الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
نزاهة الأفكار أهم من نزاهة الجيوب!

نزاهة الأفكار أهم من نزاهة الجيوب!

اتفقنا قبل أن نجلس معًا ثالث أيام العيد على «إلغاء» السياسة من أى كلام، ممكن ننكت، حتى لو نكت بذيئة، نسمع أشعارًا أو نستعيد ذكريات أغنيات كلاسيكية قديمة، نروى حكايات عن بلاد بعيدة زرناها، بل يمكن أن نتحدث عن مسلسلات رمضان، ورحنا نتبارى فى عددها، هل هى 27 مسلسلاً أم 30 مسلسلاً طويلاً وقصيرًا، المهم أن نبعد عن مصروفات العيد والكعك والأسعار ووجع القلب وفوران الدم.



كنا سبعة من الأصدقاء، أصحاب طفولة وصبا فى حى شبرا، ما بين مناطق البراد ودوران شبرا وطوسون، حتى تخرجنا فى الجامعة، وفرقت بيننا الأيام والمهن وسكن جديد خارج شبرا، والسفر إلى خارج البلاد سواء فى هجرات مؤقتة أو رحلات عمل، نلتقى على فترات متباعدة وحسب الظروف، لكن كنا نتحادث تليفونيًا حتى لا نقطع حبال الوصال.

باختصار نحن مجموعة من المصريين المهمومين بالوطن همًا حقيقيًا، لا مصالح ولا مزايدات ولا أجندات، ولا تترس خلف رؤى أيديولوجية تنسف أى حوار علمى، مصريون من تحت السلاح إذا جاز التعبير، عقول منفتحة، نفوس راضية، مهن رفيعة، ولنا جميعًا حلم وحيد: مصر دولة عصرية متقدمة.

وبدأنا الكلام عن المسلسلات واتفقنا بدرجات مختلفة على بعضها، إذ كان من المستحيل متابعتها جميعًا، وهى الكتيبة 101 وحرب وأبهرنا أداء احمد السقا فى دور الإرهابى وهى مغامرة منه، وتحت الوصاية وتألق منى زكى، وسره الباتع والإخراج السينمائى ومشاهد المجاميع.

علقت قائلاً عن هذه المسلسلات المختارة: هى تستعرض جزءًا واقعيًا من «حياة مصر» سياسيًا واجتماعيًا.

سألوا: كيف؟

قلت: الكتيبة 101 وحرب..استعرضا كفاح مصر ضد الإرهاب والتطرف الدينى، العدو الذى عطل مصر كثيرا ومازالت مفاهيمهما الفاسدة نائمة، حضرة العمدة وتحت الوصاية استعرضا كفاح مصر ضد الأفكار الشعبية العتيقة التى تعطل التطور الاجتماعى، أما سره الباتع فقد ربط فترتين فى غاية الأهمية، فترة مقاومة الحملة الفرنسية التى كانت إشارة التفكير فى أحوال مصر وتخلفها، وفترة مقاومة الحملة الإخوانية وإخراجها حتى لا تعود مصر إلى القرن الثامن عشر.

ثم التفتنا بقليل من «القر» على أشهرنا وهو نجم سينمائى وتليفزيونى لم يعمل من عامين: مسلسلك نجح والسوشيال ميديا تتحدث عن دورك.. وأكيد غرقان فى مطاردة المعجبات!

رد ضاحكًا: عيب على سنكم.. أيام وراحت.. عموما الحمد الله على كل شىء.

قلت: إياك أن تجرنا إلى الميلودراما..كفاية علينا أحزان ودموع جعفر العمدة وستهم.. اسحب نبرة الشجن من صوتك لو سمحت.

رد مبتسما: لا والله.. أتكلم جادا، الشغل ليس سهلاً، والعالم كله نفسه مرتبك وماسك فى خناق بعضه.. والأحوال غائمة ومحيرة، يعنى الواحد حاسس بقلق ومرتبك.

صرخت: من فضلكم أتوسل إليكم «بلاها» سياسة، أبعدونا عن النكد.

لم ينتبه «عزيز»، صحفى حزبى قديم على المعاش، يقضى معظم وقته بين أولاده وأحفاده، وراح يروى حكاية عن حوار أجراه من سنوات طويلة مع مسئول كبير سابق قبل 25 يناير 2011، وقد سأل المسئول: لماذا وأنتم خارج السلطة تتحدثون كما لو أنكم تملكون «المفاتيح السحرية» لأبواب المشكلات المصرية المغلقة، كلام ينفذ من الحديد، وحين تجلسون على الكراسى، تدورون فى نفس الدوائر التى لف فيها مئة وزير أو مسئول من قبلكم، فنظل نحن المصريين نسبح فى الفراغ دون جدوى!

رد عليه: أقول لك دون أن تكتب كلمة أو تذيع حرفا.

أقسم له بالكتمان..

قال: هذا مجتمع كسول متجمد على أوضاع رافض تغييرها أو حتى الاقتراب منها، أفكار قديمة وقيم قديمة، تخيل لو مسئول فى أى وزارة أو هيئة أو مؤسسة حارب الفساد جديا وبقوة سوف تنقلب عليه الدنيا ولن تقعد، وتُفتح عليه أبواب جهنم، وسيجد نفسه وحيدا فى معركة شرسة.. لو أى مسئول قرر أن يعيد هيكلة وزارته أو مؤسسته أو هيئته أو شركته أو إدارته أو قسمه على قواعد من العدل والكفاءة بعيدا عن الحسابات الخاصة والمحسوبيات والمجاملات والخواطر والشللية لن يجلس على مقعده طويلاً، تجمعات وشكاوى وتلغرافات وتظلمات وصناعة أزمات تعوق العمل، يعنى سوف تقف الدنيا عنده ولن تتحرك..

سألته: معقول قال لك هذا وسكتَّ عليه؟،هذه عملية هروب من المسؤولية.

أجاب: لا.. عنده حق، وسأضرب لك مثلا بما حدث قبل سنوات، فاكر قانون الخدمة المدنية الجديدة؟

هززت رأسى بالإيجاب.

قال: كان هدفه تطوير أداء مترهل وعفن فى المؤسسات العامة ودواوين الحكومة، ماذا فعل الموظفون؟، رفض واعتصامات ومظاهرات حتى جرى تعديله، الناس عموما يريدون حقوقا وحوافز ومكافآت دون التزامات أو عمل أو انضباط تعادلها، ولا حساب عليها.. هذا أمر شائع فى كل مكان ..

فسألته: وماذ فعل؟

قال: البديل السهل أن المسئول الجديد المندفع بقوة الحلم والأمل والعلم والتخطيط «يضغط» بقوة ويفرمل نفسه ويحبس أفكاره فى الأدراج، وأمامه ثلاثة خيارات: التقدم البطىء الذى لا يحل ولا يربط أو التقهقر للخلف والانسحاب من الفعل إلى رد الفعل، أو مسايرة الأمور على ما هى عليه.

علقت: طبعا.. بديل يعنى تأجيل المشكلات إلى زمن قادم ومسئول جديد، زمن لا يأتى ومسئول مثل غيره، والمشكلات المؤجلة تكتسب طاقات سلبية رهيبة تحولها إلى وباء يصعب علاجه، هذا تبرير لا يصلح لوطن فى حجم مصر، كلام يفتقد المنطق وينقصه العلم وتجارب الشعوب وتاريخ التطور.

سألني: ماذا تقصد؟

قلت: حين يصل مجتمع إلى قدر محسوس من الأزمات الكبيرة، لا يجب أن يتعامل مع مشكلاته منفصلة عن بعضها البعض، فالمجتمع يصبح مثل سفينة غارقة بحمولتها الثمينة، لا يمكن انتشالها من جانب واحد، وإنما من كل جوانبها معا، من المقدمة والخلف والأجناب، قد يكون الرفع بطيئا وضعيفا، لكنه الأكثر صحة وفاعلية، خذ عندك مستشفى أو شركة أو هيئة، أى أصلاح لجناح منها دون بقية الأجنحة هو جهد ضائع، فإصلاح قسم الاستقبال مثلا فى مستشفى، دون قسم الرمد والعظام والصيدلة والباطنة والقلب لن يفيد، أو إصلاح قسم التسويق فى مصنع دون تحسين الإنتاج، أو محاولة تحسين الإنتاج دون إعادة تأهيل العمال فى قسم التدريب هو نوع من العبث.. إلخ.

قال زميلى: ياه هذه مسألة معقدة.

قلت: لا بد من التعامل معها وفق منظومة متكاملة، لكن أن يكون وزير الإسكان جادا ووزير الزراعة مبلطا فى الخط، أو وزير التموين شغالا ووزير الاستثمار عطلان.. وهكذا..فهذا لا يفيد، لا بد من منظومة عمل وإصلاح شاملة وليست جزئية، مخطط واسع كبير من أول كيفية تعليق سفينة الأداء الغارقة فى الكسل والفساد، وربطها جيدا فى ونش الرفع من كل جوانبها، وانتشالها دون أن تتمزق السلاسل الرابطة فتعاود السقوط.

سألنى زميلى: لا أفهم.

أجبته: لنا فى تجربة محمد على عبرة عظيمة، مع أنها تجربة لم تستمر ولم تستكمل كل نموها الطبيعى.. وكان حال المصريين وقتها كله أزمات، وهى تجربة تقول إن هزيمة التخلف ممكنة، صحيح أن عدد سكان مصر حين تسلمها محمد على كان أقل من ثلاثة ملايين نسمة ومشكلاتهم الحياتية أقل تعقيدا، لكنها كانت ملايين غارقة فى الجهل والتخلف والفقر والمرض والخرافة والتواكل..إلا قلة قليلة للغاية متعلمة نصف تعليم تقليدي.

لكن محمد على فكر ووضع مخططا كبيرا فى كل مجالات الحياة: الزراعة والرى والتعليم والتصنيع والجيش لانتشال مصر من «القرون الوسطى»، وبعد عشرين سنة فقط كان على أبواب الأستانة عاصمة الخلافة يحاول غزوها..

قال أحدنا وهو أستاذ جامعي: من تجاربى وخبراتى عندنا مشكلة، بالرغم من الجهد الهائل المبذول، وهو تناقض المجتمع بين رغبة وكلام عن التطوير والتقدم، ومقاومة وتعطيل محاولات التقدم تحت وطأة الافكار القديمة والعادات القديمة، وخذ عندك فئات كثيرة فى المجتمع ترفض أى تغيير فى نظم العمل والإدارة حتى لا يفقد أعضاؤها امتيازاتهم.

قلت: التعليم الجيد الجاد العصرى يمكن أن يحل هذا التناقض، ثم التفت إلى عزيز الصحفى على المعاش، وقلت له:عارف المسئول الذى حاورته وتحجج بالثقافة السائدة أنه لا يعرف معنى كلمة رجل دولة، وإلا ما قال لك ما قاله، رجل الدولة ليس هو هو الذى يفعل ما يريده الناس (خاصة إذا كانوا فى مرحلة تخلف وعطل فى التفكير العلمى المنظم) ولكن ما يفيد الناس، وأن يكون مخلصًا لأفكار كبرى ورافضا لنظام الامتيازات والاستثناءات ليُشعر جميع مواطنيه بالعدل، ونزاهة الأفكار أهم من نزاهة الجيوب.

وطبعًا باظت السهرة فى كلام السياسة!