فى مصر أنه سوف يحضر؛ حتى لا يفاجأ عند حضوره بالقبض عليه! والحقيقة أن هيكل هو الذى أفهمه وأقنعه أنه إذا حضر إلى القاهرة فسيقبض عليه فى المطار! وردت السفارة المصرية قائلة لعلى أمين: إن الرئيس السادات لا يمنع مواطنًا مصريًا فى الخارج من العودة إلى مصر.. وعاد على أمين إلى القاهرة.
وزار على أمين الأستاذ «محمود أبووافية» عديل الرئىيس السادات، وحدثه فى شأن الإفراج عن أخيه وقال له ما معناه: إن العمر مابقاش فاضل فيه حاجة، وكانت هذه الكلمات هى التى ينقلها أبووافية للسادات باستمرار.
وكان منتهى أملنا أن يتم فقط الإفراج عن مصطفى الذى تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، وكانت الصحافة أو عودة مصطفى للكتابة أمرًا غير مطروح بالمرة!
وذات يوم وفى حفل إحدى بنات الرئيس السادات - أظن كانت لبنى - دعا السادات معظم رؤساء التحرير والصحفيين لحضور الحفل، واتفق معنا محمود أبووافية على أننا ننتهز فرصة الفرح ونكلم السادات فى حكاية مصطفى أمين، وطوال ساعات الفرح لم نجد فرصة واحدة عشان نكلم السادات (زحمة وزيطة وناس مالهاش عدد) وأذكر أننى قلت لمحمود أبووافية: خلاص مفيش فايدة! فقال لي: لا.. إحنا هنستنى لما الدنيا تروق شوية والمعازيم تمشى!
وأخيرًا فى حوالى الساعة الخامسة فجرًا كان المدعون والمعازيم انصرفوا، ولم يبق سوى السادات والسيدة جيهان وبناتهما وأقاربهما والتففنا حول الرئيس السادات وحرمه: محمود أبووافية، أحمد رجب وحرمه، على حمدى الجمال، محسن محمد، أنا ومراتي، وانضم إلى شلتنا الفنان عبدالحليم حافظ، وقلنا له: إن مصطفى حالته خطيرة وعنده تصلب فى الشرايين وضغط وسكر.. و.. وبيموت فى قصر العينى وقال أحمد رجب للسادات: إذا كان ولا بد من سجن مظلوم فاسجنى بدلا من مصطفى! وتكلم محسن محمد وعلى الجمال وحليم وأبووافية وقالت السيدة جيهان لزوجها: دى ليلة سعيدة فى حياتك وخلاص بقى يا ريس، ده اللى بيطلب منك الطلب ده رجالتك، وحرام الاستمرار فى سجنه! ولم ينطق السادات بحرف واحد.. لم يبد أنه استمع لكلمة مما قلناه.. وانصرفنا بعدها دون أن نعرف لماذا لم يتكلم.
ذهبت إلى مكتبى فى الأخبار وأنا مندهش لموقف السادات بالأمس، وانشغلت بالعمل اليومى فى الجريدة ومتابعة تفاصيله، وحوالى الساعة الواحدة ظهرا دق جرس التليفون وقيل لي: السادات على الخط، فبادرته قائلا: صباح الخير يا ريس. فرد ببشاشة: صباح النور يا موسى! فين على أمين دلوقتي؟! قلت: إذا مكنش موجود فى شقته فيكون عند مصطفى فى المستشفى!
وسكت السادات لثوان عاد عبدها ليقول لي: اتصل بيه وقل له مبروك يا علي! فقلت: خير ياريس فقال: أنا وقعت حالا قرار الإفراج عن مصطفى أمين وأمرت أنه يخرج النهارده من غير ما يستنى الإجراءات الروتينية!
فى تلك اللحظة من الزمن فقدت وعيى ووجدت نفسى أصرخ فى التليفون: صحيح يا ريس.. معقول يا ريس!
ودعوت للسادات.. وانتهت المكالمة ووجدت نفسى أترك المكتب وأجرى مهرولاً وأركب سيارتى الصغيرة وأطير بها إلى مصطفى أمين فى المستشفى، كانت الدنيا مطرًا يومها، والمرور مختقنًا، وأخيرًا وصلت المستشفى ودخلت حجرة مصطفى، الذى كان يرقد فوق سرير صغير، كان الذى أمامى بقايا إنسان.. وليس مصطفى أمين الذى أعرفه. قلت له: مبروك! فقال بلا مبالاة: على إيه؟! فقلت: صدر قرار بالإفراج عنك اليوم فقال ساخراً: لا.. أنا سمعت الكلام ده كتير قبل كده!
وقلت له: المرة دى لا! سألني: اشمعنى؟ فقلت: لأن الرئيس السادات هو الذى قال ذلك بنفسه قبل أن آتى عندك وقالها لى فى التليفون! ولمعت عينا مصطفى ببريق عجيب، وقال: صحيح يا موسى فأجبته صحيح! أمال فين علي؟ فقال: على دلوقتى فى مكتب جريدة الأنوار، وبعدها سيذهب إلى هيكل لتناول طعام الغداء معه بدعوة منه، فالحق هات على أمين واعتذر للأهرام بأى حاجة!
وفعلا ذهبت إلى مكتب دار الصياد وأبلغت على أمين بقرار السادات واتصلنا بالأهرام، ولم يكن هيكل قد وصل إلى مكتبه بعد.. وتركنا خبر اعتذار على أمين عن موعد الغداء مع هيكل.
وحتى هذه اللحظة لم يكن هيكل يعرف بقرار الإفراج، وخشى مصطفى أن ينتهز هيكل الفرصة ويدعى أنه السبب فى الإفراج، وأن يحتفل بهذه المناسبة مع على أمين فى الأهرام!
ولأول مرة ينشر خبر الإفراج عن مصطفى فى جريدة الأخبار قبل نشره فى الأهرام، وفوجئ هيكل بالخبر تماما، وكان فى غاية الحزن، وعاد فى اليوم التالى وكتب أنه إفراج صحي.
فى نفس اليوم الذى أفرج فيه عن مصطفى اتصل بى محمود أبو وافية وقال: يا ريت مصطفى يكتب كلمة شكر هو وعلى أمين.. كلم الريس فقلت: مقدرش أطلب منه أكتر من كده.
وتحدث أبووافية بنفسه مع السادات الذى وافق على نشر ما يكتبه مصطفى وعلى أمين. وذهبت إلى على أمين أطلب منه كتابة كلمة، وتركته وذهبت إلى مصطفى أمين فى المستشفى طالبا نفس الشيء، وقال لى مصطفى وهو يضحك: هنرجع نكتب تاني!
وأمسك مصطفى أمين بورقة وفلم وكتب فى دقيقتين كلمة كان عنوانها «عصر العبور» قال فيها:
«اليوم أعبر أول خطوة من خطوات الحرية، بعد أن عشت فى ظلام السجن حوالى تسع سنوات ولا أستطيع وأنا أخطو إلى الهواء الطلق خطواتى الأولى، إلا أن أذكر الرجل الذى فتح لى باب الحرية وفتح قبل ذلك أبواب الحرية أمام مئات المعتقلين، وأعاد العدالة لمئات القضاة، ووفر لقمة العيش للآلاف الذين وضعوا تحت الحراسة من وظائفهم، من حق هذا الرجل أن يطلق على عصره «عصر العبور»؛ عبور الجيش المصرى من الهزيمة إلى النصر، وعبور سمعة العرب من الهوان إلى الكرامة.. وعبور المظلومين من الظلم إلى العدل، وعبور الخائفين من القلق والرعب إلى الطمأنينة والأمان والاستقرار، وعبور المقيدين من الأغلال إلى حياة الأحرار».
وأخذت كلمة مصطفى وجريت إلى على أمين فى منزله لآخذ كلمته، كان على أمين قد مزق عشرات الأوراق دون أن يكتب حرفاً واحدًا، وفى النهاية كتب كلمة عنوانها «يارب» قال فى بعض سطورها:
«يارب لم يهتز إيمانى بك فى يوم من الأيام! كنت أعرف إنك لن تتخلى عنا؛ لأنك تنصر كل مظلوم، وكنت أحس السماء ستفتح لنا أبوابها غدًا، ولما لم تفتح أبوابها فى الغد انتظرنا بعد الغد.. لم أكفر بك، لم أتململ من الانتظار، انتظرنا دورنا فى الإنصاف، لم نحاول أن نختصر فترة الانتظار، لم نحاول أن ندفع الذين يقفون أمامنا حتى نحتل مكانهم صفوف الإنصاف الأولى. كنا نعرف أنور السادات منذ ثلاثين سنة، كما نعرف أن الرجل لن ينسى مظلومًا واحدًا، ثم جاء دورنا اليوم، وخرجنا إلى النور، عاد مصطفى أمين إلى بيته، وعدت إلى بلادي».