إحياء إرث اندثر تحت وطأة التشدد الدينى: رسائل الشيخ دراز.. حكايات عن مصر التى لم نعد نعرفها

هبة محمد على
ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية فى نسختها السابعة، تعرض سينما زاوية هذه الأيام الفيلم التسجيلى (رسائل الشيخ دراز) للمخرجة «ماجى مرجان» فى عرض تجارى أول بعد حصوله على جائزتى لجنة التحكيم وجائزة الاتحاد الأوروبى من مهرجان أسوان لأفلام المرأة فى دورته الماضية.
الفيلم يبدو للوهلة الأولى أنه يتناول سيرة الشيخ «محمد عبدالله دراز» بوصفه عالمًا أزهريًا جليلًا تحمل أفكاره وأطروحاته قدرًا هائلًا من التنوير والحداثة، لكنه فى حقيقة الأمر قراءة للتغيرات التى عاشها المجتمع المصرى فى العقود الأخيرة، والتى تسببت فى تحول كبير فى كثير من العادات والمعتقدات الفكرية فحل محلها فكر لا يتناسب أبدًا مع ماضينا، وما تركه علماؤنا من أثر.
فلا يمكن أن تمنع نفسك على مدار 80 دقيقة -هى عمر الفيلم- من أن تعقد مقارنات بين ما كنا عليه من تنوير وتفتح، واتساع للأفق، وما أصابنا من ردة ألقت بظلالها على المشهد العام، فأفقدتنا كثيرًا من المكتسبات الفكرية والثقافية التى ناضل من أجلها كثير من رموزنا التنويريين.
الجميل فى الفيلم أنه لا يتناول سيرة العالم الجليل بشكل تقليدى يسرد من خلاله مساره المهنى كفقيه أوفدته جامعة الأزهر، فى بعثة لفرنسا خلال أربعينيات القرن الماضى ليحصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف العليا، ويحدث هذا التأثير الكبير سواء برسالته التى حملت عنوان (دستور الأخلاق فى القرآن الكريم) أو بمؤلفاته وأحاديثه الإذاعية التى تعد فى حد ذاتها رسائل تنويرية عابرة للزمن، لكنه فى الحقيقة يتتبع حياته من خلال رسائل كتبها بخط يده، وظلت الأجيال المتعاقبة من أسرته تتوارثها باعتبارها كنزًا ثمينًا يذكرهم أنهم من نسل مجدد حقيقى، حتى قررت حفيدته «نهى الخولى» بعد عقود أن تخرج هذه الرسائل إلى النور، لنشاهد جانبًا آخر من حياة العالم الجليل لا يخلو من الحميمة، فقد كان – رحمه الله- أبًا داعمًا لأولاده وبناته العشرة، ساوى بينهم فى الواجبات، ومنحهم كل الحقوق، وأنشأهم محبين للفن والجمال، وقادرين على التعايش مع الآخر دون وصاية أو إصدار أحكام، وهى صفات جميلة ظلت متجذرة فيهم وفى أبنائهم.

بدأ إعداد هذا الفيلم بالصدفة البحتة، حيث جمعت صداقة بين المخرجة «ماجى مرجان» وبين حفيدة الشيخ دراز السيدة «نهى الخولى» بعد أن مثلت الأخيرة دورًا فى فيلم (عشم) وهو الفيلم الأول لـ «ماجى» وبناء على هذه الصداقة، أطلعت «نهى» صديقتها على ما تحتفظ به من رسائل وصور، كما أخبرتها بما لديها من حكايات عن جدها، سمعتها من أبنائه، أو قرأتها فى مسوداته، ومذكراته، حيث كان الشيخ الراحل يدون مذكراته بشكل يومى على مدى 12 عامًا خلال بعثته فى فرنسا، وواصل كتابتها بعد عودته إلى مصر، وحتى قبل رحيله بيوم واحد عام 1958، ثم أخبرتها بأمنيتها بأن تجمع تلك الكنوز بين دفتى كتاب، لكن «ماجى» بما تمتلكه من حس فنى، وعين قادرة على التقاط هذا الجمال المكتوب وتحويله إلى صور مرئية، انجذبت إلى حكايات «الشيخ دراز» وأعلنت عن رغبتها فى تحويلها إلى فيلم يوثق مسيرة هذا الرجل الملهمة، ومواقفه المشرفة، والأحداث التى يعود تاريخها إلى النصف الأول من القرن العشرين، والتى صنعت الدراما فى حياته وحياة أسرته، حيث أرسلته جامعة الأزهر للحصول على الدكتوراه فى باريس عام 1936 وسرعان ما رافقته عائلته المكونة من الزوجة، ابنة العمدة وأولاده 5 بنات و5 صبيان وعاشوا جميعًا فى باريس وتعلموا فى مدارسها وجامعاتها، وعاصروا قيام الحرب العالمية الثانية هناك، ومكثوا فى مدينة النور 12 عامًا، قبل أن يعودوا إلى مصر ويبدأ فصل درامى جديد من حياة الشيخ «دراز»، سعى فيه إلى إرساء مبادئ تعلمها، وآمن بها، أهمها إعلاء قيمة الحرية واستقلالية الرأى، لدرجة أنه رفض أن يعين شيخًا للأزهر الشريف بعد ثورة 1952 لشعوره بعدم وجود ضمانات لحرية قراراته.
البطولة فى هذا الفيلم الذى تشاركت فى كتابته «ماجى» مع «تغريد العصفورى» تذهب فى المقام الأول إلى الشيخ «دراز» نفسه، فلولا تدوينه لما مر فى حياته من أحداث، ومواقف، وذكريات لم تكن لتتوفر تلك المادة البصرية الهائلة التى أثرت الفيلم، وخلقت ترابطًا بين الجمهور داخل قاعة العرض وبين تلك الأسرة التنويرية، ورغم وجود أرشيف إذاعى مسجل بصوت الشيخ «دراز» داخل مكتبات الإذاعة المصرية، إلا أنك لن تستمع لصوته طوال مدة الفيلم، حيث اختارت «ماجى مرجان» الفنان «صدقى صخر» ليقوم بدور الراوى لمراسلات الشيخ ومذكراته، سواء كتبها بالعربية أو الفرنسية، وحسنًا فعل «صخر» بأنه لم يتعمد تقليد نبرة صوت الشيخ، ولم يقم باستخدام اللغة العربية الفصحى فى القراءة للتعبير عن عمق ثقافة الرجل أو غزارة علمه، لكنه استخدم صوتًا قريبًا من القلب، يعبر عن مشاعر الكلمات لا عن معناها فقط، بلغة مبسطة تقترب من العامية، وبأداء تشعر معه بالانتصار والانكسار، والفرحة والحزن أيضًا.
أما أبناء وأحفاد الشيخ «دراز» من الجيلين الثالث والرابع فهم مكون أساسى للفيلم الذى استغرق فى إعداده 10 سنوات كاملة، بداية من حفيدته «نهى الخولى» التى قامت بإنتاج الفيلم، وكذلك أولاده «محسن وسامى وفتحى» والأحفاد «سامية ونادية بدوى» وجميعهم يتمتعون بروح الدعابة التى ساهمت فى خلق نوع من القرب والحميمية بينهم وبين جمهور الفيلم، وهو ما يفسر الحزن الذى كسا الوجوه عندما ظهر تتر النهاية مكتوبًا فيه تاريخ رحيل ابنه السفير «فتحى دراز» الذى توفى بعد ساعات من تصوير مشاهده وكأن القدر قد أمهله ليوفى لوالده بدين أحاط بعنقه وأبى أن يرحل دون أن يوفيه.
وإلى جانب الكتابات التى سجلها الشيخ بنفسه، والحكايات التى تلاها أفراد أسرته، هناك جانب آخر فى الفيلم تناول تأثير علمه وما خلفه من أثر على أجيال متعاقبة ممن درسوا كتاباته من الباحثين والمتخصصين.
والحقيقة أن هذا الفيلم بكل ما يحمله من معانٍ سامية، إلا أنه يحدث فى القلب غصة، لأنه يقص علينا حكايات من مصر التى لم نعد نعرفها، ويذهب بنا إلى رحلة عبر الزمن، حيث يتواجد إرث ثقافى واجتماعى وتنويرى اندثر تحت وطأة التشدد الدينى الذى وفد إلينا وأبى أن يغادرنا.>