الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المصريون والفرار من الجهل المقدس!

المصريون والفرار من الجهل المقدس!

مثل كثير من المصريين لا نرتاح لعبارات من عينة الوحدة الوطنية، شركاء الوطن، كريم العنصرين، ونراها كلمات حسنة النية، لكن الطريق إلى جهنم مفروش غالبًا بالنيات الحسنة، فأى وحدة وطنية بين أفراد عائلة، وأى شراكة بين أصحاب وطن لنا فيه جميعًا ملكية كاملة غير قابلة للفصل والتفاوض، بينما الشراكة قابلة للفصل والتفاوض، نعم نحن عنصر واحد وإن اختلفت ديانتنا وفصائل دمائنا وألوان بشراتنا، وهذا سر أسرار أم الدنيا.



وأم الدنيا ليس وصفًا صحيحًا فحسب، وإنما فى غاية الدقة، فمصر ليست أغنى بلاد الدنيا، لكنها أم حضاراتها، جاء إليها وسكنها خليط عجيب من البشر على مدى الزمن، وعاشوا فيها مع المصريين، إغريق على رومان على فرس على ليبيين على حيثيين على هكسوس على قبارصة على عرب على فرنسيين وطليان وإنجليز، فأرضعتهم ثقافتها وتسامحها وقيمها الإنسانية فاكتسبوا صفاتها وانتسبوا إليها روحًا.

لكن الزمان دوار.. شاخت الأم وابيض شعرها وخرجت من سباق الحضارة تجرجر ماضيها التليد، وعلى ظهرها كتب التاريخ حكاياته، والآن يحاول كثير من أبنائها تجديد شبابها، وضخ حيوية فى أوصالها، لتضيف فصلاً حضاريًا ينم عن قدراتها فى عصرها الحديث.

لكن العوائق كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية، لكن أخطرها ثقافية، فإذا كانت السياسة وقود الحركة، فالثقافة هى ماكينة التشغيل الرئيسية، والثقافة دون فذلكات هى رؤية فى التعامل مع الحياة وليس مجرد معلومات محشوة فى الرءوس.

وأشرس عائق وأشده صلابة أمام تحديثها هو العقل السلفى، لأنه عقل متشدد متزمت قابع فى كهف التقليد والنقل والقديم.

بالطبع يحتاج هذا المجتمع إلى هزة، من أفكار جريئة متمردة تستفز عقله لا مشاعره وتحرضه على التفكير المختلف، لعله يعتاد على فحص وتمحيص الجديد المختلف دون عداء عاطفى وكراهية تلقائية أدمنها طويلاً، من هنا أثار كتاب «الأقباط والحداثة» للكاتب الشاب باهر عادل إعجابى، وهو دعوة جادة إلى تحديث المجتمع عقلاً وقيمًا وسلوكًا ونظمًا، فلم يعد المجتمع المصرى يتحمل الحالة الحضارية المرضية التى هو عليها من زمن بعيد، وهى حالة لم تسمح له بالتخلص من مشكلاته وأزماته، حتى صارت «تاريخية»، تخيلوا نحن نعانى من أزمة إسكان وتموين ومواصلات وفقر وعلاج وتعليم ومظاهر اجتماعية منفلتة.. إلخ، منذ زمن بعيد، صحيح نخفف منها أحيانًا، نتقدم إلى الأمام أحيانًا، لكن لم نكسر الدائرة أبدًا.

لماذا؟

لأن مصر لم تستكمل تجربة تحديث شاملة فى أى مرحلة من تاريخها الحديث الذى يؤرخ من بداية محمد على باشا فى أوائل القرن التاسع عشر.. كلها تجاربة ناقصة لم تمض إلى نهاية دربها لأسباب كثيرة، أتصور أن «التهديد الخارجى» لم يكن السبب الأخطر فيها، وأن فيروس الجمود والتراجع كان من داخل هذه التجارب كلها، وهذا موضوع يطول شرحه ويستحق كتابًا يعيد توصيف الحالة المصرية توصيفًا بعيدًا عن الأفكار التقليدية، وفعلاً وصفها بصدق عدد غير قليل من المفكرين المصريين، ومنهم الإمام محمد عبده، الذى قال بعد عودته من أوروبا إنه رأى هناك إسلامًا دون مسلمين وهنا مسلمون دون إسلام، أى كان الشيخ المعمم مفتى الديار المصرية يقارن بين القيم الحاكمة لأنشطة الإنسان فى الحياة فى مختلف أوجهها، هناك قيم تقدم وهنا قيم تخلف.

والتحديث ليس أن نخلع جلبابًا ونلبس بذلة، أو ندع الكارو ونركب المرسيدس، أو نترك المراكب ونحلق بالطائرات، أو نهجر الحمام الزاجل ونتكلم فى التليفونات المحمولة، أو نكسر القلم ونكتب على صفحات افتراضية فى الكومبيوتر، التحديث حالة عقلية وحضارية فى التعامل مع الموارد الطبيعية والمعنوية إنتاجًا واستهلاكًا.

باختصار الأزياء والأساليب والمنتجات الحديثة دون القيم التى أفرزتها مجرد قشرة حضارية، الحضارة هى التصرفات والسلوكيات العامة والخاصة وطرائق التفكير وكيفية إنتاج الأفكار والسلع والخدمات، وأن يكون الجديد المبتكر تيارًا عامًا غالبًا، وليس تيارًا هامشيًا أشبه بأقلية منبوذة.

والتحديث عاشه أجدادنا القدماء قبل العالم كله.

وأتى زمن الأحفاد التقليديين.

ويبدو أن التيار الرافض للحداثة لا يخص المصريين المسلمين وحدهم، وإنما يشاركهم فيه المصريون المسيحيون أيضًا، وهذا طبيعى جدا، فالمصريون حالة إنسانية وطنية واحدة، والتصنيف الطائفى هنا فى اسم الكتاب «الأقباط والحداثة» لا يفيد وأتصور أنه غير صحيح.

نعم الحداثة أزمة شعب واحد فى وطن، وليس أزمة جماعة أو طبقة أو فئة أو طائفة.

لكننا سنمضى مع الكاتب على دربه، وهنا يفاجئنا، ويؤكد وجهة نظرنا، بأنه ينتقد الفكر المسيحى السائد ويطالب بتطويره، بنفس الدرجة التى يطالب فيه الإصلاحيون المسلمون بتطوير الفكر الإسلامى، وأن السلفية هنا هى السلفية هناك، والتصرفات المتشددة هنا يقابلها تصرفات متشددة هناك، لكن للحق هى سلفية داخلية فى أزمات ومشكلات حياتية دون اعتداء على الآخر، وليس غريبًا أنه يستخدم ألفاظًا وتعبيرات هى نفسها التى يلجأ إليها الإصلاحيون المسلمون، فكما السلفيون نسخ متشابهة فالإصلاحيون أو الداعون إلى التغيير لهم مفردات واحدة، وأتصور أن غالبيتنا شاهد فيلم «مملكة السماء» عن الحروب الصليبية أو قرأ عن تلك الحروب فى مراجع علمية معتبرة وليس كتابات عابرة على قارعة الطريق، واكتشف تطابق وتماثل الأفكار والمفردات والأسباب عند الذين خاضوا هذه الحروب قادمين من أوروبا للجهاد فى الشرق، مع أفكار ومفردات وأسباب الجهاديين من جماعات التأسلم السياسى من أفغانستان إلى المغرب، نعم كلهم نسخ كربونية يفهمون النص الدينى كما شرحه الأقدمون وحولوا الشرح نصًا مقدسًا.

وهنا يتحدث باهر عادل عن أزمة الفكر اللاهوتى فى الكنيسة، وهو دارس اللاهوت وتاريخ الحركات الإصلاحية فى الكنيسة، وهذه مسألة دينية، تخص أصحابها فقط وهم أصحاب الرأى فيها دون غيرهم، لكن ما يعنينا هو الأفكار التى تعوق الحداثة وتؤثر على السلوكيات والتصرفات، ولهذا تغيظه الخرافة والشعوذة وانتشارهما، سيطرة رجال الدين على تفاصيل الحياة اليومية للتابعين، مفهوم الطاعة السائد بين الناس والذى ألغى العقل النقدى، النظرة إلى المرأة المتأثرة بالثقافة الشرقية على خلاف ما جاء فى الكتاب المقدس، رفض الزواج المدنى، التعصب وإقصاء الآخر.. إلخ.

وفى الحقيقة هذا كتاب فى كيفية تحديث الفكر المسيحى، أكثر من مصر والحداثة، صحيح أن المفاهيم الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية لعبت دورًا فى إعاقة مصر عن الحداثة، وأقصد بالمفاهيم الدينية، الطريقة التى يفهم بها البشر دينهم، ويتصرفون وفق هذا الفهم، ويصور هذا الفكر السائد سببًا مهمًا فى عدم تحديث أهل مصر.

ويقول الكاتب: الفكر المسيحى السائد فى مصر الآن فكر أصولى ظلامى للأسف.

ياللعجب هى نفس عبارة الإصلاحيين المسلمين التى يصفون بها الفكر الإسلامى السائد. إذن غالبية المصريين أيًا كانت ديانتهم هم أصوليون، يرون فى الحداثة ضلالاً مبينًا، وقد بلغوا فى معارضتهم لها حدًا نائيًا، فالدكتور مصطفى هدارة مثلا يقول عنها: «اتجاه فكرى أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة، لأنها ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن فى المجتمع».

أما الدكتور عوض محمد عوض فيقول فى كتابه «الحداثة فى ميزان الإسلام»: ومن هذه الأفكار التى ابتليت بها الأمة، وبدأ خطرها يظهر فى ساحاتنا مذهب فكرى جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانُه وسدنة أصنامه اسمه «الحداثة».

والسؤال: لماذا كل هذه الحرب الشعواء؟

أجابوا: لأن الحداثة مذهب غربى، ونما وترعرع فى أوحال الرذيلة ومستنقعات اللاأخلاق، وأينعت ثمارها الخبيثة على أيدى الشيوعيين من أمثال: نيرودا ولوركا وناظم حكمت وفتشنكو وسارتر وألبير كامو، وأتت أكلها على أيدى الجيل المنظر والداعم لها والمحفز على السير فى ركابها من أمثال: الوى أراجون، وهنرى لوفيفر، وأوجين جراندال وروولان بارت.. إلخ.

بالطبع هذا كلام مردود عليه، فهؤلاء فلاسفة وشعراء ومفكرون وكتاب عملوا على إضاءة العقل بأفكار ورؤى مختلفة، نتفق أو نختلف معها.. لكنها مستفزة للعقل أن يفكر ويحسب ويعيد حساباته ويتحاور حولها ويطورها لو أراد، ودون هذه العمليات يظل العقل حبيسًا فى الكهف حتى لو كان معه كومبيوتر وتليفون محمول وتليفزيون أحدث موديل.

المدهش أن الديانات نفسها تعد فى عصرها «حداثة» على زمنها وتقاليده وما اعتاد الناس عليه.

عمومًا الكتاب دعوة إلى مجتمع مختلف يسوده العلم والمعرفة وقادر على أن يكون فاعلاً فى عصر منتج للحضارة وليس مجرد مستهلك لأدواتها.

وتحضرنى فى الختام عبارة واردة فى الكتاب للفيلسوف الإنجليزى بيرتراند راسل: يمكن للمجتمعات أن تكون جاهلة ومتخلفة، لكن الأخطر أن ترى جهلها مقدسًا!