الإثنين 1 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الدحدوح «أيوب» الصحافة

«ليس أصعب من آلام ووجع الفقد.. فكيف إذا كان الفقد الولد البكر فلذة الكبد. حمزة ليس بضعة منى حمزة كان كلى. روح الروح وكل شىء»، بهذه الكلمات الممزوجة بالألم والصبر نعى الصحفى وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة فى قطاع غزة ابنه الأكبر حمزة الذى قُتل فى غارة إسرائيلية استهدفت سيارة كان يستقلها جنوبى القطاع.



حمزة لم يكن الضحية الوحيدة لعائلة الدحدوح، فقد شاهد هذا الأب وفاة 12 من عائلته منذ بدء عملية طوفان الأقصى فى غزة 7 أكتوبر الماضى، ومن بينهم ودع وائل الدحدوح زوجته واثنين آخرين من أبنائه وحفيده.. كل هذا وما زال وائل الدحدوح يُصر على تقديم صورة الحقيقة من القطاع المدمر، ونقل صوت الحق لضحايا العدوان الإسرائيلى.. فهو المثل الحى للمقاومة الفلسطينية بل أصبح الدحدوح أيقونة الصحافة وصوت الحرية الممزوج بدماء الشهداء.

 صوت الحرية

«هذا خيارنا وقدرنا ويجب أن نرضى به مهما كان، نحن أملنا أن يرضى الله عنا وأن يكتبنا مع الصابرين.. لحمزة ولكل الشهداء نقول بأننا على العهد، هذا طريق اخترناه طواعية وأعطيناه الكثير وسقيناه كما هو واضح بالدماء لأن هذا قدرنا ونحن ماضون. هذا هو التحدى الكبير».

كلمات وداع وائل الدحدوح شهد لها العالم أجمع، وبعد ساعات قليلة من مواراة جثمان ابنه الأكبر حمزة الثرى فى مقبرة بمدينة خان يونس، عاد الدحدوح مرة أخرى إلى عمله كمراسل صحفى نقل خلاله الصورة الحقيقية لقطاع غزة، بكل مهنية وحيادية رغم ما يحمله من آلام، وقد وافق مجلس إدارة نقابة الصحفيين المصرية بمنح وائل الدحدوح جائزة حرية الصحافة لعام 2024 باعتباره «رمزًا لصمود الصحفيين الفلسطينيين فى وجه العدوان الصهيونى الغاشم وآلة حربه الوحشية».

وقال هشام يونس وكيل نقابة الصحفيين: إن ترشيح الدحدوح يأتى تكريمًا لشهداء الصحافة الفلسطينية الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لنقل الحقيقة وفضح جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطينى والروايات الإسرائيلية وأكاذيب الإعلام الغربى.

«أنت الصابر»

وكان الشهيد حمزة الدحدوح قد كتب قبل مقتله بساعات عبر حسابه على منصة «إكس» موجهًا حديثه لوالده: «إنك الصابر المحتسب يا أبى، فلا تيأس من الشفاء، ولا تقنط من رحمة الله، وكن على يقين أن الله سيجزيك خيرًا لما صبرت».

وظهر الدحدوح فى موقف مؤثر وهو يلقى نظرة الوداع الأخيرة على نجله حمزة، حيث ظل يُقبل يد نجله «البكرى» مرات عدة، وهو يبكى بحرقة، لكنه ظهر بعد تشييع نجله بدقائق ووقف أمام الكاميرا وقال إننا «ماضون رغم الحزن والفقد، باقون على العهد فى هذا الطريق الذى اخترناه طواعية، وسقيناه بالدماء».

مضيفًا: «إن الإنسان يحزن ويتألم للفقد فكيف إذا كان الولد البكر؟»، وأشار إلى أن «نجله حمزة كان كل شىء بالنسبة له»، وأن هذه «دموع الحزن والفراق وليست دموع الخوف والجزع، دموع الإنسانية التى تفرقنا عن أعدائنا، نرجو أن يرضى الله عنا ويكتبنا مع الصابرين».

وأضاف الدحدوح فى كلمته للشعب العربى : «إن هذه الحال هى واقع الفلسطينيين الذين يودعون أحباءهم»، مناشدًا العالم لينظر إلى ما يحدث فى قطاع غزة، وما يتعرض له الناس والصحفيون هناك، مطالبًا العالم بأن يضع حدًا لهذه المجزرة قائلًا: «أتمنى أن تكون دماء ابنى حمزة آخر الدماء من بين الصحفيين والناس فى القطاع».

وأعلن المكتب الإعلامى الحكومى فى قطاع غزة أن قتل الصحفيين حمزة وائل الدحدوح ومصطفى ثريا يرفع عدد الصحفيين القتلى بغزة إلى 109 منذ بدء العدوان الإسرائيلى على القطاع، الدحدوح الذى اعتاد الجمهور رؤيته بالآونة الأخيرة وهو يودع أحباءه، كان قد ظهر قبل 3 أسابيع وهو يلقى نظرة الوداع الأخيرة على جثمان رفيق دربه سامر أبو دقة المصور الصحفى الذى قُتل فى قصف إسرائيلى على أحد مراكز الإيواء فى خان يونس، وتحديدًا فى مدرسة حيفا بعدما ظل ينزف ساعات، بينما نجا الدحدوح، وتعرض لإصابات بقى أثرها واضحًا على يده.

وباتت كلمة الدحدوح الشهيرة «معلش» التى قالها إثر مقتل عدد من أفراد أسرته فى 25 أكتوبر 2023، علامة مسجلة باسمه أخيرًا، على غرار منشور زميلته شيرين أبو عاقلة التى قُتلت فى شهر مايو من عام 2022 بالضفة الغربية: «بدها طول نفس.. خلى المعنويات عالية»، والذى أصبح جملة أيقونية تحفز الفلسطينيين على الصمود.

وكانت صحيفة لوموند الفرنسية قد ذكرت فى تقرير لها نهاية شهر أكتوبر من العام الماضى، أن وجه وائل الدحدوح صار معروفًا لدى المشاهدين بإطلالاته الكثيرة لنقل معاناة الشعب الفلسطينى.

وقالت لوموند: إن مساء 25 أكتوبر 2023 الذى تلقى فيه الإعلامى الفلسطينى نبأ مقتل أفراد من عائلته وهو على الهواء غيَّر حياته.

وفى 25 أكتوبر، وأثناء تقديم الدحدوح لرسالة صحفية يغطى بها أحداث العدوان الإسرائيلى على غزة ورده هاتف يفيد بتعرض المنزل الذى نزحت إليه أسرته للقصف، وعندما توجه الأب الملهوف إلى موقع القصف وجد المنزل مهدما.

استشهد فى ذلك اليوم ابن وائل الدحدوح، وابنته، وزوجته، وحفيدته.

وخطف الدحدوح اهتمام وتعاطف الجماهير العربية خلال تلك الواقعة عندما اقترب من جثمان ابنه محمود الملفوف بكفن أبيض والبالغ من العمر (17 عامًا)، ثم وهو يضم شام، ابنته الصغيرة ذات الستة أعوام، وحفيده الرضيع آدم الذى قُتل وهو ابن 45 يومًا فقط.

وشرح الصحفى وائل الدحدوح، تفاصيل استشهاد 12 شخصًا من أفراد عائلته فى إحدى غارات القصف الإسرائيلى التى شنت على قطاع غزة، حيث قال «أسرنا وعائلتنا أصبحت جزءًا واضحًا من ضمن أهداف القصف الإسرائيلى، فربما يتحول كل ذلك إلى أسباب لزيادة العزيمة والقوة لدى الفلسطينيين من أجل الاستمرار»، حسبما ذكرت وكالة أنباء «وفا» الفلسطينية.

وأضاف الـ«دحدوح»: إن لحظة استشهاد أفراد أسرته، كان يقوم بدوره كمراسل صحفى على الهواء يتحدث عن الغارات الإسرائيلية التى طالت مكان أسرته مساء يوم الأربعاء 25 أكتوبر الماضى، قائلا: «كنت أزيل الأنقاض وأجد أفراد أسرتى ما بين شهيد وجريح من بينهم حفيدى الذى لم يتجاوز الأشهر وابنى البالغ من العمر 17 عامًا وزوجتى وابنتى التى لم تتعدَ الـ7 أعوام». 

وعلى الرغم من الفجيعة وكسرة القلب، فإن الدحدوح، تمكن بشكل أسطورى من أن ينحى الحزن جانبًا، وأن يطلق مقولته التى جرى تداولها على نطاق واسع، وبلغات مختلفة، إذ قال من بين دموعه: «بينتقموا منا فى الأولاد؟ معلش. إنا لله وإنا إليه راجعون.. دموعنا دموع إنسانية وليست دموع جبن وانهيار.. وليخسأ جيش الاحتلال».

غير أن أكثر الأمور إدهاشًا فى مسار هذا الصحفى الشجاع والفلسطينى المناضل، هو أن الدحدوح عاد فى اليوم التالى إلى الشاشة، ليغطى أخبار الحرب، واضعًا واجبه الوطنى والمهنى قبل أحزانه على الفقد.