مقاومة قلم.. قصة الرواية الفلسطينية التى تصدرت قائمة أفضل 100 رواية عربية البحث عن مسعود.. عندما بحث جبرا عن هويته
وفاء وصفى
«اعتن بنفسك.. -لماذا إذن التحقت بالجبهة؟ كى أعتنى بنفسى؟»
«أنزلونى إلى الزنزانة، ثم أخذونى إلى غرفة فيها رجال أعرفهم من دون أن أكون قد رأيتهم من قبل. كانوا متعبين شاحبين صامدين وجميلين سمعت أصواتا خليطة؛ صراخًا، أجسادًا تُجَرُ على الأرض. وقابلت المحققين فى تلك العملية البذيئة. عنوانك، أبوك، أمك، وصدمة اللكمة على عينيك تعميك للحظتين. ضربنى صبرى بالحجر على وجهى لأننى كسبت منه خمس بيضات ملونة يوم العيد الكبير، ولكنه ضربنى وهرب. هنا لا يهربون. يضربونك، ويقفون على رأسك، لأن يديك مقيدتان، وشعبك مقيد..»
«أيها المطر! أيها الفجر الأسود الذى لا ينبلج! أيتها الساعات المحملة بالهدم والردم. بالأنقاض والخرائب؛ أيها الصباح المحشرج بسيول الدم التى ستتدفق اليوم وغدًا، وبعد غدٍ، والسنة القادمة، وما انفكت تتدفق عبر خمسين سنة من صراع، وجراح، فى كل ساعة من ساعاتك الثقيلات الباكيات...»
«وفى الداخل سؤال يُسمع كأنه صادر من أعماق بئر سحيقة: من أنا؟ من أنت ما الذى أفعله هنا؟ من هم هؤلاء الذين حولك يضحكون يضحكون فى وجه الموت، والمدينة يلتهمها الوحش عضوًا فعضوًا، ساعة بعد ساعة، والمطر ينهمر ويتهاوى ويلعلع مع الزوابع. أى فجيعة يتنبأ بها كل هذا الحزن؟
تهاوت الجدران، وتعالى الصراخ، والمطر ينهمر، وأفواه القرب تتقيأ أحشاء السماء بمجموعها على المدينة المجرحة المسكينة، المدينة المعشوقة المنتهكة فى المطر، وفى الليل، المنتهكة فى الضحى وفى الظهيرة، فى الصحو والغيم والعاصفة والسكون. بكيت صامتًا ووجهى تضربه الريح والمطر».
فيقول وليد: «أنت تفكر بالتغيير بموجب قوة تفرض من فوق.. إنه تغيير من عبودية إلى عبودية، أما أنا فأفكر بالتغيير بقوة تنبثق من الداخل.. من عبودية إلى حرية. من داخل الإنسان يا عامر، كالقوة التى تحسها أنت فى دمك، فى أحشائك، وتجعلك أقوى من كل من يحاول وضع النير على رقبتك...»
هكذا يتحدث الأديب الكبير «جبرا إبراهيم جبرا» فى رائعته «البحث عن وليد مسعود» والتى احتلت المركز الثانى بين أفضل مئة رواية عربية وهى مكانة استحقتها هذه الرواية عن جدارة..
ففيها يجسد جبرا مأساته كأديب وفيلسوف يعيش الاغتراب بكل صوره، بل واستطاع أن يجسد فلسطين هذه الأرض المعذبة والتى قدرها أن تعيش المقاومة الضارية فى شخص وليد مسعود والذى تبحث عنه شخصيات الرواية وكل منهم يعكس ما يعرفه عن مسعود. فيحكى جبرا فى قصة مسعود الذى يعيش فى بيت لحم، وهو سائق عربة يجرها حصانان ينقل من خلالها الركاب بين بيت لحم ومدينة القدس، وتزوج مسعود من امرأة اسمها نجمة، وبعد مدة يرزقان بولد أسمياه خميس، لكنه عندما كبر حول اسمه إلى وليد وجعل الجميع يناديه بهذا الاسم، ودرس الاقتصاد ويعمل فى البنك، لكنه يلتحق بالمجاهدين عدة أشهر، ثم يذهب إلى دمشق ويلتحق بجيش الإنقاذ.
وعندما تُوفى والده لم يستطع الحضور إلى بيت لحم إلا بعد أربعة أيام، حيث كان من الصعب عليه التنقل من بلد إلى آخر، وبعد مدة يتزوج من ريما ويُرزقان بمروان، إلا أنه يعتقل فى بيت لحم ويطرد من وطنه، فيعود بصعوبة إلى بغداد.
ولم تنته مأساة وليد بعد طرده لأنه يلتحق هو وولده مروان بالثوار فيستشهد الابن وينتقل وليد من بغداد ويترك سيارته على قارعة الطريق الصحراوى وفيها شريط سجل عليه أِشياء كثيرة عن حياته ثم يختفى، ويُصدَم أصدقاؤه مما جرى معه ويجتمعون معًا للاستماع للشريط ومحاولة البحث عن وليد والعثور عليه.
وهنا تبدأ كل شخصية بالحديث عن وليد مسعود من منظورها الخاص ومعرفتها به لتدور أحداث الرواية فى 12 فصلًا، كل فصل يحمل منظورًا خاص بوليد، والذى يشعر القارئ أنه يرى فلسطين فى شخصية وليد التائه أو الهارب.
لقد اعتمد جبرا على فكرة تحويل البطل الغائب إلى أسطورة، وجعله محور الرواية الخفى، الذى تدور حوله كل الأحداث، رغم غيابه الجسدى عن الرواية، لكنه الخيط الخفى بين كل الشخصيات والأحداث، فوجوده كان حدثًا لدى الجميع رجالًا ونساء، وغيابه هو المحرك الحقيقى لأحداث الرواية التى تبدأ لحظة اختفائه على الطريق الدولى السريع بين بغداد ودمشق، حيث وجدت سيارته وحيدة من دونه، مركونة على قارعة الطريق الصحراوى، ومن شريط التسجيل الذى تركه وليد مسعود فى السيارة، نبدأ بالتعرف على رد فعل البطل، وتعليقه على كل الشخصيات المحيطة فيه، ومنها ننطلق للتعرف على تلك الشخصيات.
لقد بنى جبرا إبراهيم جبرا روايته بشكل بديع ومختلف عن كل الروايات الأخرى، فكل فصل ترويه شخصية من شخصيات الرواية وتصف فيه البطل الغائب الحاضر الذى يحرك الأحداث جميعها.
صدرت رواية البحث عن وليد مسعود لأول مرة عام 1978م، وكانت الكتاب الثانى فى قائمة أفضل 100 رواية عربية.
ولد جبرا إبراهيم جبرا فى 1920 توفى فى 1994 وهو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلى، فلسطينى من السريان الأرثوذكس الأصل، ولد فى بيت لحم فى عهد الانتداب البريطانى، واستقر فى العراق بعد حرب 1948، حيث عمل بالتدريس فى جامعة بغداد وفى عام 1952 حصل على زمالة مؤسسة روكفلر فى العلوم الإنسانية لدراسة الأدب الإنجليزى فى جامعة هارفارد.
أنتج نحو 70 من الروايات والكتب المؤلفة والمواد المترجمة، وقد ترجم عمله إلى أكثر من اثنتى عشرة لغة.
وكان جبرا أيضًا رسامًا، وكان رائدًا فى حركة الحروفية التى سعت إلى دمج الفن الإسلامى التقليدى فى الفن المعاصر من خلال الاستخدام الزخرفى للنص العربى.
ولد جبرا فى بيت أضنة، ودرس فى القدس وإنجلترا وأمريكا ثم انتقل للعمل فى جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزى وهناك حيث تعرف عن قرب على النخبة المثقفة وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية، ويعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجًا وتنوعًا إذ عالج الرواية والشعر والنقد وخاصة الترجمة كما خدم الأدب كإدارى فى مؤسسات النشر.
عرف فى بعض الأوساط الفلسطينية بكنية «أبى سدير» التى استغلها فى الكثير من مقالاته سواء بالإنجليزية أو بالعربية. توفى جبرا إبراهيم جبرا سنة 1994 ودفن فى بغداد. ولد جبرا إبراهيم جبرا عام 1920 فى أضنة، التى كانت آنذاك جزءًا من الانتداب الفرنسى على قيليقية، كان اسم والده إبراهيم ووالدته مريم. وكلمة جبرا آرامية الأصل تعنى القوة والشدة.
قُتل زوج والدته الأول داود وشقيقها التوأم يوسف فى مذبحة أضنة عام 1909. بعد زواج مريم، تم تجنيد زوجها إبراهيم فى الجيش العثمانى خلال الحرب العالمية الأولى. أنجب الزوجان ابنهما الأول يوسف إبراهيم جبرا عام 1915. نجت الأسرة من مذابح سيفو، وهربت من أضنة، وهاجرت إلى بيت لحم فى أوائل عشرينيات القرن الماضى.
وفى بيت لحم، التحق جبرا بالمدرسة الوطنية. بعد انتقال عائلته إلى القدس عام 1932، التحق بمدرسة الرشيدية وتخرج عام 1937 فى الكلية العربية الحكومية. حصل جبرا على منحة دراسية لدراسة اللغة الإنجليزية فى الكلية الجامعية للجنوب الغربى فى إكستر للعام الدراسى 1939-1940، ومكث فى إنجلترا لمواصلة دراسته فى جامعة كامبريدج، بسبب مخاطر العودة إلى فلسطين بالقارب خلال الحرب العالمية الثانية.
فى كامبريدج، تعلم جبرا اللغة الإنجليزية وحصل على درجة البكالوريوس فى عام 1943 من كلية فيتزويليام، كامبريدج، حيث كان مراقبه هو ويليام ساذرلاند تاتشر.
فى عام 1943، عاد جبرا إلى القدس حيث بدأ بتدريس اللغة الإنجليزية فى كلية الرشيدية كشرط لمنحة المجلس الثقافى البريطانى.
كما كتب عددًا من المقالات فى الصحف المحلية الصادرة باللغة العربية فى القدس.
فى 1948، هرب جبرا وعائلته من منزلهم فى حى القطمون غربى القدس بعد وقت قصير من تفجير فندق سميراميس وانتقلوا إلى بغداد. سافر جبرا إلى عمان وبيروت ودمشق بحثًا عن عمل. فى دمشق، توجه جبرا إلى السفارة العراقية، حيث منحه الملحق الثقافى عبدالعزيز الدورى، الذى أصبح فيما بعد مؤرخًا عراقيًا بارزًا، تأشيرة للتدريس فى كلية تدريب المعلمين لمدة عام.
حصل جبرا على درجة الماجستير من كلية فيتزويليام، كامبريدج عام 1948. لم يتطلب برنامج الماجستير أى دورات دراسية أو إقامة فى إنجلترا وفقًا لنظام «Cambridge MA»، حيث يمكن لحاملى شهادة البكالوريوس الحصول على درجة الماجستير بعد خمس سنوات ودفع رسوم.
بعد عودته إلى بغداد، عمل جبرا فى العلاقات العامة لشركة نفط العراق ثم وزارة الثقافة والإعلام العراقية. درس فى بغداد فى كليات مختلفة وأصبح أستاذا للغة الإنجليزية فى جامعة بغداد
أصبح جبرا مواطنا عراقيا. كان من أوائل الفلسطينيين الذين كتبوا عن تجربتهم فى المنفى. كان منزل جبرا الواقع فى شارع الأميرات فى منطقة المنصور ببغداد مكانًا للقاء المثقفين العراقيين.
كان الكثير من كتاباته يهتم بالحداثة والمجتمع العربى قاده هذا الاهتمام إلى أن يصبح فى الخمسينيات من القرن الماضى عضوًا مؤسسًا لمجموعة بغداد للفنون الحديثة، وهى حركة جماعية وفكرية للفنانين حاولت الجمع بين التراث الفنى العراقى وأساليب الفن التجريدية الحديثة. على الرغم من أن مجموعة بغداد للفن الحديث كانت ظاهريًا حركة فنية، فإن أعضاءها ضموا شعراء ومؤرخين ومهندسين معماريين وإداريين.
بعد وفاته فى عام 1994، انتقلت إحدى أقاربه وهى رقية إبراهيم، إلى العيش بمنزله فى بغداد. ولسوء الحظ، دمر المنزل عندما انفجرت سيارة مفخخة استهدفت السفارة المصرية المجاورة فى عيد القيامة فى عام 2010، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من الشارع وقتل العشرات من المدنيين. وقد تم فقدان الآلاف من رسائل جبرا وأمتعته الشخصية فى هذه الحادثة إلى جانب عدد من لوحاته
حاز جبرا العديد من الجوائز والأوسمة أهمها جائزة «تارغا يوروبا» للثقافة من إيطاليا فى 1983، جائزة الآداب والفنون من مؤسسة الكويت للتقدم العلمى سنة 1987، جائزة الإبداع فى الرواية من بغداد فى 1988، وسام القدس للثقافة والفنون والآداب من فلسطين فى 1990 وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من رئيس الجمهورية التونسية سنة 1991، جائزة «ثورنتون وايلدر» للترجمة من جامعة كولومبيا الأميركية فى 1991.
ولا تزال أرض فلسطين الأبية تقدم للعالم نموذجًا فى المقاومة بكل ما توفر لها من إمكانيات بداية من الحجر وحتى القلم فتركت لنا ميراثًا أدبيًا غنيًا تتوارثه الأجيال ويتغنى به الشرق.. يحمل أدبها معنى واحدًا «عاشت فلسطين حرة».