الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المسيح يُصلب من جديد فى غزة

المسيح يُصلب من جديد فى غزة

«أقبَلَ الربُّ بهدوء، والغريب فى الأمر أن جميع الناس عرفوه وانجذبوا إليه وأحاطوا به واحتشدوا حوله، أمَّا هو فتحرَّك بينهم صامتا بابتسامة لطيفة فيها رحمة لا حدود لها، وهو يمدُّ ذراعيه نحوهم ليباركهم، وتخرج منه قوة شافية بملامسته، أعاد النور إلى عينى أعمى وأحيا طفلة صغيرة ماتت، فينثر الأطفال الأزهار أمامه منشدين: مخلصنا، ويردد الجميع: إنه هو فلا يمكن إلاَّ أن يكون هو، ويقف عند دَرَج كاتدرائية مدينة أشبيلية، ويمُرُّ فى تلك اللحظة الكاردينال كبير المفتشين ويتوقف عند المشهد ويراقب الجموع المحتشدة عن بُعْد فيرى كل شىء صنعه المسيح، فيُظْلِمُ وجهه ويكفهِرُّ وتقدح عيناه نارا فيشير إليه بسبابته آمرًا الحرس بالإمساك به واعتقاله، وبسطوته، يُخضِع الشعب لإرادته خضوعا تاما، وعلى الفور يسجد الحاضرون أمامه فيباركهم صامتا وينصرف، أمَّا الحرس فيأخذون السجين إلى زنزانة ضيقة فى القصر المخصص لمحكمة التفتيش».



ما سبق هى سطور مختصرة من فصل «المفتش العام» من رواية «الإخوة كرامازوف» للكاتب الروسى «دوستويفسكى» وتخيل فيه أن المسيح عاد أيام محاكم التفتيش فى إسبانيا لينقذ الناس من بطش الكهنة وسطوتهم، ولكن ما حدث أن الكاردينال كبير المفتشين هو الذى حاكم المسيح.

فى الزنزانة يجرى حديث من طرف واحد، حيث لا يسمح المفتش للمسيح بالكلام، بل إنه يوبخ المسيح على عودته، ويقرعه على رفضه إغواءات الشيطان، ويتمحور حديثه حول أن المؤسسة الدينية الرسمية قبلت- على عكس تعاليم المسيح- صفقة تجمع فيها السلطة والمال وتسيطر على الأخلاق، ووافقت على تحمل عبء حرية الناس بدلاً عنهم لأنها تضر بهم، ويحمل كلام المفتش كثيرا من الاتهامات التى يوجهها للمسيح، يقول له: «لماذا إذن تأتى اليوم لعرقلتنا؟، أنا لا أعرف مَنْ أنتَ ولا أريد أن أعرف إذا كنتَ أنتَ هو حقا، أو مجرد طَيْفِه، غير أنى سأحكم عليك غدا بالإعدام، وسأحرقك على الخشبة مثلما يُحرَق أسوأ الهراطقة وسيهرع غدا الناس أنفسهم الذين كانوا يُقَبِّلون قدميك اليوم، وبإشارة بسيطة مني، ليزيدوا من ركام الجمر للنار التى ستحرقك».. وأردف: «أنتَ وهبتَ كل شىء للبابا، لذلك فإنَّ كل شىء لا يزال بيد البابا، فلا داعى لمجيئك الآن على الإطلاق، وكان يجب عليك ألا تتدخَّل حاليا»، ويستمر المفتش فى محاكمة المسيح ويلومه على مقولاته عن الحرية وتحرر الإنسان: «ألم تقُلْ فى أكثر الأحيان: «سأحرركم؟، لقد أكملنا عملنا باسمك فقد صارعنا خلال خمسة عشر قرنا الحرية التى أعطيتنا إياها، ولكن الأمر انتهى وإلى الأبد»، ويواصل قائلا: «أترى هذه الحجارة فى هذه البَريَّة القاحلة الجرداء؟ حَوِّلْها إلى خبز فتهرع إليك البشرية كقطيع غنم، وتصبح شاكرة لك ومطيعة إياك، ولكنها ستظل ترتعش خشية أن تسحب يديك منها، وتُحرمها من خبزك»، ويعنفه: «لقد رفضتَ الملك الذى عرض عليك قائلا لنفسك: «ما قيمة الحرية لو تُشترى الطاعة بالخبز؟»، لقد أجِبتَ بأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، ولكن أتعلم أن روح الأرض ستثور عليك من أجل هذا الخبز الأرضى نفسه، وتقاتلك وتغلبك، ولذا سيبحثون عنا وسوف يجدوننا ويصرخون لنا مستغيثين: أطعِمونا، لأن الذين وعدونا بنار من السماء، لم يعطونا إياه، ونحن وحدنا سوف نطعمهم باسمك، معلنين زورا أنه باسمك وفى النهاية سوف يضعون حريتهم عند أقدامنا قائلين لنا: اجعلونا عبيدا لكم، ولكن أطعِمونا».

ويستمر كبير المفتشين فى هجومه «لقد أصلحنا العمل الذى قمتَ به، وأسسناه على المعجزة، والسِرِّ، والسُّلطة، وابتهج الناس بأنهم يُساقون كالقطيع فلماذا جئتَ الآن لعرقلتنا؟، أنا لا أريد محبتك، لأنى أنا نفسى لا أحبك، وسترى غدا هذا الجمهور المطيع يسرع بإشارة منى إلى تكديس الرماد الساخن حول كومة الحطب التى سأحرقك عليها، لأنك جئت لإعاقة عملنا وإذا كان هناك مَنْ يستحق الهلاك بنيراننا، فهو أنتَ.. وغدا سأحرقكَ وهذا قرارى».. توقف المفتش الكبير عن الكلام، انتظر ردًّا من السجين، ولكن المسيح اقترب منه وقَبَّلَه فارتعش وذهب إلى الباب وفتحه وقال له: «اذهب، ولا تأتِنا بعد.. لا تأتِ على الإطلاق، أبدًا أبدًا»، وأخلى سبيله ليخرج إلى الأزقة المظلمة للمدينة».. ماذا لو تخيلنا مثل دوستويفسكى أن المسيح عاد إلى غزة والقدس وبيت لحم وشاهد ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين ورأى المجازر التى يقوم بها جيش الاحتلال بمباركة زعماء الغرب المسيحيين، والتباهى بقتل الأطفال والنساء والعزل واستهدافهم بوحشية لم تحدث من قبل، وقصف الكنائس والمساجد والمستشفيات ومنع الأدوية والأغذية عن الجرحى والمرضى، والتطهير العرقى والإبادة الجماعية، سيبكى المسيح حزنا على تعاليمه التى أهدرها أتباعه ولكن زعماء الغرب لن يتركوه وسيفعلون معه مثلما فعل الكاهن الأكبر فى قصة ديستوفسكى سيحاكمونه ولن يسمحوا له بالكلام، وسيتهمونه بأنه إرهابى ويدافع عن الإرهابيين وأنه معادٍ للسامية وضد الصهيونية، وسيقولون له زورا وكذبا نحن ندافع بكل هذه الدماء عن تعاليمك، وسيزعمون أنهم يحمون حقوق الإنسان وحرية الناس وتحررهم، وسيوبخونه لأنه قال: «مملكتى ليست فى هذا العالم»، فهم يفعلون كل هذه الجرائم من أجل مملكة العالم، وإذا كان كبير الكهنة عند ديستوفسكى طلب من المسيح الخروج من الزنزانة فى الظلام وعدم العودة مرة أخرى فإن زعماء الغرب المسيحيين وحتى يضمنوا عدم عودته وباسم المسيحية سيصلبون المسيح من جديد فى غزة.