احتفظت بوحدة المضمون لأغانى الألبوم باستثناء أغنية واحدة: الـ «kama muta».. وسر نجاح (تيجى نسيب) لـ«أنغام»
محمد شميس
صدر الألبوم المنتظر للنجمة الكبيرة «أنغام»، كنت متحمسًا جدا لنزوله كى استمع إليه بكل شغف ولهفة، وكان هذا الشغف بسبب الكواليس التى كنت أستمع إليها من صناع التجربة، وأهمية هذا الألبوم، فكنت متشوقًا جداً للاستمتاع بها والتى كانت أجمل مما أتصور بكل صدق.
ولكن قبل الحديث عن تفاصيل هذا العمل، يجب أن نؤكد، أن هذا العمل جاء مخالفاً لكل التوقعات، بل عكس النظام المتبع فى طريقة إصدار الأعمال الغنائية الصيفية، لأن المتعارف عليه عن السوق الصيفية، أن الأغانى التى تصدر خلاله يجب أن تكون مبهجة، وإيقاعية، بل محرضة على الرقص والفرح والبهجة، لأن الصيف يتميز بارتفاع حرارة الجو، وهو ما يتسبب فى حبس الناس بالمنازل فى وقت ظهور الشمس، هرباً من لسعة شعاها فى الشوارع، وعندما يأتى الليل، يفر الجميع لترك المنازل بحثاً عن نسمة الهواء.
ولأن البشر اجتماعيين بطبيعتهم، فتكون هناك مشاركة فى تنفيذ هذه الأجواء، وتكون هناك تجمعات، والتجمعات تحتاج إلى موسيقى إيقاعية راقصة.
كذلك الصيف هو فصل الرحلات إلى السواحل البحرية، والأجواء البحرية تحتاج أيضا إلى الموسيقى الراقصة، والإيقاعية التى تعتمد على سرعات مرتفعة.
ولذلك سنجد أن أغلب الأغانى الصادرة فى هذا الفصل، كانت تتميز بما تحدثنا عنه فى السطور السابقة، مثل الأغنيتين الصادرتين لـ«عمرو دياب»، (تتحبى، الطعامة)، وكذلك آخر إصدار لـ«سميرة سعيد»، (زن)، وديو «تامر حسنى وبهاء سلطان»، (معلمين)، حتى فى أغانى الراب، مثل إصدار «مروان بابلو»، (الأربع)، فكل ما صدر فى فصل الصيف هذا العام كان وفقاً لهذه الاستراتيجية باستثناء ألبوم (روكسى) لـ«أمير عيد»، والذى تحدثنا عن تفاصيله من قبل، ومن بعده يأتى ألبوم «أنغام»، (تيجى نسيب).
استراتيجية «أنغام» فى ألبومها الأخير كانت ترتكز على نوعية الأغانى الدرامية، وهى من وجهة نظرى الأغانى «الأسهل» من حيث الصناعة، لأننا شعوب تعشق الشجن، ولديها مخزون كبير من المشاعر الحزينة، كما أن أوضاعنا الحالية مع الأسف الشديد أجبرتنا على تجرع كأس الخسارة، فمن منا لم يمر بتجربة عاطفية فاشلة لأسباب مختلفة؟! من منا لم تقهره الظروف رغماً عن إراداته؟! من منا لم يتمن أن يعيش حياة هادئة مستقرة ببعض الانتصارات الصغيرة؟! فجميعنا نتشارك فى مثل هذه المواقف، ولذلك مخزون المشاعر السلبية بداخلنا مرتفع للغاية.
وبعيداً حتى عن الغناء، لو انتقلنا إلى عالم التمثيل، سنجد أن تقريباً كل الممثلين بلا أى استثناء قادرون على أداء متميز فى المشاهد الحزينة، سواء على خشبة المسرح، أو على الشاشات، بل إن تقريباً كل ممثلين الكوميديا، عندما يقدمون بعض المشاهد الدرامية الحزينة داخل أعمالهم المبهجة، فإنهم يتفوقون على أنفسهم ويتفاعل معهم الجمهور، بفضل المخزون الداخلى لدينا الملىء بالمشاعر السلبية.
وفى عالم الغناء لدينا فنانين بنوا نجاحتهم الكبيرة استنادًا على هذه النوعية من الأغانى، مثل «مصطفى كامل»، التى كانت أعماله كـ «مغنى» هى الأكثر انتشارا فى وسائل المواصلات ويتفاعل معها العامة فى الشوارع، وكذلك «جورج وسوف»، وحتى أمير الغناء العربى «هانى شاكر»، فإن أنجح أغانيه فى كل مشواره الفنى كانت «حزينة».
كما أن صناعة الأغنية الدرامية تعطى للكاتب مساحة أوسع فى الابتكار والخيال، لأن مواضيعها متعددة، ويستطيع الكاتب استدعاء ما مر به من مواقف حياتية ربما يكون عاشها بنفسه، أو سمع عنها من اختلاطه بالآخرين، ومن ثم يقوم بتوظيفها فى أعماله، ولذلك تصبح المشاعر «الخاصة» بفرد ما، «عامة» أيضا لدى الكثيرين فى الوقت ذاته، وهذا سر تميز الأغانى الدرامية الحزينة.
أصدقائى القراء، ما زلت استكمل هذه المقدمة التى ربما طالت، ولكن أهميتها فى اعتقادى أهم من مناقشة العمل الغنائى نفسه، لأنها ربما تكون مفتاحاً لفهم الاحتياج البشرى لمثل هذه النوعية من الأعمال الفنية وليس ألبوم «أنغام» الأخير فقط، وتفسر لنا تفاعلاتنا التى نقوم بها ونحن لا ندرى.
فلماذا نعشق الحزن ونميل إليه بكل هذا الإخلاص!
>السر فى الـ«kama muta»، وهى كلمة سنسكريتية تعنى «التأثر بالحب»!
فى علوم النفس البشرية، سنجد هذا المصطلح، والذى يفسر الجانب الأهم فى ارتباطنا بمثل هذه النوعية من الأغانى الحزينة، ولماذا نشعر بالقشعريرة والدفء فى صدورنا وأحيانا وقوف شعر الجسد، عندما نستمع إلى قصة معينة تعطى لنا مشاعر سلبية، وتجعل عيوننا رطبة، على وشك البكاء، وأحيانا تجعلنا نضع أحدى اليدين أو كلتيهما فوق منتصف الصدر، مثلما نرى فى الحفلات الغنائية عند تأثر الجمهور بما يقدمه المغني!
شعور الـ«kama muta» هو الذى يجعلنا نتأثر بدرجة كبيرة تصل إلى الانتماء لما نستمع إليه من مأساوية وتراجيدية، لأنها تأخذنا إلى ألم ومعاناة الواقع وحزنه، هذا الشعور هو جسر التواصل بيننا وبين التجارب الحياتية الصعبة التى مر بها غيرنا، وربما نتشارك هذه التجارب، معنا فى بعض من محاورها، حتى وإن لم تكن القصة التى نستمع إليها بنفس التفاصيل التى عشناها فى قصصنا نحن.
فهو شعور يحفز مفهوم التفانى والرحمة المشتركة بيننا، خاصة عندما نكون معزولين ومستضعفين ومستبعدين ومحبطين.
ووفقا للبروفيسور «إيمرى شوبرت»، الذى قدم دراسة من مختبر علم الموسيقى التجريبى فى كلية الفنون والتصميم والهندسة المعمارية بجامعة نيو ساوث ويلز، والتى أجريت على 50 طالباً وطالبة يدرسون الموسيقى، فإن مشاعر الحزن الموجودة بداخلنا تعزز من استمتاعنا بالموسيقى!
وبناء على كل ذلك، فإن صناعة ألبوم غنائى كامل مكون من 12 أغنية «درامية»، «حزينة» كما فعلت «أنغام»، لا يعد مخاطرة على الإطلاق، ولا يعد حدثاً فنياً «ثوريا» حتى لو صدرت هذه الأغانى فى فصل الصيف الذى يعتمد على أجواء البهجة والمرح، بل إن ما فعلته «أنغام» فى (تيجى نسيب)، يعد تجسيداً لمقولة «اللعب فى المضمون»، لأن الأغانى الدرامية إذا صنعت بطريقة جيدة، فستحقق النجاح فى أى توقيت، وفى أى فصل!
ولكن هذا لا يعنى أن صناعة ألبوم مثل (تيجى نسيب) أمراً هيناً، بالعكس، بل إن صدور أى عمل غنائى فى هذه الفترة الصعبة التى تمر بها الصناعة، يعد إنجازاً عظيماً بغض النظر عن جودة المحتوى الفنى.
ولأننا تحدثناً عن جودة العمل الفنى، فالأيقونة «أنغام» قدمت ألبوماً غنائياً بمعناه الصحيح، فكما تحدثنا هنا فى أكثر من مقال، فإن فلسفة صناعة الألبومات العربية فى فئة الـ«pop»، تصدر على طريقة الـ«شريط كوكتيل»، مجرد تجميعة غير متناسقة موسيقياً أو من حيث المواضيع، تحت عنوان واحد، كمحاولة لإرضاء جميع الأذواق، فمن يبحث عن البهجة يجد، ومن يبحث عن الدراما سيجد أيضا، وهكذا.
أما فى (تيجى نسيب)، فهو صدر كـ «Concept album»، ورغم أن لا يوجد معايير فنية واضحة لتحقيق هذا الغرض، أو إجماع من النقاد الموسيقيين حول العالم على كيفية تنفيذه، ولكن السائد بين آراء المتخصصين فى مراجعة الأعمال الغنائية، هو أن الألبوم يجب أن يحمل رسالة بعينيها وأن يكون هناك ترابطاً موسيقياً فى التوزيعات والألحان المقدمة داخل كل أغنيات الألبوم.
«أنغام»، لها رسالة واضحة فى (تيجى نسيب)، فهى تسرد لنا مشاكل العلاقات العاطفية من وجهة نظر المرأة، وليس من وجهة نظر الرجل، فنحن نستمع إلى طرف نسائى يحكى لنا معاناته من الرجل الذى كان سبباً فى فشل مشروع الارتباط!
الألبوم يبدأ بـ(بقالك قلب) وكأنها تلقى اللوم على شريكها الذى كان سبباً فى فشل العلاقة، وأن الوقت قد مضى، ولن تسطيع إصلاح العلاقة بينهما، ثم فى (إنت مين)، تعبر عن مخاوفها من الدخول فى علاقة جديدة، برغم سعادتها بالأوقات التى تجمعها بالطرف الآخر، وفى أغنية (موافقة) تعبر «أنغام» عن انسحاق الأنثى أمام الرجل الذى كان يعانى من مشاكل نفسية وتسبب فى غياب الفرحة عنها، بل تسبب فى كسرة نفسها وإحساسها بالضياع.
وفى أغنية (إيه الأخبار) نشعر وكأن «أنغام» تعبر عن شكوك الأنثى المتعلقة بشخص ربما يكون مرتبطاً بأنثى أخرى، ورغم ذلك متمسكة بحبها له، حتى لو ضاعت سنين عمرها كما قالت: «أنا اللى مضيعة حياتها، بتسأل عن واحد فاتها»، ثم نتأكد من هذه الشكوك فى أغنية (خليك معاها)، وأن الطرف الآخر فى علاقة حقيقية «معلنة» مع شريكة مختلفة، بل إن هذه الشريكة هى الأهم بالنسبة له، وأنه من وقت لآخر يحاول الرجوع لها عندما يشعر بالملل من شريكته الرئيسية، ثم فى أغنية (اسكت) تتحدث «أنغام» بشعور الأنثى التى قررت الرحيل بعدما تأكدت أن كل سبل إصلاح العلاقة انتهت.
ثم تستكمل «أنغام» رحلتها فى (بقولك إيه) وهى تغنى بشعور الأنثى التى تعبر عن ندمها فى الدخول إلى علاقة محكوم عليها بالفشل، وتلقى باللوم على نفسها، وليس على أى أحد آخر، ثم فى أغنية (كان برىء)، تسترجع «أنغام» التغيرات التى حدثت فى شخصية الشريك وتحوله من البراءة إلى الندالة!
فى أغنية (القلوب أسرار)، تتحدث «أنغام» بلسان الأنثى التى انتهت علاقتها بشريكها ولكنها مستعدة بفتح صفحة جديدة معه بحثاً عن بعض الأوقات الجيدة، وفى (مكنش وقته) تتحدث عن الأنثى التى انزعجت من اكتشاف حقيقة شريكها، وكانت تفضل الاستمرار فى العلاقة حتى ولو كانت ما تعرفه عن شريكها مجرد «وهم»، ولكنها اختارت الوهم الكاذب، عن الحقيقة الصادمة.
وأخيرا فى (تيجى نسيب)، تتحدث «أنغام» عن اللحظة الأصعب فى فشل أى علاقة عاطفية، وهى اللحظات التى تسبق قرار انتهاء العلاقة والفراق الحتمى بين الطرفين، لأن الطرفين يعلمان جيداً أن العلاقة استحالت، ولكنهما داخلياً ونفسياً رفضا الاعتراف بهذه الحقيقة.
ولأن «الحلو ميكملش»، هناك أغنية تعتبر خارج سياق «مفهوم الألبوم»، وهى (بنعمل حاجات)، ورغم انها المفضلة لدى، لكن موضوعها خارج مفاهيم تصور الأنثى عن أسباب فشل العلاقة العاطفية التى ركزت عليه «أنغام» فى باقى الأغنيات، كما أن الأغنية تتحدث بلسان الجماعة، وربما تشمل معانيها لمشاعر أعمق من علاقة الرجل بالأنثى، ومن الممكن تصنيفها كأغنية اجتماعية عن بعض ما فعلته بنا الأيام والسنين.
فى النهاية كل ما قدمته «أنغام» من أغانى ربما لم تكن جديدة من حيث المواضيع، وهذه إشكالية الأغانى العاطفية، فالمخزون المتراكم من سنوات الغناء، جعل هناك شبه استحالة لخلق موضوع غنائى «عاطفى» بشكل جديد، ولكن الحالة العامة لألبوم (تيجى نسيب) والتركيز على رأى الأنثى فى أسباب فشل العلاقات العاطفية هو ما أعطى جودة مضاعفة للعمل ككل، والأهم من كل ذلك هو تفاعلنا نحن مع هذه المشاعر، بما فيهم الرجال، حتى ولو كانت المواضيع تغنى بلسان أنثى، فالسر وراء كل ذلك كما ذكرنا يكمن فى الـ«kama muta»!>