حكاية قصيدة «الشهيد» التى كانت رثاءً لكاتبها... «عبدالرحيم محمود» الشاعر الذى أسَّس «مقاومة» شعب..

وفاء وصفى
سأحمل روحى على راحتى
وألقى بها فى مهاوى الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
وما العيش؟ لا عشت إن لم أكن
مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلت أصغى لى العالمون
ودوى مقالى بين الورى
لعمرك إنى أرى مصرعى
ولكن أغذ إليه الخطى
أرى مصرعى دون حقى السليب
ودون بلادى هو المبتغى
يلذ لأذنى سماع الصليل
ويبهج نفسى مسيل الدما
وجسم تجدل فى الصحصحان
تناوشه جارحات الفلا
فمنه نصيب لأسد السماء
ومنه نصيب لأسد الشرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان
وأثقل بالعطر ريح الصبا
وعفر منه بهي الجبين
ولكن عفارًا يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسام
معانيه هزء بهذى الدنا
ونام ليحلم حلم الخلود
ويهنا فيه بأحلى الرؤى
لعمرك هذا ممات الرجال
ومن رام موتًا شريفًا فذا
فكيف اصطبارى لكيد الحقود
وكيف احتمالى لسوم الأذى
أخوفًا وعندى تهون الحياة
وذُلا وإنى لرب الإبا
بقلبى سأرمى وجوه العداة
فقلبى حديد ونارى لظى
وأحمى حياضى بحد الحسام
فيعلم قومى أنى الفتى
هذة الأبيات التى كتبت بالدماء تحكى قصة «شهيد» وتلخص رؤية كل من هو ولد فى أرض السلام التى أصبحت تفتقد السلام... إنها قصة شعب كل أبنائه أصبحوا مشروع «شهيد» فداءً لأرضه ووطنه.. بل إنها أصبحت مبتغاه لأطفاله قبل شبابه الذى بات حقه فى الحياة مسلوبًا، مهدورًا ومغتصبًا.
لقد كانت قصيدة «الشهيد» للشاعر الفلسطيني» عبدالرحيم محمود والذى ولد فى قرية عنبتا فى فلسطين دعوة صريحة انطلقت منذ أن عرفت الأرض طعم الدم لكل الفلسطينيين أن يموتوا شهداء على أرضها وكانت البداية «محمود» نفسه والذى لم تدم حياته أكثر من 35 عامًا ليستشهد فى أحداث 48.
وتعتبر هذه القصيدة من أشهر قصائده وقد كتبها بدافع حسّه الوطنى ورغبته بنيل الشهادة فى سبيل الله والوعد الذى قطعه على نفسه، ولم تمر أكثر من تسع سنوات وقد نال مبتغاه، وكأنه يرثى نفسه فيها.
والقصيده تبدأ بوعد قطعه الشهيد على نفسه بأنه سيحمل روحه على راحته ويُلقى بنفسه فى مجاهل الموت ومعاركه، حيث يؤكد أن الشهادة لا تأتى فجأة وإنما هى تتويج لرحلة كفاح، كما يؤكد أنه لا يخاف من الموت بل يمضى إليه بإرادته، ويكمن السر فى ذلك القرار الذى اتخذه فى رغبته بعيش حياة كريمة، أو المقاومة والاستشهاد الذى يغيظ الأعداء ويقهرهم.
ويستكمل «الشهيد» رسالته التى يؤكد فيها رغبته الكبيرة بتحقيق المُنى وحماية بلاده، ثم يوضح تفضيله لخيار الموت بأن العيش لا قيمة له إلا إذا كان بكرامة يرهبها الأعداء وتحفظ له عزة النفس، لتتشكل الفكرة الثورية لديه ويبثها بقلمه لتبقى حية لأجيال كثيرة بعده. وتبرز الفكرة التى يعيش بها كل فلسطينى قديمًا وحاليًا وهى أنه على يقين من قدوم الموت، وهو يسير إليه بخطى ثابتة، لا يخافه أو يهابه، فإعادة الحق المسلوب من بلاده دافعه للموت والشهادة، فكان سماع صليل السيوف يطربه، ومسيل دماء الأعداء يبعث الرضا فى نفسه، مؤكدًا أن صورة الشهيد التى رسمها لنفسه، وهى صورة محببة إليه وتعبّر عن طموحه؛ حيث تكتسى الأرض بدمائه حتى يصبح لونها أرجوانيًا كحلة تزينها، وتحمل الريح عطره الطيب، كما تتناثر الدماء على جبينه لتزيّنه كالتاج وتزيده بهاءً وإشراقًا، وترتسم الابتسامة على شفتيه، وهى ابتسامة الظفر وتحقيق المراد والسخرية من هذه الحياة الدنيا الفانية، مشيرًا إلى أن هذه هى ميتة الرجال الأشراف، ومن أراد الموت بعز وكرامة فليسلك طريق الشهادة، ولا يعرّض نفسه للذل والهوان، ويرمى أعداءه بسهامه، ويواجههم بقلبه الصامد القوى كالحديد، فمقاومته شديدة تحرق من يقترب منها، وهو على عهده لحماية دياره بسيفه وسلاحه، ليؤسس بذلك فكر المقاومة لدى شعبه، فيقاوم بسلاحه وقلمه، حتى نال مبتغاه واستشهد وهو فى عمر الشباب.
لقد ولد الشاعر عبدالرحيم محمود فى بلدة عنبتا إلى الشرق من طولكرم عام 1913، وأنهى دراسته الابتدائية فى بلدته عام 1925، وأكمل دراسته المتوسطة فى مدينة طولكرم، وأنهى الثانوية من مدرسة النجاح فى مدينة نابلس وكان من المتميزين فى اللغة العربية. وهو شاعر ومثقف وشهيد، عرفت أسرته بالثقافة والعلم والفقه، فسميت (الفقهاء)، وكان والد عبدالرحيم محمود تخرج فى الجامع الأزهر، وأصبح من شيوخ المذهب الحنبلى
درس الابتدائية حتى الصف الخامس فى بلدته ثم انتقل لمدرسة الفاضلية فى طولكرم وتلقى تعليمه الثانوى 1928-1932 فى مدرسة النجاح الوطنية فى نابلس (جامعة النجاح حاليًا).
وكان قد تعرف هناك على الشاعر إبراهيم طوقان كونه كان بين أساتذته هناك، فتوطدت علاقته به كزميل وصديق.
وعمل عبدالرحيم مدرسًا للأدب العربى فى مدرسة النجاح الوطنية، وعندما اشتعلت الثورة الكبرى فى فلسطين سنة 1936، استقال من وظيفته وانضم إلى صفوف المقاتلين فى جبل النار.
طاردته حكومة الانتداب البريطانى بعد توقف الثورة، فهاجر إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات دخل فيها الكلية الحربية العراقية وتخرج ضابطًا برتبة ملازم أيام الملك غازى بن فيصل بن الحسين، وعمل كذلك مدرسًا للغة العربية فى بغداد وعمل مديرًا لمدرسة ابتدائية فى البصرة، وشارك مع المجاهدين العرب فى ثورة رشيد عالى الكيلانى فى العراق.
ولما هدأت الأوضاع فى فلسطين لانشغال إنجلترا بالحرب العالمية الثانية عاد إلى بلده واستأنف العمل معلمًا بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس.
لقد تلقى محمود علومًا شرطية فى بيت لحم، لكنه تركها بعد عام واحد، بسبب رفضه الانصياع للأوامر البريطانية، وبعد سنوات التحق بصفوف الثورة العربية الكبرى عام 1936، وعمل مسئولًا عن الشؤون الإعلامية وكتابة البيانات فى مقر قيادة القائد عبدالرحيم الحاج محمد، القائد العسكرى العام لثورة 1936-1939، وقاد إحدى الفصائل وجرح فى إحدى المعارك ضد البريطانيين، فلجأ إلى دمشق، ومنها إلى العراق.
وفى العام 1939 التحق بالكلية العسكرية فى العراق، وتخرج فيها برتبة «ملازم ثان»، وهناك تعرف على عبدالقادر الحسينى بطل معركة «القسطل»، واشترك فى حركة رشيد عالى الكيلانى فى مايو 1941، وشارك معه فى معركة «سن الذبان»، ثم عاد إلى فلسطين والتحق بالهيئة التدريسية فى كلية النجاح حتى العام 1947، وعندما شكلت الجامعة العربية جيش الإنقاذ على إثر قرار التقسيم عام 1947 انضم محمود لهذا الجيش برتبة ضابط، وشارك فى عدة معارك ضد القوات البريطانية.
ودخل إلى منطقة بلعا فى فلسطين، واشترك فى معركة بيار عدس مع سرية من فوج حطين، وشارك فى معركة رأس العين، وفى أبريل 1948م عُين آمرًا للانضباط فى طولكرم، ثم مساعدًا لآمر الفوج فى الناصرة.
استشهد عبدالرحيم محمود يوم 13 يوليو 1948م فى قرية الشجرة عن عمر قارب 35 عامًا حيث أصابته قذيفة فى عنقه، وكان يتمتم وهو محمول على أكتاف أصدقائه.
«احملونى احملونى
واحذروا أن تتركونى
وخذونى ولا تخافوا
وإذا مت ادفنونى»
ودفن فى مدينة الناصرة، حيث كانت رغبته ووصيته.
لم تكن قصيدة «الشهيد» هى القصيدة الوحيدة التى اشتهر بها عبد الرحيم وكتبها وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، فقد ترك عددًا من القصائد كتبها بين عامى 1935م، 1948م.. جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها فى المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية.
وصدر ديوانه فى عَمان عام 1958م وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة هى أهم ما كتبه فى عمره القصير المليء بالكفاح.
إن حياة «عبدالرحيم» هى نموذج حى لكل فلسطينى يعيش على أرض فلسطين، فأصبحت الشهادة هدفًا لكل مواطن يحيا بها، وكأن أبياته أصبحت شعارًا لهم وهى إما أن يعيشوا بكرامة فى أرضهم أو يكونوا شهداء فداءً لها، ولذلك ستظل فلسطين عصية على كل من يريدون إبادتها أو هدمها، وستظل حية بأبنائها دائمًا.