الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فى فض اشتباكات اجتماعية واقتصادية صغيرة خطة هروب من صراع المحاكم

فى فض اشتباكات اجتماعية واقتصادية صغيرة خطة هروب من صراع المحاكم

شاءت المصادفة أن أجد نفسى فى قاعة محكمة عامة، فى قضية مخالفات مرور بعد أن غُلِّظَت قيمة المخالفات إلى ثلاثة أضعاف بسبب غيابى عن حضور جلسة محكمة المرور، ولم يكن غيابى متعمدًا ولا سهوًا، كان سببه خطأ أو إهمالاً أو سهوًا وقعت فيه موظفة.



المهم مبنى المحكمة من الخارج يسر الناظرين، شامخ له هيبة تليق بالسيدة معصوبة العينين التى يزين نحتها واجهة المبنى، حتى لا ترى أشكال البشر أو ألوانهم أو ديانتهم أو أزياءهم، وتحكم على الأعمال المنظورة بالميزان المعلق فى يدها، ويضع فيه المتقاضون أوراقهم ومستنداتهم ودعاواهم اتهامًا أو دفاعًا..لكن المشهد داخل المحكمة يختلف إلى حد كبير، يقلل من الهيبة الخارجية كثيرًا، زحام وضوضاء كأنك فى ميدان عام، ناس داخلة وناس خارجة بشكل عشوائى، كأنهم يعبرون إشارة مرور حمراء فى عجالة.

مررت بصعوبة بين الحواجز البشرية ودخلت القاعة المحددة للجلسة، كانت كاملة العدد جلوسًا غير الواقفين وعددهم ليس قليلاً.

أخذ منى الحاجب بطاقة الرقم القومى، راح يقلب فى كومة من الأوراق العريضة مكتوب فيها أسماء وأرقام وأنواع القضايا، ثم قال: أنت رقم 150 فى قضايا المرور.

وهو يقلب فى أوراقه اختلست النظر إليها، قضايا سرقة، مخدرات، ضرب..إلخ،  ولمحت أرقامًا تصل إلى أربعمائة، ولم أعرف هل بقية الأرقام فى الصفحات التى لم أرها تتجاوز الـ500 أم لا.

وتساءلت بينى وبين نفسى: كيف ينظر قاض فى 400 أو 500 قضية فى بضع ساعات؟

رحت أبدد وقت الانتظار فى حسابات افتراضية، يعنى لو اشتغل 10 ساعات متصلة، وهذه ساعات طويلة جدًا، من يتحمل عشر ساعات من المناهدة والأخذ والرد والقراءة والتفكير والأحكام، هذه ساعات عمل لا إنسانية لا تتحملها أعصاب إنسان ولا جسده، أربعون قضية على الأقل فى الساعة الواحدة، دقيقة ونصف لكل قضية!، قطعا سيؤجل النظر فى القضايا الجديدة لموعد لاحق وربما أيضا يؤجل عددًا من القضايا القديمة التى لم يشكل فيها رأيًا نهائيًا بعد.

مؤكد هذا عامل مهم فى أن 90 % من القضايا يعاد فتحها فى محاكم الدرجات الأعلى، وفعلا صادفت فى حياتى الصحفية قضايا ظلت معلقة فى المحاكم سنوات وسنوات، ومنها قضية لاعب كرة مشهور كان على خلاف عائلى مع أخواته البنات على أرث، وظلت منظورة أمام المحاكم لأكثر من عشرين سنة، لكن أغرب قضية تابعتها فى بداياتى الصحفية، كان مر على تداولها فى المحاكم عشر سنوات، وتوقفت بعد أن رحل نصف المتقاضى عن عالمنا تباعًا وحل الورثة محلهم فيها، وهو ما يفسر شيوع مثل شعبى دارج على ألسنة العامة «يوم القضا بسنة».

وهذا التباطؤ الذى يفرضه الواقع هو واحد من أسباب ارتفاع نسبة الجريمة، بمعنى إذا كانت العدالة تمشى كسلحفاة، فى واقع يجرى بسرعة طائرة، فلا سبيل إلى ركوب الطائرات إلا بكسر كل إشارات القانون وتصفية الحسابات باليد، لاسيما فى «البيزنس» كالشيكات والحقوق المؤجلة وخلافات الصفقات، وهو ما أنتج ظاهرة غريبة فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، وهى المكاتب السرية المتخصصة فى بيزنس أخذ الحقوق» بالقوة»، لجأ إليها بعض رجال الأعمال حين ييأسون من القانون وإعادة الحقوق فى توقيت مناسب.. إلخ.

وفعلاً القضاة المصريون معذورون جدًا، والله يكون فى عونهم، فحسب تصريحات للمستشار عمر مروان وزير العدل مع الأستاذة لميس الحديدى فى برنامج «كلمة أخيرة» فى فبراير الماضى، قال إن المحاكم تنظر فى حوالى 15 مليون  قضية كل عام، فى كل أنواع القضايا، مدنى وجنائى وأسرة، ولدينا فقط 14 ألف قاضٍ.

وتقدر بعض الإحصاءات الاحتياجات الفعلية بـ30 ألف قاضٍ من أجل عدالة سريعة وناجزة، وأتصور أنه رقم مبالغ فيه جدًا، فالولايات المتحدة بجلال قدرها  يقدر عدد قضاة محاكم الولايات دون المحاكم الفيدرالية بـ33 ألف قاضٍ، على 332 مليون أمريكى تقريبا، أى ثلاثة أضعاف سكان مصر.

لكن بالنسبة لنا، فعلاً رقم الـ15 مليون قضية سنويًا مفزع، لأنه يعنى أن نصف المجتمع تقريبًا ماسك فى خناق بعضه بعضًا، إذا لا يقل أطراف أى قضية عن اثنين، وقد يرتفع ويتضاعف مرات حسب نوع القضية.

وأن يدخل نصف المجتمع فى منازعات قضائية  بعضها طويل الأمد، ذاهبون إلى المحاكم قادمون من المحاكم، هذا يمثل عائقًا بشكل أو بآخر فى بناء الجمهورية الجديدة التى نحلم بها جميعًا، قطعًا لن يمنع بناءها، ولكنه يبطئ من حركتنا ونحن نتقدم إلى الإمام، يجعلنا نمشى أو نهرول، بينما نحن نريد أن نجرى أو نطير، بعد أن أهدرنا عشرات الفرص وعشرات السنين هباء، فتفاقمت مشاكلنا وتعقدت.

بالطبع تداول 15 مليون قضية فى المحاكم سنويًا، ليست مسألة قانونية فقط، وإنما  لها دلالة على أخطاء فى العلاقات الاجتماعية الاقتصادية إلى درجة غياب الحلول المنطقية لمشكلات حياتية داخل دوائر العائلة أو العمل أو الجيرة.. إلخ، وبدلاً من تصفية الخلافات وديا وبعدالة مقبولة، تتعقد الحلول وتبتعد إلى الإجراءات القانونية، صحيح أن القانون هو السيد فى أى مجتمع، لكن الإسراف فى اللجوء للقانون فى كل صغيرة وكبيرة يبين أن «البيئة العامة والخاصة» بين الأفراد يظللها سحابات تحجب الرؤية السليمة، لأن القانون ليس نزهة أو مشوار هين، وإنما هو أعصاب وتوتر وتكدير وتكاليف باهظة جدا، خاصة فى الوقت، إلا إذا كنا نعتبر الوقت مجرد فراغ علينا أن نقضيه بأى شكل حتى لو فى المحاكم مشتبكين فى قضايا كان يمكن حلها بالتفكير العلمى المنظم أى بقليل من العقل والعدل الذاتى، بدلاً من التعنت والمكابرة والعناد، خاصة فى قضايا الأسرة والإرث والضرب.. إلخ، وهى بضعة ملايين قضية سنويًا، منها فقط ما يقرب من مليونى قضية أسرة، أى حوالى خمسة ملايين مصرى على الأقل، أزواج وزوجات وأولاد يمشون خِلف خلاف وكل منهم يشد الآخر من رقبته.

ألا يكفينا ما يفعله «المجرمون» سواء المحترفين أو الهواة، من جرائم فساد ورشوة واستيلاء على المال العام والقتل والتزوير وتزييف النقود والسرقة بأنواعها من البيوت إلى السيارات، وتجارة الممنوعات.. إلخ؟!

وبالمناسبة أرقام القضايا فى أمريكا ستة أضعاف أرقام القضايا فى مصر، لكن أمريكا دولة غنية قادرة على دفع ثمنها وتحمل أعراضها المباشرة والجانبية، لكن نحن مجتمع يفتش بأظافره عن ثغرة ينفذ منها إلى شمس الحضارة والتقدم!

والسؤال: هل يمكن أن نصحح هذه الأوضاع من أجل المستقبل؟

بالطبع لن نستطيع أن نمنع الجريمة أو نوقفها، فهى لصيقة بالنشاط الإنسانى فى أى زمان ومكان، لكن ممكن أن نوفر «مساحة» أكبر لأجهزة المطاردة والضبط والحساب لأعمال أخطر، بأن نحاصر قضايانا الاجتماعية فى نطاق أضيق، ونحلها قبل أن تصل إلى أقسام الشرطة وقاعات المحاكم.

نعم أتحدث عن دور للمجتمع المدنى، مع بعض مؤسسات الدولة كوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة الأوقاف والمجالس الشعبية، كما قلت قضايا الأسرة والإرث والجيران وعلاقات العمل الخاص الصغير، كلها يمكن أن تحل قبل أن تجرى على المحاكم، نعم علينا أن نفكر فى شكل يجمع بين أعضاء فى هذه الجمعيات والوزارتين والمحليات: محامين وإخصائيين اجتماعيين وشخصيات عامة من الحى والقرية والكفر والنجع، يعقدون جلسات استماع أسبوعية، ويصلون إلى حلول.

أتصور أن 50 %  على الأقل من أمثال المشكلات الحالية لن تصل إلى المحاكم، والقضايا التى لا يقبل أطرافها الحلول وفشلت الوساطة فيها، يرفع الحل إلى القاضى بكل حيثياته، فإذا أقره يصبح حكمًا، وإذا رفضه المتقاضون يذهب إلى المحكمة.

هذه مجرد فكرة يمكن أن يعاد تدويرها ويضاف إليها.

ثمة حاجة غلط، كلنا يعرفها، ويجب أن نتخلص منها، لنؤسس مجتمعًا مصريًا جديدًا، تهبط فيه معدلات التقاضى، وإذا كانت الجريمة باقية بقاء الحياة فلنحاصرها فى حدود محتملة، نستطيع أن ندفع تكاليفها دون أن تعطلنا وتستنفذ قوتنا.