السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
بساط الريح فى الجمهورية الجديدة!

بساط الريح فى الجمهورية الجديدة!

 لا يعرف تاريخ الحضارات الإنسانية مجتمعًا صنع نهضة أو طفرة تنموية متكاملة دون «ثقافة» واعية تبث فى مفاصله وشرايينه قيما تحرضه على العمل الجاد والإتقان واستثمار الوقت والتفكير العلمى المنظم، نعم يمكن لأى مجتمع أن يتقدم خطوة أو بضع خطوات أو حتى مئة خطوة، ثم دون سابق إنذار يتباطأ أو يتوقف أو يتراجع، وتنتاب أهله حيرة كبيرة، وتشغله أعراض المرض فى الإسكان والمرور والعمل والإنتاج والتصدير والتصنيع والنقص فى السلع والخدمات عن إدراك أصل الداء، وهو فيروسات تخلف كامنة فى ثقافته، تنشط فجأة وتضرب فى أوصاله، فتعطله ويظل متأرجحًا قدما فى القرون الوسطى وقدما فى العصر الحديث.



أتصور أننا مصابون بهذه الفيروسات منذ قرون، ولم يحدث أن عالجناها أو عرفنا كيف نتجنب شرورها أو نخفف من قبضتها، بالرغم من محاولات مضنية على مدى قرنين من الزمان، بدأناها مع محمد على باشا.

وفيروسات الثقافة أشد خطورة من الفيروسات العادية، لأنها تضرب مركز الوعى فى عقل الإنسان، والثقافة ليست مجرد معلومات إنما نافذة لرؤية الحياة، من الذات إلى البيئة المحيطة، ثم العالم بأسره، وكلما اتسعت النافذة وأطل منها غالبية المجتمع كانت النهضة ممكنة، وتصبح الثقافة بساط ريح يطير به من عصر إلى عصر، وكلما ضاقت النافذة تظل الثقافة مجرد حرارة صادرة من حرقِ قشٍ بالكاد يشرب عليها كوب من الشاى.

والثقافة لها عناصر كثيرة، لكن عمادها الأول هو المعرفة الصحيحة والخبرة الإنسانية العميقة، وقد تتعجب وتسأل: المعرفة هى المعرفة.. فكيف تكون صحيحة وغير صحيحة؟

دون الخوض فى نظرية المعرفة حتى لا نتشتت، تعالوا نذهب إلى الفيلسوف أفلاطون أول من وضع أسس الفلسفة الغربية والعلوم، والمعرفة عنده هى أى اعتقاد صادق يقوم عليه البرهان والدليل، ولها ثلاثة شروط، الصدق، القدرة الذهنية المتعلقة بالقضية موضوع المعرفة، الأدلة والبراهين التى تثبت صدق تلك القضية.

وفى قول آخر هى الإدراك والوعى وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد. 

وأتصور أن المعرفة لدى قطاع عريض منا - وفق هذا التعريف - محدودة جدا، أو لا تتوافر لها ما يثبت صدقها، لكن أصحابها يتصرفون ويتحركون ويعملون ويقررون، وهم يعتقدون يقينا «أنهم يعرفون»!

فكيف لمجتمع أن ينهض بهذه الثقافة المحدودة؟

والثقافة الدينية من أهم جوانب الثقافة فى المجتمع المصرى، وهى المعرفة والخبرة التى يفهم بها الناس دينهم، وبالطبع يترجمون هذا الفهم إلى تصرفات ومعاملات مع الحياة رجلا وامرأة، فى البيت والمصنع والغيط والشركة والورشة والمكتب والشارع والشاطئ والسوق والمعمل والبرلمان والقطار والمطعم والمقهى ومدرجات كرة القدم وصندوق الانتخابات.. إلخ.

ولا أظن أننا راضون عن أحوالنا أو على الأقل هى دون ما نحب.

والسؤال: لم لا نكون أفضل؟

أسباب كثيرة ومتشابكة، ومنها الثقافة الدينية السائدة، فهى عائق صلد، من فضلكم لا تتسرعوا ولا تتنمروا ولا تجنحوا إلى تكفير الكاتب، بالخلط عمدا أو سهوا بين الثقافة الدينية والدين، الثقافة الدينية فهم بشرى، والدين أمر سماوى، الفهم حالة نسبية، والدين ثابت بنصوصه، ونحن نتحدث عن الثقافة.. أى فهم البشر لدينهم.

وإليكم هذا المثل الذى تصادفونه كل يوم فى أى عمل.

ذات مرة وقت الظهيرة كنت فى هيئة حكومية، صاعدا إلى الدور السابع، وقفت مع آخرين بعضهم عجائز أمام باب الأسانسير ما يقرب من عشر دقائق دون أن يهبط، تذمرنا وعلت أصواتنا، قال موظف الأمن: عامل الأسانسير ذهب يصلى، ولن يعود قبل نصف ساعة.

 صعدنا بالتيلة، وصلت منهكا متقطع الأنفاس، اتجهت إلى الخزينة لأسدد قسطا حل، وجدت رجل الخزينة يغلق باب مكتبه مسرعا، سألته أن أسدد فى دقيقة أو دقيقتين، رد صائحا: وقت صلاة، وتركنى وذهب.

عاد بعد 40 دقيقة..قلت له: الصلاة فى خمس دقائق أو عشرة على الأكثر.

قال غاضبا: نتوضأ ونصلى السنة، وننتظر الباقين لنصلى الفرض جماعة.

سألته: وهل تجوز الصلاة من وقت العمل المخصص للناس؟

ازداد غضبه: يعنى إيه؟

قلت: الصلاة علاقة مباشرة بين العبد وربه، من ماله وجهده ووقته، وليس من وقت الآخرين، هذه سرقة علنية! امتزج الغضب بشرارات تطق من عينيه: من أنت؟، هل أنت مسلم؟، كيف تعترض على الصلاة؟، الصلاة أهم والشغل يستنى.

قلت: قطعا لا اعترض على الصلاة، لكن الصلاة لها ميقات، وصلاة الظهر ميقاتها من أذان الظهر إلى ما قبل أذان العصر، وهذا المساحة الزمنية رخصة من الله قدرها لعبادة يستغلونها وفق ظروفهم، يعنى كان يجب أن تنهى مصالح الناس أولا ثم تصلى.

فصرخ زاعقا: هذا كفر.

فتماديت فى الرد عليه: لو كنت مؤمنا حقا وتدرك أن جوهر دينك هو المعاملة وقضاء حوائج الناس، ما سرقت من الناس وقتا تصلى فيه وتعطلهم، وإذا كنت مضطرا حتى لا يفوتك الميقات، يجب أن تعمل وقتا بديلا تعويضا عن الوقت الذى صليت فيه.

كظم غيظه وهو يهمس بكلمات لم أسمعها

بالطبع تصرفُ هذا الموظف نابع من ثقافته الدينية وليس من دينه.

بعد شهور أفضيت باقتراح الوقت البديل لمدير فى مؤسسة كبرى، بأن يمنح موظفيه 45 دقيقة راحة لصلاة الظهر ويضيفها إلى ساعات العمل، فاعترضوا بشدة وأصروا على الصلاة والخروج من العمل فى التوقيت العادى.

ورضخ لهم حتى لا يُتهم بالعداء للدين.

هؤلاء أيضا تصرفوا وفق ثقافتهم الدينية وربطوا الصلاة بمصالحهم فى «الزوغان من العمل» ساعة يوميا.

هذا مجرد نموذج فى مسألة شديدة الوضوح..

هل يمكن أن يخرج داعية أو أستاذ شريعة أو مفتٍ ويقول للناس إن العمل عبادة، وإذا أخذوا وقتا منه للصلاة دون تعويضه ليس من صحيح الدين؟

أصلا هل يجرؤ على مواجهة هذه الثقافة الدينية؟

لا أتصور حدوث هذا.. وإلا لحدث فعلا

هل يمكن أن يصف الدعاة «إتقان العمل» بأنه من التقوى التى يفاضل بها الله بين عباده؟

وبالمناسبة كل قيم العصر الحديث هى قيم لها نصوص فى القرآن الكريم مثل حرية العقيدة وحرية التعبير وتقدير الوقت واحترام الآخر وإتقان العمل والمثابرة والجد فى كل الأمور الحياتية والتدبر أى التفكير العلمى المنظم..

هل يعمل بها المسلمون المتشبثون بمظاهر التديين؟

قطعا لا، لأن حراس ثقافة التخلف اصطنعوا صراعا شرسا ضد الحداثة، أى قيم العصر الحديث باعتبارها مذهبا منفلتا، لا يردعه إلا القديم الذى نحافظ عليه ونتشبث به ونتخندق فيه سواء كان صالحا أو تحلل بفعل التطور الفكرى.

صراع تجاوز عمره الآن مئتى سنة، دون هدنة ولو لمجرد التقاط الأنفاس وإعادة النظر فى الأسباب، فالمسلمون فوجئوا بعلوم ومعارف غير الشريعة والفقه والحديث والسيرة والبلاغة والنحو والصرف، وأن العالم يتطور كل يوم فى العمارة والأسلحة والكيمياء والفيزياء وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم الإدارة وتنظيم الجيوش والنظم السياسية والطب.. إلخ.

وفى أول صدام فكرى مع علوم ومعارف الحملة الفرنسية على مصر، تخفى رجال الدين خلف سؤال وجودى كانت إجابته صعبة جدا على الناس: ما الذى نأخذه من علوم هؤلاء الكفرة وماذا ندع؟، هل ما نأخذه يهدد ثقافتنا وقيمنا وعاداتنا وأخلاقنا.. وديننا أيضا؟

سعى السؤال بصياغته العدائية وقتها إلى غلق باب التحديث بالضبة والمفتاح، فالقديم الذى نعرفه أسهل علينا من الجديد الذى نجهله، لكن بمرور الزمن وتعدد الروابط والعلاقات الضرورية بالغرب، عثر رجال الدين على سبب وجيه يقدمونه للناس تبريرا لموقفهم، فهذه العلوم الحديثة والمعارف الجديدة يصاحبها بالضرورة حريات عامة وحريات فردية تتسع مساحاتها كل يوم، وتُحدث تغييرات جوهرية فى البنيات الطبقية والعلاقات الاجتماعية ومنظومة القيم وما يتبعها من أخلاق، وبذلك أخرجوا عفريت المخاوف من قمقمه، مخاوف الذوبان فى الحضارة الغربية اجتماعيا وأخلاقيا!

 وبدلا من أن يفكر علماء الأمة فى كيفية الجمع بين الحسنيين، عقلية الغرب وثقافته فى العمل مع الحفاظ على القيم والأخلاق المنصوص عليها فى الدين، دخلوا حربا ضد الحداثة برمتها.. وطبيعى أن ينحاز لهم كثرة من عامة الناس، فالتعليم بعافية والجهل فارد أجنحته والخرافات سوق رائجة، فى الوقت نفسه ظهر فريق اندفع بشدة ناحية الغرب ينهل منه دون حسابات، وفى رأيهم أن علوم الغرب وقيمه ونظمه هى طوق النجاة الوحيد من الفقر والتخلف، لكن بعضهم غالى فى معاداة القديم سخريا واستهزاء وتحقيرا، فاستفز قدرا هائلا من العداوة له.

وهنا رقصت النهضة المصرية على السلم، مرة تصعد ومرة تهبط وهكذا دواليك!

والحيرة أمر طبيعى فى مجتمع لم يتمكن أبدا من تأسيس ثقافة جديدة تشكل تيارا عاما راسخا، يمكنه الفرز بين الصالح والطالح، خاصة أن أنصار القديم صوروا الحداثة شرا خالصا مقابل القديم الذى هو كل الخير، ونعتوا الحداثة بكل الصفات المنفرة: «اتجاه فكرى أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة»!

«الحداثة مذهب فكرى يسعى إلى هدم كل موروث والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات».

«نمت الحداثة الغربية وترعرت فى أوحال الرزيلة ومستنقعات اللا أخلاق».

لا يهمنا فى هذا الصراع إلا ما أحدثه فى عقول مصريين بالملايين، وهو عدم استكمال طريق التحديث العقلى والفكرى، خاصة مع تدهور التعليم وشيوع ثقافة الهجرة النفطية.

باختصار شديد إذا دام العقل القديم وثقافته قد يستنزف منا وقتا طويلا فى بناء الجمهورية الجديدة، وقد يعطلنا فى منتصف الطريق، فهو عقل كما أثبتت تجارب البشر غير قادر على حل المشكلات، ولا مفر من تحديث العقل وبناء ثقافة عامة واعية، تمثل لنا بساط الريح الذى يطير بالجمهورية الجديدة من واقع مأزوم إلى واقع ناهض، على غرار ما فعلته اليابان دون أن تفقد هويتها.