الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رسالة إلى الحوار الوطنى..  الأوطان تتقدم بالمفاهيم وليس بالتفاصيل

رسالة إلى الحوار الوطنى.. الأوطان تتقدم بالمفاهيم وليس بالتفاصيل

فجأة حلقت فكرة هذه الرسالة فى ذهنى بإلحاح، لم تخطر على بالى من قبل، فالكاتب يوجه كلامه إلى عموم الناس، يحاورهم فى شأن ما أو يبلغهم شيئا يراه مهما أو ينقل لهم تجربة تضيف إلى خبراتهم تجارب إنسانية مختلفة أو يفسر موقفا من وجهة نظره أو يلجأ إلى الفانتازيا والسخرية للتخفيف وشد الانتباه إلى قضايا فنية وتعليمية.. وهكذا.



 

لكن رسالة إلى مؤتمر الحوار الوطنى أمر مختلف، فبالرغم من كل ما يقال أو لا يقال، أؤيد منهج الحوار الوطنى وفلسفته، وأراه عملا مهما، أو على الأقل محاولة لتقف أطياف المجتمع المصرى أمام المرآة، بلا مكياج أو أقنعة، وتسأل نفسها السؤال الوجودي: ماذا نريد؟ وكيف «نقب على وش الدنيا»؟، وتعبير وش الدنيا تعبير «ولاد البلد» عن تعديل الأحوال والانتقال بها من «الزنقة» إلى السعة، من الصعوبة إلى اليسر، من السؤال إلى الإجابة!

أى أن المؤتمر والمشاركين فيه بكل أطيافهم الوطنية «يقفون» على خشبة المسرح العام أمام كل المصريين، مطالبين بحتمية الرد على تساؤلاتهم ومخاوفهم..أيا كان نوع الرد.

وفى الحقيقة الذى دفع بفكرة الرسالة إلى عقلى هو نقاش بالمصادفة مع رجل قانون مرموق، اقترب فى زمن فات من «شخصيات كبيرة لها حيثيات دينية وسياسية، وطبيعى أن تكون أحوالنا هى «الشغل الشاغل»، وفى وسط الكلام أطل السؤال الصعب برأسه: ما هى الأسباب التى أعاقت مصر الحديثة عن الخروج من نفق التخلف والفقر إلى رحابة التقدم والإنتاج، بالرغم من التجارب العديدة التى خاضتها، منذ أول القرن التاسع عشر مع محمد على باشا ولأكثر من مئتى سنة..

وقررت أن أنقل ما دار بيننا فى رسالة إلى جلسات الحوار الوطنى، ليكون السؤال عاما والبحث عن الإجابات مسؤوليتنا جميعا، إجابات ليس بغرض فكرى أو جدل ثقافى، وإنما لنحول الأفكار إلى خريطة طريق وبرنامج عمل لو اتفق المجتمعون على تلك الإجابات، والنقاش المنقول مع رجل القانون المرموق هو مجرد دقة على الباب، لا أكثر ولا أقل.

 المهم فى هذا النقاش أننا اختلفنا كثيرا، والاختلاف علامة صحة، لأن الموافقة الجمعاء علامة مرض حاد يؤدى إلى الإعياء المجتمعى وانسداد الشرايين والعقم العام، باختصار لم نتفق إلا على بعض مسببات أراها غير جوهرية، كالجهل والفقر وضعف كفاءة الإدارة، فقاطعته قائلا: كلها أعراض مرض قديم منذ بدء التحديث وليست هى المرض، المرض فى نظم ممارسة أنشطة الحياة فى كل جوانبها من أول النظام الذى يضبط السير فى الشارع إلى النظام الذى يضبط دفن الموتى.

وحين فكر محمد على وخطط وأرسل بعثاته إلى أوروبا تتعلم وتترجم وتنقل، لم يهتم بالنظام العام الذى «يدير» حياة الأوروبيين من أبسط ظواهرها إلى أعقدها، وكان تركيزه على تفاصيل تتعلق بإنشاء جيش قوى حديث تدريبا وتسليحا، ترسانة بحرية، مدارس، بعض الصناعات الضرورية، وكل ما يسهم بقدر فى تحقيق طموحاته فى التوسع والعظمة.. وهكذا.

بالطبع شكل هؤلاء الذين سافروا وتعلموا ونقلوا وعادوا شريحة جديدة من المجتمع مع الذين ساروا على دربهم، شريحة مختلفة فى البناء العقلى والفكرى، بينما التيار العام للمجتمع ظل سابحا فى بركة الجمود والتقليد والتخلف السائدة منذ الاحتلال العثمانى.أى كان المجتمع منقسما بين قلة تقترب من عصرها وتحاول أن تعيش بقيمه وقواعده وأفكاره، وغالبية تبتعد عن عصرها ابتعاد سطح الأرض عن مركزها، وتحكمها قيم قديمة يستحيل أن تأخذ بيدها إلى عصرها، أو تشد مصر خارج كهف التخلف، والقيم غير الأخلاق..

القيم فى اللغة من مادة «قَوَمَ»، ومعانيها الاستقامة والاعتدال والثبات والدوام ونظام الأمر وعماده وإيفاء الشىء حقه، وقد يختلف التفسير نسبيا بين «التربية» والفلسفة، لكنها فى النهاية هى معيار اجتماعى مكتسب متصل بالنهج الإخلاقى للفرد والجماعة يقيم موازين السلوك ونهج الأفعال، وتُتخذ دليلا ومرشدا لمعرفة المرغوب فيه والمرغوب عنه، وتقود إلى أفضل اختيار ممكن، أى ترتبط بدوافع السلوك وتنظم النشاط الاجتماعى لكافة أفراد المجتمع، وتتحكم فيها المعرفة والشعور والعمل بها، ومن القيم: الدقة، الترتيب الطموح، الجودة، التعاون، السمعة، الاحترام، الإبداع، الإصرار، الحق، الاجتهاد، الشرف، التفوق، الإنتاجية، المعرفة، الصدق، الوطنية، الكفاءة، الفاعلية، التعلم، المبادرة، التسامح، الديمقراطية، احترام الوقت، الحرية، القيادة، النزاهة، الابتكار، الاحترافية، التركيز، العدالة، التميز.. إلخ، إذ يقدر عددها ما بين 170 إلى 200 قيمة، تتمتع الشعوب المتقدمة بأكثر من نصفها على الأقل.

أما الأخلاق فهى مجموعة الصفات النفسية للإنسان وأعماله التى توصف بأنها حسنة أو قبيحة كالأمانة، الإيثار، ضبط النفس، الحياء، المودة، الصبرن الحلم، الإحسان، الكرم، الرفق، الاعتدال، الوفاء، الرحمة، البر، القناعة، الألفة.. إلخ.

وبالطبع اكتسب الذين تعلموا فى أوروبا والذين تتلمذوا على أيديهم أو اتصلوا بالمعارف الأوروبية الحديثة وتأثروا بها سواء بالسفر أو بالتعليم فى الداخل أنواعا من القيم لم تكن موجودة فى بيئتهم، مثل احترام الوقت، والابتكار والإبداع، والعمل بجدية مفرطة، والتفكير العلمى المنظم.. إلخ، لكن هذه القيم لم تتسلل إلى النظام العام الذى يسير حياة المصريين جميعا، فظلوا على نظامهم القديم الذى له مثالب عديدة وثغرات عديدة، تنضح عوارضها فى كل جنبات الحياة: عملا وعلاقات، تنمية واقتصادًا وسياسة، ثقافة وعادات، وتتراكم بدوران الأيام إلى التهابات مزمنة فى الصحة والتعليم والثقافة والبناء والأحزاب والبرلمان والعمل والإدارة والأسواق والإعلام.. إلخ، وأى مراجعة لصفحات الصحف فى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع الصحف فى نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادى والعشرين، قد يصدمنا نوع الأزمات وحجمها، كأن الزمن لم يعدل إلا مظاهر الحياة دون جوهرها، الأزياء والأدوات والبناء والمواصلات.. إلخ، لكن العقل العام لم يواكب هذا التغيير، ولم ينتقل إلى عصره الجديد كليا. طبعا لأسباب تتعلق بنظام الحكم والتفاوت الطبقى وثقافة الامتيازات والاستثناءات، ولم يحاول أحد إصلاح النظام العام مطلقا، لأن الإصلاح يعنى تعديلا فى المراكز القانونية للطبقات والفئات وفق قانون الحداثة: مستوى التعليم والكفاءة والاجتهاد والمثابرة والقدرة على الابتكار والإبداع، ولهذا لم يكن غريبا أن بعد مئة وخمسين سنة من تجربة محمد على فى التعليم والبعثات الخارجية كانت نسبة الأمية فى مصر عند قيام ثورة يوليو 65 % بين الذكور و85 % بين الإناث، وبما أن أعداد الذكور والإناث فى مصر متقاربة جدا، فهذا معناه أن ثلاثة أرباع المصريين كانوا أميين.

ولم تكتمل نهضة التعليم التى سارت عليها مصر مع منتصف الخمسينيات حتى بدأت التراجع بعد عشرين سنة، وصار التعليم المجانى مجرد «تأدية واجب» روتينى منبوذ! 

 بالضرورة تنهك الأزمات المزمنة المجتمع وتستنزف طاقاته، فيبدو كالمريض المصاب بفقر دم حاد، وقد يتعاطى قدرًا من الثقافة والتنوير، فيستعيد قدرا من عافيته التى تظهر فى بعض نشاطاته الاقتصادية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية لفترة مثلما حدث مع محمد على باشا، والخديو إسماعيل، وسنوات ما بعد ثورة 1919، والستينيات.. وهكذا، لكن لغلبة القيم القديمة والثقافة القديمة ينكفئ المجتمع على وجهه مرة ثانية، وحين يفوق وينتبه يكتشف أنه تراجع كثيرًا عن مجتمعات كان يسبقها بمئات الأميال فى طريق الحضارة.

 والمسألة ليست أزمات اقتصادية أو سياسية، فكل المجتمعات تمر بها، لكن الأخطر هو العطب الذى يصيب العقل، فيعوقه عن التفكير العلمى المنظم، فيتسم كثير من تصرفاته العامة والخاصة بقدر من العشوائية تتسع وتضيق حسب الظروف، عشوائية يدعمها «اختراع التصالح» مع تصرفاتها فى مجالات متعددة من الأنشطة، وبالتدريج يهبط مستوى الأداء الفردى والجماعى فيه، سواء فى العمل أو فى الحياة الاجتماعية. 

وقطعا لا يخلو المجتمع من فئات وأفراد تحسن التفكير العلمى المنظم والتدبير المحكم والعمل الجاد، لكنها تظل تيارا محدودا، والمجتمعات تتطور وتنهض بتيار عام غالب حتى لو تفاوتت قدرات أعضائه. 

وسألنى رجل القانون المروق السؤال البديهي: من أين نبدأ؟!

قلت: لا يجوز أن عقلا أو بضعة عقول تجيب عنه، لكن فى رأيى المتواضع من عمودين فى غاية الأهمية هما العقل والعدل، أى بناء عقل جمعى عصرى يأخذ بالأسباب وقادر على النقد والابتكار والإبداع قادر على التفكير العلمى المنظم وله روافد أساسية، أولها تعليم جيد وإعلام صحيح الوعى وثقافة جديدة: معارف وفنون وتراث وعادات وتقاليد وقيم.

والعدل بتعديل ثقافة الامتيازات والاستثناءات المتغلغلة فى نسيج المجتمع، وتسبب نوعا من اللامبالاة والتسيب والضحك على القانون.

وهنا رن تليفونى المحمول، فانقطع النقاش، وقفزت فكرة إرساله إلى الحوار الوطنى، لعلهم يفكرون فى إجابات شاملة، مع توصية بسيطة بأن الأوطان تتقدم بالمفاهيم وليس بالتفاصيل.