الثلاثاء 17 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

صحافة العمر كله

السيدة روزاليوسف.. تاريخ ودروس ومبادئ ـ 1

لا يكاد نجم صحفى أو كاتب كبير إلا وله ذكريات فى أروقة «روزاليوسف», بعضهم عرف الست روزاليوسف وتعامل معها عن قرب، والبعض الآخر لم يلحق بزمنها لكنه عرف وتعامل وزامل ابنها الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس.



ورغم مرور سنوات طويلة لم ينسوا أبدا روزاليوسف بل كانت محفورة فى ذاكرتهم، وكان رشاد كامل يحسد هؤلاء الكبار، فقد عملوا فى مدرسة روزاليوسف وعندما كان أحدهم يكتب بعض ذكرياته لم يكن يكتفى بالقراءة بل يحتفظ بها فى دوسيهات ورقية!.

حكايات صحفية هى «الكنز الحقيقى» الذى يعتز به «كامل» طوال عشرين سنة حتى أصبحت لديه ما يقرب من 700 حكاية.

 

«إن أبرز خَط فى شخصيتى هو الكفاح، والكفاح فى حياتى طريق طويل لم يغطه أحدٌ بالأسفلت، وقد مشيت الطريقَ كله على ساقىّ حتى كلتا من المَسير وأصيبتا بضيق فى الشرايين.. إن قصة كفاحى طويلة ورهيبة، ولو وجدت الوقت الذى أحكيها فيه لما وجدت الورق الذى تكتب عليه سطورها.

لقد عشت مع «روزاليوسف» الأسبوعية ثم اليومية 33 عامًا أنصهر فى فرن السياسة، اهتزت الأرض من تحتى مرّات ولم أهتز، وضعت أمامى مبادئ ومضيت العمرَ أحميها من غربان السياسة وفئران القَصْر، كنت أقف وراء كل سياسى كبير يلف حول عنقه شََرفه ووطنيته، وأتخلى عنه فى اللحظة التى يخلع فيها رباط عُنقه!

صادروا مجلتى حتى كانت تصدر عددًا وتصادَر خمسة أعداد وقاومت، أغرونى بالمال وعذبونى بالتهديد وقاومت، أرسلونى فى نزهات كثيرة إلى النيابة العمومية أحيانًا وإلى سجن مصر وقاومت».

لقد كتبتُ مسحةً عابرة من قصة كفاحى فى كتابى «ذكريات»؛ أمّا بقية القصة فما زالت فى قلبى مختلطة بدمى، وأملى أن أكتب القصة يومًا أو يكملها بعد أن أصبح ذكرى ابنى «إحسان»..

هكذا لخّصَت السَّيدة «روزاليوسف» حياتها فى حوارها مع الكاتب الصحفى الأستاذ «عبدالتواب عبدالحى»، الذى نشر بعد أيام قليلة من رحيلها فى أبريل 1958 وحسب كلامه: «وبعد أيام قليلة من هذا الحديث، فكّت «فاطمة اليوسف» رباطها بالدنيا.. رحلت أمُّ الصحفيين».



لقد حاول الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس أن يكتب بالفعل عنها قبل عشر سنوات من رحيلها بمناسبة عيد ميلاد المجلة فى أكتوبر سنة 1948، لكن «روزاليوسف» رفضت نشر مقال إحسان عنها والذى كتب فيه يقول:

«كان المفروض أن أكتب على هذه الصفحة قصة أمّى السَّيدة «روزاليوسف»، القصة التى لا يعلمها بعد الله إلا اثنان من الأحياء؛ السَّيدة «روزاليوسف» وأنا، قصة الفتاة الصغيرة التى لم تتجاوز السابعة من عمرها والتى استقرت فى مصر لتمزج دمها بترابها، وتخط بأناملها الرقيقة وعلى صفحات التاريخ خطوطًا ستبقى ما بقى التاريخ».

ولكن السَّيدة «روزاليوسف» رفضت- وهى صاحبة الحق الأول- ووعدتنى كما اعتادت أن تعدنى كل عام أن تسمح لى بكتابة قصتها فى العام الذى يليه، وفى مثل هذه المناسبة- مناسبة دخول المجلة فى عامها الجديد!

وأمّى تعلم أن من بين عيوبى أنى أتقمص أحيانًًا شخصية «الفرزدق» فأتمادى فى التفاخر بأبى وأمّى، وهذا من العيوب الحميدة، وتعلم أن قصتها ما يحق لى أن أزهو بها بين الناس، وهى لا تريد أن تحرمنى هذه المتعة- متعة الزّهو- ولا تريد فى الوقت نفسه أن تفاخر بأيامها فلا تجد إلا أن تعدنى من عام إلى عام، وأن تنظر إلىّ كما اعتادت أن تنظر إلىّ دائمًا نظرتها إلى طفل يتعجل ارتداء بدلة العيد! النظرة التى لا حرمنى الله منها أبدًا».

ويمضى الأستاذ «إحسان» قائلًا:

«وأمسكت قلمى عن كتابة القصة؛ خضوعًا لأمر السَّيدة «روزاليوسف» صاحبة المجلة وإرضاء للسيدة «فاطمة اليوسف» والدتى، وأردت أن أكتفى بالكتابة عن شخصيتها، الشخصية التى أحببناها جميعًا لأنها تشخط فى الجميع وتخصم من مرتبات الجميع، وتمزق مقالات الجميع، ثم تبتسم للجميع فيرون فى ابتسامتها حنان الأم وقسوة الأستاذة، السَّيدة التى كانت أيامها كلها حربًا، انتصرت فيها موقعة بعد موقعة، ولم يكن لها من سلاح إلا العناد، السَّيدة التى ربحت كثيرًا حتى وصلت إلى المليون وخسرت كثيرًا حتى باعت «مصاغها» فلم يؤثر فيها ربح أو خسارة.

ظلت محتفظة دائمًا بشباب أعصابها ونضرة أيامها وقوة آمالها، السَّيدة التى تصل فى الصباح إلى مكتبها لتحاسب «النّحاس» و«النّقراشى» و«صدقى»، ثم تعود إلى منزلها لتحاسب الطباخ، و«تشقّر» على الفراخ وتشترك فى تقشير البصل وتخريط الملوخية، إنها مجموعة من المتناقضات تؤلف شخصية فريدة وتاريخًا لم نسمع عنه بين سيدات العالم.

وانتهيت من المقال وأرسلته إلى السَّيدة «روزاليوسف» للاطلاع، فعاد إلىّ وعلى أوراقه صفعات بالقلم الأحمر، وعلى رأسه تأشيرة بقلم السَّيدة الجليلة تقول فيها: يا بارد.. خلى غيرك يقول الكلام ده!

وربما انتظرت منّى والدتى أن أنكسف وأن تعوّدنى فضيلة التواضع، ولكنى للأسف لم أنكسف ولم أتواضع فإنى- كما قلت- أحب أن أزهو بها وهو أقل حق لى عليها».

وقبل ذلك بعام -1947- وبمناسبة صدور العدد رقم 1000 «ألف» كتب إحسان:

«هذا هو العدد الألف من مجلة «روزاليوسف» وكان يجب أن يكون العدد رقم «1122» والذنب ذنب صدقى باشا ومحمد محمود باشا والنحاس باشا، والنقراشى باشا، هؤلاء الذين عطلوا مجلة «روزاليوسف» مُددًا تتراوح بين ستة شهور وثلاثة وشهرين وشهر وأسبوع، وقد بلغ مجموع الفترات التى عطلت فيها مجلة «روزاليوسف» سنتين كانتا كافيتين لتحطيم رأس أى عنيد وإزهاق روح أى جريدة أو مجلة، وعندما بدأت «روزاليوسف» تكتب فى السياسة خبطت مصر وخبط الشرق العربى كله كفّا على كف، فلم يكن من المألوف فى الشرق أن تصدر مجلة تحمل اسم سيدة لتنتقد الزعماء وتوجّههم!

ولكن هذه السَّيدة استطاعت أن تقنع مصر والشرق أن المرأة ليست أقل وطنية ولا هى أقل احتمالًا للجهاد من الرجل، فقاومت حتى وقفت على قدميها وارتفع صوتها حتى أخرس كل صوت مُعارض لرأيها، وتلفتت حكومات الاحتلال فإذا بروزاليوسف أخطر مما تنبأوا لها فسلطوا عليها الحديد والنار وحاربوها فى العلن والخفاء، فكان أن قضت عليهم وتهاوَى جبروتهم تحت قدميها!

وأصبحت «روزاليوسف» أول من ينفخ فى نفير الوطنية. وأول من يصرخ صرخة الجهاد وأسماها النحاس باشا السَّيدة المجاهدة، وكتب عنها «مكرم باشا»: «إنها سيدة مناضلة دائبة العمل والأمل، تضفى على جهادها لونًا بسَّامًا متجددًا من روحها».

ويضيف إحسان قائلًا: وسر حياة «روزاليوسف»- السَّيدة والمجلة- أنها لا تعمل لتعيش يومها، بل تعمل لتعيش فى التاريخ، وسيذكر التاريخ «روزاليوسف» كلما تحدّث عن جهاد مصر.



نعم، لقد دخلت السَّيدة «روزاليوسف» ومجلتها وسائر المجلات الأخرى التى أصدرتها تاريخ مصر، ولا يخلو كتاب أو بحث سياسى أو رسالة ماچستير أو دكتوراه تناولت تاريخ مصر السياسى الحديث فى النصف الأول من القرن العشرين إلا وكانت صفحات «روزاليوسف» ومعاركها السياسية والاجتماعية من أهم المراجع التى يعود إليها الباحثون.

وعندما كتبت السَّيدة «روزاليوسف» ذكرياتها وصدرت فى كتاب عام 1953 حرصت على القول فى إهدائها لإحسان ابنها «إليك يا بنى أهدى هذه الذكريات الناقصة- كما تقول- وإنك لتعلم أن من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله أو يوضّحه، وأنه ليكفى أن تكون عالمًا بما فى هذه الذكريات من «نقص» لأطمئن إلى أنك سوف تكملها ذات يوم»!

ويعترف «إحسان» فى المقدمة التى كتبها للكتاب: «هذه الذكريات ناقصة، ناقصة إلى حد كبير».

لكن من حُسن الحَظ أن السَّيدة «روزاليوسف» كانت من وقت لآخر تسترجع بعض ذكرياتها فى مقالات متفرقة لا تقل أهمية عن ذكرياتها الناقصة!

فى مقال نادر عنوانه «مع المصرى أفندى إلى النهاية فى المحنة وفى المجد» روت «روزاليوسف» بعض معاناتها الصحفية والسياسية بعد مرور 11 سنة على صدور المجلة و11 شهرًا على صدور الجريدة.

والمعروف أن «المصرى أفندى» هو الشخصية التى ابتكرتها «روزاليوسف» ومحمد التابعى ورسمها الفنان الكبير «صاروخان». فى هذا المقال المهم كتبت السَّيدة «روزاليوسف» تقول: «لله هذه الأعوام الطويلة فى الكفاح.. 

عندما أخرجت هذه المجلة إلى الوجود، لو كان أحد قد سرد على مسامعى يومها هذه الأطوار التى سيتطور إليها عملى ترى ماذا كنت أقول؟

لم أكن لأصدق شيئًا من ذلك، فلم تكن مقدمات عملى لتسمح باستنتاج كهذا، ومَهما عرفت فى نفسى من روح المغامرة فى سبيل الحق؛ فلم أكن لأظن أن الظروف ستوجّهنى هذا السبيل الذى مضيت فيه إحدى عشرة سَنة!

ولكن هذه أنا وهذا عملى، مجلتى وجريدتى بين أيدى القراء، بعد أن اجتزنا مرحلة شاقة فى حياة جهاد مستمر لم أعمل فيه إلا بوحى الضمير الحُرّ الذى لا يعرف إلا أن يقول ما يريد لا ما تريده المنفعة والشهوات الدنيا.

هذه المخاطر التى تعرضت لها من الحَجْر والتعطيل والمصادرة والاضطهاد والخسائر المادية والأدبية، هذه المخاطر كلها هى الثمَن العزيز لراحة الضمير، ولو قد أرضيت ضميرى، ولبّيت هاتف وطنيتى ومضيت فى ذلك ثم سلمت من الخطر؛ لما استطعت أن أنعم بما أنعم فيه الآن من طمأنينة النفس، ولما شعرت بأننى قد أديت شيئًا للوطن أستحق عليه أن أقول لنفسى: إنك أيتها السَّيدة قد فعلتِ ما لا يجرؤ على فِعْله عشرون رجلاً متكاتفين»!

ومضت السَّيدة «روزاليوسف» تقول:

«وهذه السلسلة الطويلة من التضحيات والآلام، قد كنت أستغنى عنها أو أتفاداها من غير أن أنحرف عن عقيدتى الوطنية، ومن غير أن أرهق ضميرى بالتبكيت والتأنيب، ولكن طبيعتى الثائرة وقلبى المناضل وقوة يقينى، كل ذلك أبَى إلا أن أتقدم مليئة بالإيمان موفورة الشجاعة والإقدام أتلقى الخطر، لا أبحث عن الخطر وأسعى إليه، أفاجئ القوة فى خصومها وأنا على ثقة من أن الخطر أقوى منّى، والقوة أشد فتكًا بأسلحتها من أسلحتى، ولكننى مع ذلك أقدمت بلا اكتراث وبلا موازنة بين ما سأكسبه وما سأخسره!

نعم بلا موازنة بين ما سأكسبه وما سأخسره، هذا هو المبدأ الذى به أدين عشت عليه وسأموت عليه، وها هى حياتى الصحفية مبسوطة أمام الناس، إن استطاع أحد أن يدلنى على ما ينقضه أو يغاير حقيقته لأكونن إذن من الكاذبين.

هاهى ذى المجلة الأسبوعية فى وزارة «محمد باشا محمود» ثم فى وزارة «إسماعيل باشا صدقى» ثم فى وزارة «عبدالفتاح باشا يحيى» ثم فى وزارة «توفيق باشا نسيم»!

وهاهى ذى الجريدة اليومية ولها من العمر أحد عشر شهرًا.

هاهى ذى المجلة، وهاهى ذى الجريدة، وقد تقلبت على كلتيهما ظروف ومحن، وقد غامرت كلتاهما فى جحيم من الأهوال واقتحمت كلتاهما ما تشيب له النفوس قبل الرءوس!

أى إنسان يدلنى على ظرف واحد من الظروف التى اجتزتها، وقفت فيه أتأمل وأوازن بين الكسب والخسارة، أو أساوم أحدًا أو هيئة أو وزارة على عمل أعمله أو موقف أقفه؟!

لن يستطيع ذلك أحد قبل أن أمد يدى فأستل نفسى من بين جنبى»!