أسامة سلامة
يافطة دكتور
لا بد أنك صادفت فى حياتك هذه الشخصيات، عندما تقرأ المتوالية القصصية «يافطة دكتور» للباحث والكاتب الدكتور سامح فوزى تدرك على الفور أن أبطالها شخصيات من لحم ودم، نماذج وأنماط من البشر شاهدتها وتعاملت معها، لكن سامح فى كتاباته لا ينقل ما يحدث فى الحياة نصا، بل يغوص فى أعماق النفس البشرية ويشرحها لتصل رسالته بسلاسة وبساطة، استعمل سامح طريقة المتوالية القصصية فكل الشخصيات مرتبطة ببعضها بشكل ما وتتماس حياتهم معا رغم أن كل بطل له فصل خاص به يشكل قصة قصيرة مستقلة بذاتها، وهنا براعة الكاتب فى المزج بين القصة القصيرة والمتوالية القصصية، يكمل سامح فى هذا العمل طريقه الأدبى بعد روايتيه الرائعتين «حدث فى برايتون» و«مع تحيات إبليس» وكلتاهما تجربة رائعة وأبطالهما شخصيات حقيقية أو كأنها حقيقية من فرط دقة رسمها، فالروائى هنا يعرف كيف يستخدم خبراته ومشاهداته فى إيصال رسالته الإنسانية والفكرية مغلفة بالأدب والإبداع دون أن يقع فى خطيئة الوعظ والإرشاد المباشر والخطابة الفجة، وهو نفس الأسلوب والنهج الذى أكمله فى متوالية «يافطة دكتور» الصادرة مؤخرا عن دار العربى للنشر، فى هذا العمل خمس شخصيات يربط بينهم المقهى الذى يلتقون فيه، طبيب ومهندس بشركة مستحضرات تجميل ومحاسب ورث عن أبيه شركة كبرى ومحامى فى شركة خاصة ومدير بأحد البنوك، الخمسة اعتادوا أن يذهبوا إلى المقهى، ولكن ما الذى جمع بينهم؟ «الأصدقاء الخمسة جمعهم المقهى وتشابهت شخصياتهم وميلهم إلى التكتم وعدم الحديث فى شئونهم الخاصة، لكل منهم سبب وعذر وخبرة وحكاية ولكن تلاقت نفوسهم بعد أن أعياهم الصمت الداخلى فقرروا أن يفتحوا قلوبهم وأزالوا ختم الحذر من فوق أبواب عقولهم»، ومن خلال حكاية كل واحد منهم يحلل الكاتب المجتمع المصرى، ويطرح أسئلة مهمة حول مصير الإنسان ومستقبله، وهل يمكن أن يتغير عما شب عليه؟ أم أن مصيره وطريقه مرتبط بالبيئة التى نشأ فيها ولا يمكنه الفكاك منها؟ وساعد الكاتب فى مهمته خبراته المتعددة والمواقع التى يتولاها والتى منحته قدرة كبيرة فى تحليل الشخصيات والواقع الذى تعيشه فهو يعمل كبير باحثين مكتبة الإسكندرية وعضو المجمع العلمى المصرى وعضو لجنة تطوير الإدارة الثقافية وتشريعاتها بالمجلس الأعلى للثقافة كما أنه حاصل على الدكتوراه فى الإدارة العامة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والماجستير من جامعة ساسكس ببريطانيا.
أبطال القصص الخمسة مختلفون فى وضعهم الأسرى وفى طريقة نشأتهم وتربيتهم وجمعتهم الأقدار وقرب بينهم الألم والوحدة، فى القصة التى تحمل عنوان المجموعة «يافطة دكتور» بطلها يوسف الذى ولد فى «أسرة منضبطة حياتها هادئة إلى حد الرتابة وبطيئة إلى درجة الملل»، الأب جراح عظام مشهور والأم طبيبة أمراض نساء ناجحة، الاثنان مشغولان بعملهما هما كما وصفهما المؤلف آلات بشرية متحركة، أسدل عليه والداه الرعاية المفرطة إلى حد العزلة عن العالم، فنشأ لا يعرف الكثير عن الحياة ولا يستطيع مواجهة تقلباتها، تخرج في كلية الطب وتخصص فى أمراض القلب ظنا منه أنه يتمرد على والديه وظل هاجسه أن يكون مستقلا عنهما ولذلك رفض وضع يافطة تحمل اسمه فى عيادتهما، أفلت من عيادة والديه ولكنه لم يفلت من الزواج من طبيبة رشحاها له، وانتقلت تبعيته إلى الزوجة القوية المسيطرة ووضع يافطته مع يافطتها فى عيادتها التى ورثتها عن والدها، وظلت حياته مملة بطيئة، وفجأة تموت الزوجة بعد إصابتها بفيروس كورونا، وواجه الأرمل الشاب واقعا مختلفا وقادته خطواته فى لحظة ما إلى المقهى وهناك تعرف على أربعة أشخاص، وبدا له أن فى الحياة تقاطعات كثيرة وليست كلها خطوطا متوازية، ولكن فى النهاية وبعد صراع مع النفس أدرك أنه من الصعب عليه تحمل الانفتاح على الناس وتفاعلات الدنيا المضطربة فحمل يافطة تحمل اسمه ووضعها على باب عيادة والديه منتظرا منهما ترشيح عروس أخرى، وفى قصة «دليل عذر» يغوص المؤلف فى دهاليز عالم المحاكم والمحامين وكتبة الجلسات من خلال أحمد المدير بأحد البنوك الذى تعرض لأزمة كبيرة بعد أن زور شخص لا يعرفه توقيعه على شيك، ومن خلال رحلته فى المحاكم والنيابات وأقسام الشرطة من أجل إثبات براءته يكشف المؤلف أساليب المحامين وألاعيب الموظفين، وفى النهاية يحصل على البراءة بعد أن اكتسب تجربة رائعة قادته لتغيير حياته ونظرته إلى الدنيا، أما قصة «تتجوزينى» فبطلها يملك شركة ورثها عن أبيه وهو شخص حساس متضخم الذات لا يحب أن ينتقده أحد، ولكنه لا يستطيع الإقدام على الزواج وكلما ارتبط بإنسانة واقترب موعد الزواج يتهرب منها رغم أنه لا يعانى من مشكلات صحية وينتهى به الأمر فى عيادة طبيبة نفسية يشكو لها مشكلته النفسية ولكنه يجد نفسه بعد عدة جلسات يطلب منها الزواج، وفى قصة «شقة بالشروق» يتحدث المؤلف عن الخيانات الزوجية ومتاعب الزوجة بعد الطلاق، وحال الأب عندما يرى بنته وقد أصبحت مطلقة وترعى أبناء، وفى النهاية تتزوج بصديق طليقها بعد أن رأت فيه العوض ورأى فيها إنسانة عاقلة يمكنها أن ترعى ابنه من زوجته المتوفية، القصة الخامسة «عودة مسيلمة» لا بد أنك اصطدمت ببطلها فى عملك فهو نموذج للوصولى المنافق الذى يرتقى فى المناصب على حساب زملائه فهو يتقرب لرئيسه من خلال الدس لهم وإيغار صدره عليهم ليبعدهم وينفرد به، وينجح فى مهمته ولكن المؤسسة أو الشركة تفشل بسبب إبعاد الكفاءات ما يجعل القيادات تبعد رئيسها وتأتى بآخر يدرك ما فعله مسيلمة الكذاب فيقصيه من موقعه. سامح فى قصصه ومتواليته يقودنا لطرح أسئلة تبدو فلسفية ومتعلقة بالنفس البشرية ولكنها غير منفصلة عن الواقع والحياة.