تتار المسلمين فــك شفـــــرة الحشاشين "2"
إيهاب عمر
وسط جميع جماعات الإسلام السياسى التى مارست الإرهاب والقتل وسفك الدماء لأسباب وأجندات سياسية بحتة، تحتفظ طائفة الإسماعيلية النزارية أو كما يطلق عليها طائفة الحشاشين بموقع فريد، فهى أول تنظيم وظيفى فى تاريخ الدين الإسلامى، هى أول تنظيم فى مؤامرة الإسلام السياسى وظاهرة صناعة الأصولية الإسلامية.
ولكن الطائفة النزارية أو الحشاشين تختلف عن جميع فرق الإسلام السياسى فى أنها استطاعت بسيرتها أن تنصب فخاً عبر الأجيال، فخًا وقع فيه المثقفون والمستشرقون على حد سواء، هو «الأسطورة» التى سطرها المستشرقون وكتابات المفكرين الغربيين عن الحشاشين، وفخ المثقفين فيما يسمى بالعالم العربى والإسلامى أو المشرق الذين نقلوا عنهم تلك الكتابات دون مراجعة تذكر، فى ظل ظاهرة مؤسفة ضربت حركة الثقافة فى مصر، حيث تحول المؤرخ إلى جامع نصوص قديمة من كتب سابقة على أن يقدم بتلك الملخصات كتابا أو مقالا جديدا دون أن يمارس دور المؤرخ الحقيقى فى التحقيق التاريخى والعلمى فى مصداقية وحقائق تلك النصوص.
ومع صعود الجماعات الأصولية فى القرن العشرين، مثل تنظيم الإخوان والتنظيم الدولى للإخوان والأفغان العرب والقاعدة وطالبان وصولا إلى القرن الحادى والعشرين حيث جماعات داعش وتركستان وبوكو حرام، فإن حالة تقديس طائفة الحشاشين قد زادت، ووقع الكثيرون فى هذا الفخ، حتى ممن ينصب نفسه باعتباره رافضا لأفكار الإرهاب الإسلامى المسمى بالجماعات الإسلامية أو الإسلام السياسى أو الأصولية الإسلامية.
ولعل أبرز أدوات تقديس الحشاشين هو تلك الهالة الأسطورية عن «عجائب الحشاشين»، أو أن نشأتهم كانت بمجهود عصامى من مؤسسهم وكبيرهم حسن الصباح، ومصدر هذه «العجائب» هو كتابات المفكرين فى الغرب الذين تحدثوا عن حسن الصباح والحشاشين كما لو كنا نشهد فصلا جديدا من «الف ليلة وليلة»، وطرب بعض العرب والمسلمين لهذه القصص وظنوا أن بها مجداً ما أو سحرا متعلقا بحضارتهم.
ولعل أولى ملاحظات مناهج البحث العلمى المتعلقة بكتابة التاريخ، هو أن مذكرات حسن الصباح وجميع وثائق الطائفة الإسماعيلية النزارية أو الحشاشين الذين أسسوا الدولة الإسماعيلية فى إيران والدولة الإسماعيلية فى سوريا، قد احترقت على يد جيش المغول بقيادة هولاكو عام 1256، وبالتالى لا يوجد مصدر «إسماعيلى» واحد لكل تلك القصص.
والحاصل أن بعض المؤرخين الفرس فى حاشية هولاكو قد اطلعوا على بعض كتب الحشاشين أثناء حرق قلعتهم المعروفة بقلعة «ألموت»، وعبر تلك الكتابات المبتورة والسريعة وصل لنا بعض من نصوص وثائق قلعة ألموت، وهى كتابات بدورها مبتورة وغير موثقة، كتبها من قرأ النصوص الأصلية بينما الجيش المغولى يهدم القلعة الإسماعيلية للأبد.
وكان المصدر الثانى عن طائفة الحشاشين هو مؤرخى الإمارات الصليبية فى الشام والأناضول فى زمن الحملات الصليبية، والحاصل أن الدولة الإسماعيلية فى سوريا قد تحالفت مع إمارة إنطاكية الصليبية ضد الدولة الزنكية وحاكمها نور الدين زنكى فى حلب وخاض الحشاشون مع الصليبين معركة عناب فى 29 يونيو 1149 التى انتصر فيها نور الدين زنكى بل وتم قتل ريموند الثانى أمير أنطاكية وعلى بن وفا أمير الحشاشين.
ولاحقاً أصبح الحشاشون فى سوريا يدفعون الجزية لتنظيم «فرسان الهيكل»، ولاحقاً إلى تنظيم فرسان الإسبتارية (فرسان مالطا) وكلاهما طائفة دينية مسيحية مسلحة شاركت فى الحروب الصليبية على دول الإسلام بالمشرق.
ولعل هذه العلاقة بين الحشاشين والصليبين هى ما جعلت الكثير من مثقفى ومؤرخى الشرق وتالياً المستشرقين يكتبون عن الحشاشين بنوع من الانبهار، وبالتالى كان يجب على المثقف والمؤرخ فى المشرق أن يخضع تلك الكتابات للتدقيق الشديد ومعرفة ما بين السطور وأهداف تلك السطور بدلاً من النقل الحرفى منها دون تدقيق.
إن أول من أيقظ سيرة الحشاشين فى العصر الحديث وصنع أسطورة تمجيد الحشاشين هو المستشرق البريطانى الأمريكى برنارد لويس ذو السمعة السيئة فى جميع المحافل الأكاديمية المحترمة، فهو صاحب خريطة تقسيم المقسم فى الشرق الأوسط، وهو أول من استخدم مصطلح صدام أو صراع الحضارات عام 1957.. هو صاحب الخرائط الجديدة لدول المشرق، حيث ناقش الكونجرس تلك الخرائط عام 1983، إن أغلب خرائط الربيع العربى والغزو الأمريكى على العراق هى خرائط برنارد لويس، نص لويس على تقسيم العراق إلى شمال كردى سنى ووسط عربى سنى وجنوب شيعى، أليس هذا ما طبقه بوش الابن فى عراق ما بعد صدام عام 2003؟
دعا لويس إلى دولة كردستان الكبير بين الأقاليم التى يقطنها الكرد فى سوريا والعراق وتركيا وإيران، أليست تلك الأفكار التى رددها الانفصاليون الكرد السوريون والأتراك حينما صنع الغرب لهم جمهورية “روج آفا” (ما يسمى بمنطقة سوريا الديموقراطية) شمال شرق سوريا عام 2016 أثناء الربيع العربى؟
نص لويس على تقسيم السودان إلى شمال مسلم وجنوب مسيحى ودولة للنوبة، ألم يستقل جنوب السودان عام 2011 وفقاً لهذا التقسيم؟
طالب لويس بدولة لأقباط إثيوبيا، ودولة قبطية ثانية فى جنوب مصر مع تقليص مساحة مصر إلى شمال مسلم وتهجير المسيحيين إلى الصعيد حيث دولة الأقباط المقترحة، وضم النوبة المصرية إلى النوبة السودانية فى دولة واحدة، وضم الصحراء الغربية المصرية إلى دولة البربر من سيوة إلى المغرب، وفى شمال إفريقيا يتم إنتاج دولة فى دارفور السودان، ودولة لـ البوليساريو، مع خصم كل ما سبق من مساحات ليبيا والمغرب وتونس والجزائر.
وقبل الحرب السورية بثلاثين عاماً، طالب لويس بتقسم سوريا إلى جمهورية دمشق السنية وجمهورية حلب السنية، والجولان الدرزية ودولة الساحل السورى للشيعة الشوام، وللمفارقة فإن سوريا قسمت لبعض الوقت أثناء الحرب إلى هذه الخريطة بالفعل قبل التدخل الروسى فى سوريا أواخر عام 2015.
من تفكيك القضية الفلسطينية واعتبار الأردن هى فلسطين، الصيحة التى رددها “أرييل شارون” رئيس الوزراء الإسرائيلى أوائل القرن الحادى والعشرين إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية وصولاً إلى سلخ “بلوشستان” من باكستان ثم تصويت الكونجرس الأمريكى بعد ثلاثة عقود وفى زمن باراك أوباما على حق هذا الإقليم فى طلب تصويت لتقرير المصير ما بين البقاء فى باكستان أو الاستقلال، تبدو خرائط برنارد لويس هى الملهم الأول للحرب العالمية ضد الإرهاب ثم حروب الربيع العربى، وهى المهم الأول قبل ذلك لكتابات صامويل هنتنجتون عن حروب الحضارات.
ولكن قبل ذلك، كان برنارد لويس هو من استدعى إرث الحشاشين ولملمه من قصاصات المستشرقين والمؤرخين المسلمين وصنع بها كتاب «الحشاشين.. الفرقة الثورية فى تاريخ الإسلام» The Assassins: A Radical Sect in Islam عام 1967.
لم يكن اختيار التوقيت عبثاً، كانت الأفكار القومية والاشتراكية فى الشرق الأوسط قد هزمت فى يونيو 1967، وبدأ الغرب يرى أن الوقت ملائم لتسليم المنطقة إلى الإسلاميين برعاية إقليمية ودولية، وهكذا كان إيقاظ إرث أولى جماعات الإسلام السياسى عبر الأوساط الأكاديمية هو أحد أهم خطوات بعث الإسلام السياسى على يد الغرب فى الشرق الأوسط بعد هزيمة العرب فى يونيو 1967 وتعالى أصوات الإسلام السياسى من جديد بعد هزيمتهم السياسية على يد أنظمة القومية العربية الاشتراكية فى مصر وسوريا والعراق.
برنارد لويس هو أول من كتب ديباجة أن الحشاشين ذوو أفكار قريبة من إسلاميى القرن العشرين، سواء تنظيم الإخوان المسلمين أو الجماعات الوهابية فى الخليج العربى، وهو من حاول أن يقرب بين صفات وأفكار العميل البريطانى حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان وحسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين.
ومنذ أن أطلق برنارد لويس هذه الصيحة، أصبحت «موضة» المثقفين فى الشرق والغرب هو تشبيه حسن البنا بحسن الصباح، واعتبار الحشاشين هم جذور الإخوان، لماذا؟
لأن الغرب لا يريد للشرق أن يعترف أو يتفهم أن الإسلام السياسى هو صناعة غربية، بل يجب على الشرق أن يعتقد دائماً أن للإخوان والقاعدة وداعش وطالبان وبوكو حرام والنصرة والجهاد والجماعة الإسلامية وحزب التحرير جذور وتاريخ فى الشرق الأوسط وفى العصور السابقة من تاريخ الإسلام.
يجب أن يتغافل المجتمع عن الصناعة الاستخباراتية للإسلام السياسى والاصولية الإسلامية، وأن يستغرق فى مناقشات سفسطائية عن جذور التطرف والإرهاب فى فجر الإسلام والعصور الأولى من الإسلام، ولا يوجد افضل من طائفة الحشاشين لكى يلعب دور «النسخة الصفر» من تنظيم الإخوان.
مع احتراق مكتبة الحشاشين فى قلعة ألموت، وندرة المصادر التى تحدثت عن الحشاشين بموضوعية، أصبحت سيرة الحشاشين فى عواصم المشرق اشبه بالمرويات الشعبية وليس تراث تاريخى حقيقى، ولكن برنارد لويس لم يهتم بهذه الحقيقة، وانتشل من تلك الروايات الشعبية ما يزكى مخطط الغرب وقتذاك للمؤسسات الأكاديمية بـ»ابتكار» جذور للإسلام السياسى تبعد عنه شبهة الصناعة والاتهام بالعمالة للغرب.
حينما اختلف صلاح الدين الأيوبى سلطان مصر وسوريا مع رشيد الدين سنان شيخ الجبل وإمام الدولة الإسماعيلية (الحشاشين) فى سوريا، نسج الحشاشين قصص عن اختراقهم صفوف المعسكرات الأيوبية، وتداولها كل أعداء الأيوبى والدولة الأيوبية بعد ذلك، فلول الدولة الفاطمية فى مصر والدول الزنكية فى العراق والشام، والطوائف الشيعية التى أرادت أن تنتقم من سيرة الأيوبى لأنه انهى معاقلهم فى مصر وتحويلها من المذهب الشيعى للمذهب السنى
والحاصل أن الإساءة إلى سيرة صلاح الدين الأيوبى كانت بندا ثابتا فى المؤامرة على مصر والمشرق، فالأوروبيون بدورهم يحتفون بجميع تلك الكتابات للنيل من سيرة سلطان مصر الذى فرمل مشروعهم لاستعمار المشرق الإسلامى، وبالتالى لا عجب أن نرى احتفاء أوروبيًّا على يد المستشرقين بجميع تلك المرويات الشعبية التى لا دليل لها سوى أنها قصص أطلقها الحشاشون بأنفسهم على أنفسهم ولم يذكر فى كتب التاريخ إلا بعد رحيل السلطان صلاح الدين الأيوبى وفى أماكن بعيدة عن موضع الحدث فلا من كتبها عاصر تلك الازمة أو الأمكنة ولكنه يقتبس من دعايا الحشاشين ومرويات فلول الفاطميين والزنكيين ما يسيء لصلاح الدين الأيوبى فحسب.
وأذكر هنا واقعتين على وجه التحديد، ليس لهما أى ذكر فى كتابات المقربين من صلاح الدين الأيوبى، ولكنها كتبت أول مرة فى مؤلفات المؤرخ الحلبى ابن العديم، عُمَرْ بْنْ أَحْمَدْ بْنْ هِبَة اَللَّهْ بْنْ أَحْمَدْ بِنْ يَحْيَى بْنْ زُهَيْرْ بْنْ أَبِى جَرَادَةَ اَلْعَقِيلِى المولود عام 1192، بينما توفى صلاح الدين الأيوبى ورشيد الدين سنان عام 1193! فكيف لمؤرخ أن يتحدث عن معاصرته لأحداث مات أصحابها بينما هو فى عامه الأول، فلا يوجد أى أدلة تاريخية موثقة أو موثق بها أن «حشاشين الشام» قد اخترقوا معسكر صلاح الدين الأيوبى أكثر من مرة كما نقل لكم برنارد لويس من مرويات شعبية تدعى أنها كتب تاريخ كتبت فى عصور ولت وفاة كل أصحابها.
ولكن برنارد لويس لم يهتم، لم يهتم كيف عرف ابن العديم بهذه التفاصيل التى لم يحضرها سوى صلاح الدين الأيوبى، هذا إذا ما كانت الواقعة قد حدثت من الأساس!، ولم يهتم لويس بمناهج البحث العلمى والأكاديمى وكيفية كتابة التاريخ والتحقق منه، فالهدف لم يكن أكاديميا بل استخباراتيا بحتا فى إطار الحرب الثقافية التى جرت فى سنوات الحرب الباردة.
الواقعة الأولى سردها ابن العديم، أن زعيم الحشاشين سنان راشد الدين فى سوريا أرسل مبعوثاً إلى صلاح الدين الأيوبى وأمره أن يسلم رسالته اليه دون حضور أحد فأمر صلاح الدين بتفتيشه وعندما لم يجدوا معه شيئا خطيرا أمر صلاح الدين بالمجلس فانفض ولم يعد ثمة سوى عدد قليل من الناس، وأمر المبعوث أن يأتى برسالته، ولكن المبعوث قال: «أمرنى سيدى ألا أقدم الرسالة إلا فى عدم حضور أحد» فأمر صلاح الدين بإخلاء القاعة تماما إلا من اثنين من المماليك يقفان عند رأسه وقال: «ائت برسالتك».
ولكن المبعوث أجاب: «لقد أمرت بألا أقدم الرسالة فى حضور أحد على الإطلاق» فقال صلاح الدين: «هذان المملوكان لا يفترقان عنى، فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل» فقال المبعوث: «لماذا لا تصرف هذين الاثنين كما صرفت الآخرين؟».
فأجاب صلاح الدين: «إننى أعتبرهما فى منزلة أبنائى وهم وأنا واحد» عندئذ التفت المبعوث إلى المملوكين وسألهما: «إذا أمرتكما باسم سيدى أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟» فردا قائلين «نعم»، وجردا سيفهما وقالا: «اؤمرنا بما شئت» فدهش السلطان صلاح الدين وغادر المبعوث المكان وأخذ معه المملوكين.
لم يكن هنالك أى شخص مع صلاح الدين الأيوبى فى هذه الجلسة حتى يكون شاهداً، ولم يذكرها أيا ممن عاصروا صلاح الدين على لسانه أو على لسان أىٍّ من المقربين منه، مجرد مروية شعبية بين أعداء صلاح الدين، نقلها المؤرخ الحلبى كمال الدين ابن العديم ومن ثم وثقها برنارد لويس فى كتابه الذى أحيا سيرة الحشاشين فى القرن العشرين.
الأمر ذاته ينطبق على القصص الهزلية حول تسلل امام الحشاشين رشيد الدين سنان إلى خيمة صلاح الدين الأيوبى اثناء نومه، أو أن الحشاشين استطاعوا الوصول إلى فراش السلطان الأيوبى وترك خنجر فى هذا الفراش لدفعه إلى فك حصاره على قلاعهم فى الشام، فلا نجد فى كتابات المؤرخين الذين عاصروا الأيوبى لمثل تلك الروايات الشعبية، ولكنها ذكرت فى كتابات من تأثر بدعايا الحشاشين والفاطميين والزنكيين والفرس والشيعة والصليبين ضد السلطان الأيوبى على وجه التحديد.
لم يرغب برنارد لويس فى إيجاد جذور مزيفة للإسلام السياسى فى تاريخ الإسلام فحسب، بل حاول أن يترجم رغبة استخباراتية فى إحياء طائفة الحشاشين، وهو مسعى تحاول بعض الأجهزة الغربية التمهيد له عبر موجة من الأفلام السينمائية والوثائقية والعاب الفيديو، بالإضافة إلى الانضمام إلى طابور لا ينتهى من الكتاب والمستشرقين والمثقفين الغرب الذين لملموا كل كلمة مسيئة عن صلاح الدين الأيوبى من فارس إلى العراق ومن الشام إلى مصر ومن الحجاز إلى المغرب للإساءة إلى سلطان مصر الذى استرد بيت المقدس من أوروبا.
كنت تلك هى قصة استدعاء سيرة الحشاشين عشية تصعيد الإسلاميين فى دول الشرق عقب هزيمة القومية العربية الاشتراكية فى يونيو 1967، ولكن ما هى حقيقة الطائفة ومؤسسها؟.. هذا هو موضوع الحلقة المقبلة.