الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رسالة إلى وزير التعليم فى وداع طارق شوقى

رسالة إلى وزير التعليم فى وداع طارق شوقى

 حسنا فعل الدكتور رضا حجازى وزير التعليم الجديد بإغلاقه أبواب التأويل والتوقعات والتقلبات، حين قال صراحة فى أول يوم لتوليه الوزارة، إنه لا تغيير فى فلسفة تطوير التعليم، والتى وضع حجر أساسها الدكتور طارق شوقى الوزير السابق.



قطعا هو لا يدافع عن إرث الدكتور طارق شوقى فى وزارة التعليم، وإنما يقصد أن التعليم سياسة دولة لا اجتهاد وزير، وأنه مكلف باستكمال هذه المهمة، وهذا نهج صحيح لأن المصائب التى حلت بالتعليم ودفعته إلى الهاوية سببها «تغيير» سياسات التعليم من وزير إلى وزير لأكثر من أربعين سنة، وهذه التغييرات المتلاحقة صنعت حالة سيولة فى المنظومة التعليمية تمددت فيها جذور الرداءة والفساد، من أول إهمال المدارس لدورها، فغاب عنها التلاميذ إلا قليلا، إلى تكاسل المدرسين عن مهامهم، فتقطعت أواصر الثقة بين أولياء الأمور والمدرسة، وبينهما توحشت الدروس الخصوصية، فتراجعت المعرفة مقابل التدريب على الامتحانات وأسئلتها، وشاع الغش حتى تجاوزت وقاحته كل خيال.. إلخ.

ربما يزعج تصريح الدكتور رضا حجازى كثيرا من أولياء الأمور وأصحاب المصالح فى الوزارة ومراكز الدروس الخصوصية، أو نواب فى البرلمان صفقوا بشدة لرحيل الدكتور طارق وهم يبحثون عن رضا الناس على حساب مستقبل الوطن المربوط بمستوى تعليم أبنائه برباط حديدى لا ينفصم، وهؤلاء يخلطون بين السياسة العامة وأساليب تنفيذها على أرض الواقع، وكانوا ينتظرون اليوم الذى يرحل فيه الوزير، وأتصور أن الدكتور طارق نفسه شاركهم نفس أمنية الرحيل، بعد أن تسلل إليه الإحباط بسبب المقاومة والرفض له، وقال فى مكالمة تليفونية مع صديق قبل أيام من مغادرة مقعده: ما فيش فايدة، إنهم يريدون تعليما دون معرفة، يريدون مجاميع دون حصيلة علمية حقيقية.

وأتصور أن إعلان الدكتور رضا تمسكه بالسياسة العامة كان ردا على «الزيطة» التى صاحبت التعديل الوزارى، كثير من التهليل قليل من القلق، خاصة أن حملة شبكات التواصل الاجتماعى على الدكتور طارق طرحت سؤالين مهمين: هل رحيله كاف؟، هل هو تغيير فى سياسة الوزارة؟

المدهش أن أهل مصر جميعا يرغبون فى تطوير منظومة التعليم، بل إن البعض تمنى أن ننسف المنظومة القديمة بقنبلة ذرية ونبنى نظاما جديدا على نظافة، لكن كل هذه الرغبات تمضى إلى مصب واحد وهو «نظام تعليم على قدر أولادنا ويريحهم»، وليس نظاما على قدر هذا العصر التى تتوسع فيه المعارف وتقفز فيه العلوم بدرجات غير مسبوقة فى تاريخ البشرية.

كلنا بلا استثناء نريد نظاما تعليميا سهل المداخل والمخارج، لا يبذل فيه أولادنا جهدا مضاعفا وعملا منظما جادا، يتكون من مناهج معقولة وامتحانات فى مستوى الطالب المتوسط، وتساهل فى التصحيح، ورأفة عند اللزوم..وهكذا.

نعم أدافع عن المفاهيم التى عمل بها الدكتور طارق شوقى، ولكن لا أوافق مطلقا على الأساليب التى لجأ إليها، لأنه أغفل طبيعة المصريين، لا أقصد أنه لم يصنع لهم نظاما على قدر ما يريدون، ولكن فى كيفية التعامل معهم وإقناعهم بسياساته، وتنفيذ إصلاح شامل حسب إمكانات المجتمع، فلم يدرك الفارق الاجتماعى والمادى بين تلاميذ جاردن سيتى وتلاميذ شق الثعبان، بين تلاميذ نجع مدكور فى الجبل الشرقى بالصعيد الجوانى، وتلاميذ حى الإبراهمية على شاطئ المتوسط، والمسألة ليست فقرا وغنى فقط، وإنما أساليب ووسائل حياة، لم يلم بها، فحدثت أزمة التابلت وهى فكرة بعيدة بمليون ميل عن حقائق الحياة لأكثر من نصف شعب مصر.

قطعا يريد الدكتور رضا حجازى أن ينجح ويستكمل منظومة التطوير إلى نهايتها، لكن عليه أن يتواصل مع الناس بطريقة مختلفة، أن يلجأ إلى وسائل وأساليب تتفق ومستوى معيشة المصريين دون أن يقدم أى تنازلات لأولياء الأمور فى المناهج والامتحانات والمواظبة على المدارس، وبالطبع هو يعرف أن التعليم هو جوهر الأمن القومى لمصر، فحال الدولة والمجتمع يتوقف على الإنسان وكفاءاته فى إدارة موارده وتنميتها المستدامة، ولا مستقبل أفضل دون غالبية من المصريين يتمتعون بكفاءة عالية، وليس قلة منهم أو بضعة ملايين من مئة مليون نسمة، والتعليم عام وفنى وجامعى وتحت الجامعى أهم عناصر بناء هذه الكفاءة، وقد ثبت أن الاستثمار فى البشر أجدى من أى استثمار آخر، لا يسبقه فقط إلا الحفاظ على الحياة نفسها.

وكلنا يعرف ماذا جنينا من تعليم تمحور حول «الطالب المتوسط»، مناهج وامتحانات، فأنتج لنا المتوسطين تعليميا، والمتوسطون مواطنون فى غاية الرداءة، لا هم جهلة ولا هم متعلمون بجد، فهبط الأداء العام إلى المستوى المتوسط من السباكة إلى الوزارة.

والصراع الذى بالضرورة سيخوضه الدكتور رضا حجازى  هو الانتقال من سياسة الطالب المتوسط، إلى سياسة الطالب الجيد، السياسة التى يرفضها أولياء الأمور فى المناهج والامتحانات، وهو نفس الصراع الذى فشل الدكتور طارق شوقى فى كسبه، لأنه سعى إليه قفزا من فوق أسوار اجتماعية واقتصادية وثقافية، فكان منطقيا ألا يحقق مراده ويشعر بالإحباط.

عموما التعليم الجيد ليس منهجا أو امتحانات أو إدارة تعليمية فحسب، إنما هو مدرس ومدرسة قبل كل ذلك.

والتعليم الجيد هو تعليم موحد لبناء مجتمع موحد، مثل التجنيد فى القوات المسلحة تماما، وتعدد نظم التعليم مصيبة بكل المقاييس، لأن التعدد يفتت نسيج المجتمع وجدانيا وفكريا ونفسيا، ونجد أنفسنا أمام تشرذمات اجتماعية لا تعرف شيئا عن بعضها البعض، بين تعليم دينى وتعليم مدنى وتعليم أجنبى ومدارس لغات وتعليم دولى، وهذا لا يعنى أن نلغى التعليم بمصروفات متعدد المستويات، ولكن نوحده فى نظام واحد مع تفاصيل تخص كل مدرسة دون أن تمس جوهر النظام.

والأهم هو رفع مدة العام الدراسى من مئة يوم فقط وهى مدة غير كافية بأى حال لدراسة المناهج الجديدة إلى مئة وثمانين يوما كاملة مثل كل بلاد الدنيا، على أن تبدأ الدراسة فى الأحد الأول من سبتمبر من كل عام، وتنتهى فى آخر مايو.

ورائع جدا أن يبدأ الدكتور رضا حجازى بالمضى قدما على درب تطوير التعليم، ومدخله هو المدرس، فالدكتور حجازى نفسه استهل حياته العملية مدرسا للكيمياء، ويَعْلَم أكثر من أى مصرى آخر كيف تلوثت مياه النهر، وأن تنقية نهر التدريس له أولوية قصوى، وإذا كان إصلاح أحوال المعلمين ماليا عملا مهما، فأول خطوة هى إعادة تدريب وتأهيل المدرسين فى كل مناهج التعليم وفق «خطة طريق» جادة جدة ولا تتوقف، وحبذا لو أنشأنا هيئة مستقلة لتدريب المدرسين وتأهيلهم، واستعنا فيها بخبراء أجانب، على أن ترفع الوزارة تقارير المتابعة كل ثلاثة أشهر إلى رئاسة الوزارة ورئاسة الجمهورية.

 لماذا المدرس؟

دون مدرس جيد لا مدرسة حقيقية، وستظل مدارسنا العامة تنعى خلوها من التلاميذ أغلب أيام السنة، والمدرس الجيد هو القادر على إعادة التلاميذ إلى المدرسة طول العام».

باختصار إنقاذ التعليم فى مصر مدرس ومدرسة ومناهج وإدارة يعتمد على أنفاق يوفر نظاما تعليميا كفئا، والسؤال: كيف نمول هذا التعليم فى ظل موازنة تئن وتشكو وتصرخ: العين بصيرة واليد قصيرة.

هذه مهمة تتجاوز قدرات الدكتور رضا حجازى، والتعليم مثل الصحة لا ينفع فيهما المثل الشائع «الشاطرة تغزل برجل حمار»، أذن: ماذا نفعل؟ 

الإجابة عن هذا السؤال لا تخص الحكومة وحدها، وإنما تخصنا جميعا إذا كنا نبحث عن مستقبل مختلف لأولادنا واحفادنا، طبعا الحكومة مسئولة، لكن ميزانية الدولة لا يمكن أن تغطى تعليما عاما جيدا،.

وأتصور أن الوقت قد حان لكى تدير الدولة حوارا مجتمعيا شاملا على مستويات عديدة، فى الإعلام، والنقابات المهنية، والنقابات العمالية ومراكز البحث عن كيفية توفير هذا التمويل الذى ينقذ التعليم.

نحن فى مأزق، وقد طال بنا أكثر مما يجب، وعلينا جميعا الخروج منه، العقول موجودة والأفكار موجودة، فكيف نصنع منها خريطة طريقة نلتزم بها دون انحرافات!

ومن هنا نبدأ.