الأربعاء 7 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
أكتوبر الانتصار سنة 1973

أكتوبر الانتصار سنة 1973

كان يوم خريفى صحو خرجنا فيه من المدرسة الثانوية بعد نهار دراسى طويل بعد الثانية ظهرًا بدقائق قليلة، نشعر ببعض الإعياء من جراء الصيام الذى اعتدنا على قسوته بعد مرور عشرة أيام من بداية الشهر الكريم، نتبادل أنا وصديقاتى أحاديثنا اللطيفة بصخب محبب وضحك برىء نسلى أنفسنا فى طريق العودة لمنازلنا، كل شىء وقتها حولنا كان وكأنه معتاد وتقليدى مثل كل الأيام السابقة إلا بعض الهمهمات والصيحات العالية الفرحة التى تصاعدت وتعالت حولنا من المحلات ورواد المقهى وبائع الصحف والمارة فى الطريق والارتباك الذى بدا ملحوظا على قائدى السيارات فى نهر الطريق ومسلك سائق الأتوبيس الذى انتحى بمركبته جانبًا وعلى نحو مفاجئ ونزل يجرى من الأتوبيس صوب المقهى وهو يصرخ فرحًا، كل هذا نبّهنا لحدث عظيم انتظرته بيوتنا وأسرنا ونحن الصغار معهم طويلاً، الحرب قامت.



لنعيش منذ ذلك اليوم السادس من أكتوبر 1973 وبَعدها أيامًا جديدة سعيدة فى حياتنا وحياة الوطن الغالى مصر، أيام ذات مذاق مختلف عن كل العلقم والمُرّ الذى تجرعناه منذ هزيمة 67، تلك الهزيمة التى خبرتُ وطأتها ومرارتها وأنا طفلة صغيرة من نحيب أمّى وحزنها وغضب أبى وصمته وليالى الظلام والوحشة وخطاب التنحى والقهر الذى وشم أرواح المصريين بقسوته والبيوت التى فقدت أبناءها وأعز رجالها واليُتم الذى طالنا جميعًا ومعه عار احتلال الأرض وضياعها، تلك الهزيمة التى تجرّعنا معناها ومرارتها ونحن نلهو صغارًا فى الشارع خلف جدران وحواجز الطوب الأحمر القبيحة التى بُنيت أمام مداخل البيوت والعمارات لتحميها شر الارتدادات الانفجارية وقتما تتجرأ إسرائيل وتلقى بقنابلها بلا شرف وبدناءة على المدنيين وسط المدينة، هزيمة عرفنا قبحها وقسوتها وأهالينا يطلون النوافذ بالطلاء الأزرق الثقيل الكئيب ليحجب عن طائرات العدو أماكننا وبيوتنا ويحجب عن قلوبنا أشعة الشمس والضياء وطاقات الأمل.

الحرب قامت، جملة وأمَل وحلم، انتظرناها طيلة سنوات ثقيلة مرّت والمصريون يتمنون ويستعدون ويسعون ويحلمون بتلك اللحظة عبر أوقات طويلة متناقضة المَشاعرعشناها فى تلك السنوات السّت لتتحدث بيوتنا صغارًا وكبارًا ليل نهار عن إعادة بناء القوات المسلحة والتبرع للمجهود الحربى وانتصار معركة رأس العش وحفلات أم كلثوم لدعم إعادة بناء القوات المسلحة وصمود جزيرة شدوان وبأس حرب الاستنزاف وعزيمة بناء حائط الصواريخ وجريمة مدرسة بحر البقر وضرب مصنع أبو زعبل، نتحدث ليل نهار عن جيش يُعاد بناؤه وقادة يخططون للنصر ومقاتلون يسعون لاسترداد الكرامة وتحرير الأرض وجيل منح الوطن وكرامته وعزته خيرة أبنائه، مقاتلون وجنود وأبطال يرابضون فى الدشم والخنادق سنوات خلف سنوات ينتظرون يوم الثأر ولحظة العبور وساعة النصر ويستعدون بالتدريب والجهد والعَرَق والإخلاص والعقيدة الوطنية لتحقيق هذا الأمل الوطنى باسترداد الأرض والكرامة وشعب يُسَخر كل طاقاته وجهده وأمله لانتصار و.. الحرب قامت.

الحرب قامت ظهر السادس من أكتوبر 1973 وتلاحقت البيانات العسكرية الأول والسابع والعاشر والخامس والعشرون وأكثر نسمعها فى الراديو ونتابعها فى نشرات الأخبار فى التليفزيون ونقرأها فى الصحف اليومية الثلاث تُخبرنا بعبور المقاتلين الأبطال صوب الأرض الغالية المحتلة لاستردادها وتطهيرها من خزى الهزيمة ودنس الاحتلال واقتحام خط بارليف المنيع وهدم الساتر الترابى بخراطيم المياه والضربة الجوية الأولى التى دكت المطارات ومراكز القيادة وقصفت ودمرت طائرات العدو فى مطاراتها وهناجرها وقبلها التمهيد النيرانى بالمدفعية لتأمين العبور والأبطال وتركيب رؤوس الجسور والكبارى وبطولة عبدالعاطى صائد الدبابات ورفع العَلم المصرى على ضفة القناة والقنطرة شرق وتدمير اللواء 190 مدرع وأسْر قائده العقيد عساف ياجورى ومعركة المنصورة الجوية ومعركة المزرعة الصينية ومذبحة الدبابات ومَشاهد أسْرَى الأعداء جالسين القرفصاء برؤوس مُدلاة وعيون كسيرة ورفع العَلم المصرى على طول القناة والتقدم فى سيناء صوب النصر والكرامة والفرحة.. الحرب قامت فعاش المصريون أيام الحرب ولياليها الطويلة يتابعون المعارك ونشرات الأخبار وملامح الانتصار العظيم الذى يكتب الجيش المصرى العظيم سيرته وأحداثه بمنتهى البطولة والعَظمة فى كتب التاريخ وسجلات الفخر والشرف الوطنى.

ويأتى ليل الرابع عشر من أكتوبر ليتَحَلّق المصريون جميعًا حول التليفزيون والراديو فى البيوت والشوارع يتابعون خطاب النصر الذى ألقاه الرئيس أنور السادات أمام مجلس الشعب، يصفقون ويهتفون فرحًا فخورين بقواتهم المسلحة وانتصارهم العظيم «إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً أمام عملية يوم 6 أكتوبر 1973» لتتعالى الزغاريد من كل البيوت «إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم 6 أكتوبر 73 حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياز خط بارليف المنيع وعبور الضفة الشرقية من القناة بعد أن أفقدت العدو توازنه، وترتفع الهتافات وصيحات الفرح والفخر»؛ فإن الواجب يقتضينا أن نسجل من هنا وباسم هذا الشعب وباسم هذه الأمّة ثقتنا المطلقة فى قواتنا المسلحة، ثقتنا فى قياداتها التى خططت وثقتنا فى شبابها وجنودها الذين نفذوا بالنار والدم..  ونبكى فرحًا وفخرًا حبًا وامتنانًا وتقديرًا واحترامًا لقواتنا المسلحة المصرية وقادتها ورجالها وأبطالها ومقاتليها الذين حرّروا الأرض ورَوَوها بدمائهم الغالية ورفعوا عَلم الوطن الغالى على ترابها واستردوا كرامة المصريين وكرامة مصر.

وهاهى خمسون عامًا مرّت من عمر الوطن وعمرى من يوم هذا الانتصار العظيم السادس من أكتوبر 1973 وما زلت أشعر الفرحة والفخر والامتنان.. خمسون عامًا عشت فيها النصر الغالى ومعناه الواقعى وقيمته الحقيقية، فأبدًا لم يكن انتصار أكتوبر فى قلوب المصريين ووجدانهم مجرد عبارة إنشائية ولا درس تاريخ فى المدرسة ولا احتفالاً فى التليفزيون؛ بل هو لحظة الحقيقة التى عشناها تجفف دموع المصريين وتجبر خاطرهم وقلوبهم وترد كرامتهم وتحرّر أرضهم المحتلة وتعيدها لحضن الوطن وحضنهم، انتصار أعاد للعسكرية المصرية هيبتها وقوتها ورد للمصريين كرامتهم وقدرهم العالى ورفع عَلم الوطن الغالى على أرضه الغالية.. انتصار عظيم رد لنا الكرامة والأمان وأزال من مَداخل بيوتنا الحواجز والجدران الواقية بطوبها الأحمر وقبح وجودها ومعناه الكريه.. انتصار عظيم أزال الطلاء الأزرق من على أرواحنا ونوافذنا وأعاد لها سطوعها وبهاءها وأشعة الشمس وطاقات الحلم والأمل والفخر.

هاهى خمسون عامًا مرّت على انتصار السادس من أكتوبر العظيم، وما زال قلبى يخفق ودموعى تنسال مع أغنيات الانتصار، أتذكر مرارة الهزيمة وقسوتها وأعيش فرحة النصر وعزته «عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة، باسمك يا بلادى تشتد العزيمة، باسمك يا بلادى عدّينا القنال، باسمك يا بلادى خطينا المُحال»، «حلوة بلادى السّمرا بلادى الحرة بلادى، الصابرة بلادى حلوة بلادى السّمرا بلادى الحرة بلادى الصابرة بلادى، وأنا على الربابة بغنّى ما املكش غير إنى أغنى وأقول تعيشى يا مصر يا مصر»، «رايحين رايحين شايلين في إيدنا سلاح، راجعين راجعين رافعين رايات النصر، سالمين سالمين حالفين بعهد الله، نادرين نادرين واهبين حياتنا لمصر».

هاهى خمسون عامًا مرّت على انتصار السادس من أكتوبر العظيم وأنا أتابع سيناء وما يحدث فيها من عمار وعمران وتنمية وتقدُّم وأرى أمام عينى المعنى الحقيقى الواقعى للانتصار العظيم وقيمته وأثره على الأرض وعلى مصر وعلى حياة المصريين، أتابع افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى لشرايين التنمية أنفاق سيناء الجديدة، نفقَىْ تحيا مصر بالإسماعيلية ونفقَىْ 3 يوليو ببور سعيد ونفق الشهيد أحمد حمدى 2 بالسويس والتى تمر أسفل قناة السويس وتربط سيناء بالوطن وقلبه.. أتابع اكتشافات البترول الجديدة فى أرض الفيروز وأتابع اتفاقيات التنقيب عن البترول والغاز فى سيناء.. أتابع مشروعات تنمية سيناء واستصلاح الأراضى والتجمعات العمرانية الجديدة ومحطات معالجة وتحلية المياه والمشروعات الزراعية والصناعية واستزراع الأسماك والمدن الجديدة وغيرها من الأنشطة التنموية فى مختلف المجالات.. أتابع مؤتمر المُناخ «COP 27» الذى استضافته مدينة شرم الشيخ فى جنوب سيناء والذى حضره أكثر من 66 ألف مشارك من كل أنحاء العالم من الرؤساء والقادة والمسئولين الحكوميين والمنظمات الدولية والأهلية والمهتمين بالمُناخ.. أتابع تطوُّر وتقدُّم السياحة فى سيناء وتطوُّر المقاصد والمنتجعات السياحية وزيادة عدد السياح وتنوُّع الأنشطة السياحية هناك من السياحة الشاطئية للدينية للثقافية للبيئية وسياحة السفارى والمؤتمرات.. أتابع كل هذا وأكثر فأبكى فرحًا وأبتسم فخرًا بانتصار أكتوبر العظيم الذى لولاه ولولا بطولة قواتنا المسلحة وبطولة مقاتليها ورجالها الأشداء لبقيت الأرض الغالية محتلة سلبية وبقى قلب الوطن مجروحًا وعشنا ملطخين بالعار محرومين من أرضنا وكرامتنا.

إنه الانتصار العظيم انتصار السادس من أكتوبر 1973 الذى عشناه ولا نزال نعيشه حتى اليوم بكل معانيه وآثاره على حياة الوطن وحياتنا..

المَجد كل المَجد للقوات المسلحة المصرية وأبطالها ومقاتليها، المَجد كل المَجد لشهداء الوطن الذين رَووا أرض سيناء بدمائهم العطرة فأثمرت فى حياة مصر أمانًا وكرامة وفخرًا وعزة وهيبة وتنمية.