السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الإنسان النملة والحكام الغوغاء!

الإنسان النملة والحكام الغوغاء!

شىء من هذا حدث لك شخصيًا أو لصديق مقرب وربما لأختك أو أخيك، أو كل أفراد أسرتك، وما زال يحدث إن كنت فى سهرة وأخذكم الحديث شمالاً ويمينًا، عابرًا حكايات عن أشخاص ونكات ومشتريات وأحداث وأفكار.. إلخ، وبمجرد أن تمسك موبايلك، وتفتح موقعًا إخباريًا أو صفحتك الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعى، تقفز فى وجهك حزمة من إعلانات متلاحقة مرتبطة بتلك الحكايات الخاصة التى أفضتم فيها، سلعًا ورحلات سياحية، أفلامًا سينمائية، مواقع خاصة، أدوية طبية، أجهزة رياضية..إلخ، كما لو أن هناك من ينصتون إليكم من الفضاء، أو بمعنى أصح يتنصتون عليكم بذبذبات إلكترونية من على بعد آلاف الكيومترات، ويطاردونكم فى التو واللحظة، لا تسأل ولا تضرب كفًا بكف: كيف سمعوا وعرفوا واستجابوا وأعدوا تشكيل رغباتك!



نعم.. لا تتعجب.. أنت تعيش فى عالم عارٍ تماما، لا يمكن أن يتمتع إنسان بخصوصياته، إنه عصر الإنسان النملة أمام كائن هائل مخيف من النبضات الكهرومغناطيسية.

بالطبع تعاظمت قدرات الإنسان بقدر لم يعرفه تاريخ البشر من قبل، وابتكر وما زال أشياء تجاوزت خيال أجداده مهما جنح بهم وحلق فى فضاءات خارج المجرة، لكن فى المقابل حوصرت اختياراته وتقلصت حريته، والحرية تعنى الخصوصية، والإنسان بلا خصوصية هو إنسان بلا حرية، والحرية بمعناها العام أهم مليون مرة من حرية اختيار حاكم أو رئيس أو نائب أو عضو مجلس إدارة، آسف أنت لم تعد حرًا حتى فى هذه الاختيارات، أرجوك لا تغضب وسوف تدرك أنها اختيارات سابقة التجهيز!

هذه هى طبيعة العصر الذى انقلب فيها سحر العلم على الساحر الذى ابتدعه دون قصد منه، فالساحر كان يمضى على درب شديد الجاذبية، ينزع فيه القداسة والغموض وسرية التصرفات عن الحكام وأصحاب السلطة والنفوذ، فإذ به ينتهى إلى نزعها عن كل الناس: حكامًا وحكومين، ياقات زرقاء وجلاليب ممزقة.

والحكاية بسيطة للغاية..

لم يكن الكومبيوتر اختراعًا ماديًا مفاجئًا نتيجة تطورات علمية متلاحقة، يستخدمه الإنسان فى عمليات رياضية معقدة فى وقت قصير للغاية فقط، إنما كان غرضه الأهم أن يكون أداة اجتماعية للشفافية فى مجتمع يعاد صياغته، مجتمع يصعب أو يستحيل إبعاد فئة أو جماعة أو طبقة عن المعرفة العامة، ومن ثم تتاح مشاركة جميع أفراده فى أى قرار عام سبيلاً إلى الازدهار والتوسع، لأن العلماء اكتشفوا من رصد تاريخ الأمم والحضارات أن المجتمعات المغلقة على نفسها، تتدهور أحوالها بالتدريج، وتتحلل وتموت مهما طال بها الزمن، وقد حدث هذا مع كل الإمبراطوريات القديمة تحت سنابك غزاة جدد، كما أن بعضًا من هذه المجتمعات تميل بطبيعتها إلى استبعاد آخرين، كالنازية التى ميزت الجنس الآرى والشيوعية التى نفت طبقة كاملة من نسيجها العام، فأوجدا لهما أعداء داخليين عملوا على تدميرها.

والحل هو عالم مفتوح تمامًا فى المعلومات والمعرفة، دنيا ضيقة متشابكة يمكن فيها لأى إنسان فوق جبال الهيمالايا أن يصافح إنسانًا على ضفاف الأمازون، وقد يحتسى معه فنجانًا من القهوة أو يلعب دورًا فى الشطرنج، أو يستمتعان معًا بقطعة موسيقى شعبية من منطقة ثالثة.

لكن مثل أى علم لا يتوقف عن النمو ويمضى إلى منتهاه سواء أراد البشر أو لم يردوا، فإذا بالعالم المفتوح ينزع ثياب الخصوصية قطعة قطعة لكل إنسان يدلف إليه، ومع نزع الخصوصية تسقط أوراق الحرية من تلقاء نفسها، بات الإنسان مجرد نملة وسط كائنات خرافية عملاقة للمعلومات والمعرفة، تسرب له أفكاره، تشكل أحلامه، توجه اختياراته، تحدد أسلوب معيشته، تفرض عليه وسائل إشباع رغباته وغرائزه، تسيطر على طاقاته، باختصار كل مجموعة شركات ومؤسسات تعمل بجد ودأب على أن تربى عملاءها على هواها، نسخ متشابهة إلى حد كبير فى أحلامها وأمانيها، نسخ ذهنية مصنوعة بواسطة الصور الموحدة المنبعثة من أجهزة المعلومات وشاشات التليفزيون، ولن يختلف أصحابها سواء كانوا على ضفاف نهر السين فى فرنسا أو سانت لويس فى كندا أو الأمازون فى البرازيل أو الجانج فى الهند أو النيل فى مصر، نسخ اختلافها فقط حسب الصور التى نجحت فى زراعتها الشركات والمؤسسات، أى تختفى بالتدريج خصوصية المناطق الجغرافية وتحل محلها مواصفات برامج الشركات العملاقة، المواطن العالمى.

نعم يصبح الإنسان سجينًا لرؤية يرسمها ويخططها قلة محدودة من البشر دون أن يشعر، سوف يخيل له أنه حر، ربما أكثر حرية من أى إنسان فى أى وقت مضى فى تاريخ البشرية، بينما هو أسير فى زنزانة من موجات الأثير والنبضات الكهرومغناطيسية بلا قضبان أو حراس، يتصرف ويلبس ويفكر ويتحرك وينتقى شريكة حياته، ويقتفى أثر النماذج القدوة، ويخضع لمنظومة قيم ومفاهيم كما تمليه عليه هذه الموجات والنبضات بأسلوب ناعم جذاب مثير.

راجعوا.. كيف نجح جورج بوش الابن فى الانتخابات وكيف صنعت له الشركة المتعاقد معها «الصورة» التى سوقها بين جموع الناخبين؟

كيف جرى إقناع الناخبين بالتصويت للرئيس المرشح بغض النظر عن إمكاناته ومهارته الفردية وقدراته الخاصة؟ حتى المواجهات التليفزيونية عبارة عن تدريبات مكثفة على مختلف الأسئلة وكيفية الإجابة عنها بطريقة تحوز إعجاب المشاهدين، ناهيك عن الإنفاق الواسع على الدعاية المكثفة فى كل مكان وبكل وسيلة، حتى إن بعض المفكرين الأمريكيين شبهوا الحال، بالترويج لسلع انتخابية!

باختصار صار الصراع بين برامج تنسج بالصور والمعلومات اختيار المرشحين، ولم يعد تنافسًا مستقلاً بين مرشحين.

هذا فى أمريكا بلد الحرية، فماذا عنا؟ راجعوا مشترياتكم الأخيرة وكيف كانت؟ أفكاركم وكيف تغيرت أو اضطربت حسب المطلوب، أسلوب حياتكم، أغانيكم، طريقة الإنفاق.. إلخ.

نعم .. هذا ما أقصده بالضبط.

لكن هل سكت الإنسان النملة على الأوضاع الجديدة؟

بالطبع لا.

صنع نمطًا جديدًا من الحرية، ومضى على درب فوضى خاصة به، غوغاء جدد بعشرات الملايين يسيطرون ويحكمون، والقاعدة تعمل تلقائيًا، لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه، فإذا كان العالم المفتوح سمح للبرامج بالتسلل تحت جلدنا، فهيا بنا نبنى نوعًا من الديمقراطية غير مسبوقة فى التاريخ، ديمقراطية الفضاء الإلكترونى، فضاء بلا حكومة ولا سلطة ولا شرطة ولا قضاء، ولا قواعد.

هذا الفضاء الإلكترونى مثلًا هو الذى قاد كل الحركات الغاضبة فى دول الربيع العربى، ومظاهرات السترات الصفراء فى أوروبا، واقتحام الكونجرس فى أمريكا اعتراضًا على سقوط دونالد ترامب فى الانتخابات، ولأول مرة فى التاريخ يولد «القائد الافتراضى» من نبضات كهرومغناطيسية، ويشكل حركة الناس فى الشارع، وطبيعى جدًا أن ينتهى الأمر إلى فوضى واضطرابات، فالنبضات المتحكمة فى التصرفات بلا عقل ولا رؤية، فكل من يجلس خلف كيبورد أو يمسك بموبايل، يمكن أن يضرب على هذه النبضات بما يعنّ له من أفكار ومشاعر وعبارات وصور، طوفان هادر من ملايين الأفكار والمشاعر فى اتجاهات مختلفة فى كل لحظة حتى لو تبنت شعارات واحدة.

هذه هى ديمقراطية الغوغاء التى لا تصل إلى غاية محددة ولا إلى نهاية طريق مرسوم.. وتثير كثيرًا من الشكوك والتوتر وأشياء أخرى.

قطعًا نكاد نصفق جميعًا ونحن نستمتع بهذا القدر من حرية التعبير المطلقة على شبكات التواصل الاجتماعى، لكنها حرية يفسدها أو يفتتها كم هائل من المعلومات المغلوطة أو المدسوسة أو الشائعة فى الدين والسياسة والتاريخ والقانون والمجتمع والحضارة والأدب والرياضة والمشاعر والعلاقات الإنسانية والجرائم أيضًا، بل إن المواقع الإلكترونية تتبادل الشائعات كما لو أنها أخبار صحيحة، فصار العقل الغوغائى صاحب سيادة فى هذه الديمقراطية الفضائية (الكتائب الإلكترونية).

معلومات بلا مصادر علمية موثوقة نؤسس عليها مواقف وقرارات وتشكل مشاعرنا وعقولنا وتصرفاتنا، هذا خطر بالغ ومخيف، وعلينا أن ندفعه عنا وننسف سطوته وصولجانه، كى نحافظ على عقولنا صحيحة ووعينا متيقظًا فاهمًا، وهذا لن يتأتى إلا بطريقين، الأول هو التعليم والتدريب على التعامل مع معلومات ومعارف شبكات التواصل الاجتماعى، وثانيًا بناء إعلام جديد، فى الرؤية والمنهج والأدوات والأساليب، فإعلام الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات..إلخ، مات وشبع موتًا، سياساته ومناهجه وطرائق إنتاجه، العالم المفتوح يلزمه رؤية مفتوحة تستند إلى التفكير العلمى المنظم وأدوات العصر ومفاهيمه، دون أن نسقط فى فخ صلاحية الأساليب القديمة والمناهج القديمة.

وإذا كان العالم المفتوح بلا أسوار ولا أسرار، فأول قاعدة وأهمها هى السرعة فى نقل المعلومات الصحيحة، أى صدق مع سرعة فائقة، لأن من يسبق حتى لو كان ينشر كذبًا سوف تشكل أكاذيبه «تريند» فى بضع دقائق، ولن تتمكن الحقائق الصحيحة من اللحاق به، وحتى لو لحقت به ستكون الأكاذيب قد فرشت عقل الإنسان النملة.

باختصار لم تعد هناك دماء زرقاء ودماء عادية، سادة يتحركون فى فضاء خاص بهم محاط بجدران سميكة وعوام يتحركون فى أرض مكشوفة عارية بلا سقف، صار الجميع يتحرك أمام الجميع.

هكذا طور الإعلام العالمى من نفسه، فهل نفعل أيضًا؟