الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حديث عن جرائم القتل الأخيرة

حديث عن جرائم القتل الأخيرة

مَن يتابع رد فعل الناس على الجرائم كثيفة العنف والوقاحة التى حدثت فى الأسابيع الأخيرة يتصور أننا مجتمع مسالم لا يعرف هذا النوع من الجرائم، ولم يسمح لها بأن تتسلل من تحت جلده، وحين فوجئ بها أمامه، أخذته الصاعقة وراح يشق ملابسه ويلطم خدوده ويرفع يده بالدعاء: يا خفى الألطاف نجّنا مما نخاف.



شىء طبيعى أن يمد المجتمع قرون استشعاره ويمعن بصره ويدس أنفه ويرهف سمعه فى جرائم تُرتكب بوحشية مفرطة على مسمع ومرأى العابرين، أو التى يكون أطرافها جناة أو ضحايا يستحيل أن يخطروا على البال، وشىء طبيعى أن يحلل ويفسر ويفكر لعله يعثر بين دماء الضحايا وشخصيات القتلة على سر اللغز، ليبعدها عنه أو يحاصر مخاطرها فى أضيق حدود، لكن ليس من الطبيعى أن ينصب لهذه «الجرائم» زارًا شعبيًا على صفحات التواصل الاجتماعى والمواقع الإخبارية والفضائيات، ضجيج وصخب وشوشرة ذهنية.

هذه عادة قديمة، فعلناها قبل 38 سنة فى جريمة الست «سميحة عبدالحميد»، التى قتلت زوجها بدم بارد ولها منه خمسة أطفال، مزقته بالساطور، وفصلت رأسه عن جسده وألقته فى صندوق قمامة، ثم أشعلت النار فى البيت لطمس الأدلة، وأفردت لها الجرائد صفحاتها شهورًا تحت عنوان «مسلسل قتل الأزواج»، وأخرجته السينما فى فيلم (المرأة والساطور) بتفاصيل مجمعة من عدة جرائم!

ولم نكسر هذه العادة لما قتل الطبيب أحمد عبد الله زوجته وأطفاله الثلاثة قبل ثلاثة أعوام فى كفر الشيخ، وتجمعنا وهات يا فتاوى، لكن دون مسلسلات أو أفلام.

الجريمة الوحيدة التى لم نقف عندها ولم ننصب لها زارًا هى جريمة قتل صوفى ولودى ابنتى توفيق باشا أندراوس فى قصرهما على نيل الأقصر فى يناير 2013، وقد تكون الجريمة الأكثر وحشية على الإطلاق، وتوفيق باشا كان قطبًا وفديًا شهيرًا ونائبًا لرئيس مجلس النواب فى عام 1919، وكانت ابنتاه فى أراذل العمر، فوق الثمانين، وقتلتا ضربًا بسيخ حديد، فأحدث كسرًا فى الجمجمتين وحطامًا فى عظام الوجهين، وفقأ فى العيون، وعثرت الشرطة على السيخ، ولم تجد «قشاية» واحدة مسروقة من القصر، وقيدت ضد مجهول، ربما كان العنف عامّا وقتها واللهو الخفى المسمى الإخوان شاغل الناس إلى حد الثمالة.

وعمومًا أى إحصاءات للجريمة تبيّن أن معدلها ارتفع بشكل ملحوظ وتعددت أشكالها بعد الفوضى التى صاحبت ثورة 25 يناير 2011، وأن جرائم القتل والخطف والاغتصاب تحديدًا تضاعفت.

ورُغم هذا.. لسنا بعيدين عن وصف مجتمع مسالم وطيب نسبيًا، لكننا أيضًا مجتمع ريا وسكينة وخُط الصعيد وأولاد الشوارع.. إلخ، فالمجتمع المسالم الطيب لا يعنى أنه خالٍ من العنف والقسوة والقتل، ألم تكن بيئة قابيل وهايبل مجتمعًا مسالمًا لم يعرف جريمة قتل على الإطلاق؟، بل إن القاتل لم يشاهد أفلام عنف ولا مسلسلات بلطجة ولم يكن مدمنًا، ولم يكن عاطلاً أو يعانى ظروفًا ضاغطة وفسادًا وتشوهات اجتماعية.. كان عاديًا للغاية وقتل أخاه لمجرد الحسد والغيرة؛ لأن قربانه إلى الله لم يُقبَل منه، يبدو أن العنف مثل الجنون، حين يتلبس الإنسان لا يستطيع السيطرة على حدود تصرفاته.

بالتأكيد العنف كامن تحت جلد البشر، والتحضر يكبته ويضغطه، لكنه فى لحظة ما ينفجر، فلا يخلو منه أى مجتمع.. لكن بالقياس مع مجتمعات أخرى، فنحن مجتمع مسالم إلى حد ما، والقياس هو السبيل الوحيد لنعرف أين نحن بالضبط فى عالم الجريمة، التى تعد الولايات المتحدة قوى عُظمى فيها أيضًا؛ بل القياس «سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا» هو طريقنا لإدراك مركزنا الحضارى والإنسانى على كوكب الأرض.

فى الغالب لا يولد الإنسان شريرًا أو قاتلاً، وإن كان جهازه العصبى يتشكل وهو فى بطن أمّه، متأثرًا بحالتها النفسية والجسدية خلال فترة الحمل، وإذا انحرف إلى هذه التصرفات فهى راجعة بدرجة كبيرة إلى خلل فى البيئة المحيطة به، فلم يلقَ التربية المناسبة والرعاية السليمة.

لكن فيه علماء اجتماع يصفون الجريمة بأنها تشبه جنينًا عشوائيًا يقتات على كل العيوب الچينية والاجتماعية التى يتوارثها الفرد عن أبيه وأمه وأجداده، ولا يزال العالم يجهل أسباب هذا الخلل الچينى المفاجئ الذى يصيب بعض البشر، يدرسه العلماء بجدية، وهم مقتنعون بأنه دورة طبيعية تطول كل الكائنات الحية.. وهو الخلل الذى فسروا به أول جريمة قتل فى التاريخ، وتحول فيروس «كورونا» من الحيوانات إلى البشر.

أمّا عالم الاجتماع الأشهر الفرنسى «دافيد إيميل دوركايم» فكان حريصًا على وضع الجريمة فى مربعها الإنسانى بلا تجميل أو تشويه، باعتبارها أعراضًا جانبية حتمية لنشاط الإنسان وسعيه فى الحياة، ووصفها بأنها ظاهرة اجتماعية وليست شاذة فى جميع المجتمعات، على اختلاف درجة تطورها وحجمها، ويستحيل أن يخلو منها مجتمعٌ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، متقدمًا أو متخلفًا، ريفيًا أو حضاريًا، لكن حين تتجاوز المستويات المألوفة تصبح ظاهرة شاذة وغير سوية.

وعمومًا كل جريمة قتل لها بصمة خاصة بها، ظرف وبيئة وأشخاص، حتى لو تشابهت الدوافع، ويستحيل أن نضع جرائم القتل فى سلة واحدة ونفسرها معًا.

ولن نضع جرائم الانتحار الأخيرة فى الحسبان، فهى ذات طبيعة خاصة جدًا.

ونأتى إلى الجريمتين اللتين أثارتا كل هذا اللغط.

جريمة قتل طالبة المنصورة.. وجريمة قتل المذيعة.

جريمة المنصورة حدثت من قبل فى الإسماعيلية بتفاصيل مختلفة وأشد قسوة، ولم يمضِ على ارتكابها سوى سبعة أشهر فقط، حين هجم الشاب «دبور» على العجوز أحمد وأمسكه من رقبته وجزها، وأخذ الرأس فى يده، متجولاً به فى الشوارع .

فى المنصورة جرى محمد عادل خلف نيرة فى الشارع وضربها بالسكين وذبحها، لم يكن جديدًا  لا فى الطريقة ولا فى الدافع النفسى، وهو الإحساس بالإهانة الشديدة.

كان العجوز أحمد يريد فعلاً مهينًا من دبور وهدده أن لم يأتِ إليه فسوف يفضحه (حسب اعترافات القاتل ولا نملك غيرها)، وإذا صح دافع دبور، فهو لم يخشَ الفضيحة، لكن استفزته الطريقة التى تكلم بها العجوز  معه، فالفضيحة تنال من العجوز أضعاف أضعاف ما تنال من دبور، ويستحيل أن يعلنها، وكان دبور مدمنًا.

فى اعترافات محمد عادل بأسبابه لقتل نيرة ذكر دافعًا مشابهًا، هو إهانتها له برفضها الارتباط به وتعاليها عليه.

المدهش أن شهود العيان صوروا الجريمتين بالتليفونات المحمولة، ونشروها على شبكات التواصل الاجتماعى.. نعم نحن نعيش فى عصر الفرجة.

لكن أسوأ ما فى قضية نيرة هو «تبرير الجريمة» الذى ضرب قطاعًا كبيرًا من المتشددين والمتطرفين والسلفيين، كما لو أن إزهاق روح فتاة يمكن قبوله، لمجرد أنها غير محجبة، مع إن الإسلام يحسم سفك الدماء حسمًا لا يقبل اجتهادًا مخالفًا، إذ يصف الله قاتل النفس البريئة بأنه كمن قتل الناس جميعًا!

عمومًا يبدو رفض نيرة المهين لمحمد عادل دافعًا ضعيفًا للجريمة، أى تظل نفسية الإنسان وتقلباتها ورغبتها فى الانتقام السريع لغزًا يصعب فك طلاسمه إلا قليلاً، وبالفعل ثمة جرائم عبثية ارتكبها جناة وكان أمامهم بدائل كثيرة أخف وطأة، لكنهم جنحوا إلى الحل الدموى لأسباب مدفونة فى أعماقهم الغامضة.

أمّا جريمة المستشار فهى أسهل كثيرًا فى التحليل والتفسير، والتعجب الشعبى، كيف لعلمه ومنصبه لم يمنعاه أو يجبراه على إعادة التفكير لا محل له من الإعراب، العكس هو الصحيح كان علمه ومنصبه ومكانته عناصر ضاغطة عليه، وسكنت قلب دوافعه.

فالقاتل حاصر نفسه فى «مأزق» خطير صنعه بإراداته الحرة، مأزق تأسس على علمه ومنصبه ومكانته، بالخفايا التى يعيشها فى عمله وحياته، خفايا تسربت إلى زوجته الثانية المذيعة، سواء عفوًا أو كانت طرفًا فيها، وبعد سنوات من «تجميع الخيوط» وحفظ التفاصيل، قررت الزوجة أن تعيد ترتيب أوضاعها الاجتماعية والمالية، فالشراكة أكبر من حبسها فى الظل.

والقول إن دافع الجريمة هو الخوف من إبلاغ زوجته الأولى وعائلته الكبيرة ودائرته القضائية بزواجه السرى لا يستقيم وحقائق الأمور، فالحل كان سهلاً للغاية، أن يطلقها ويهرع إلى زوجته نادمًا معترفًا لها بأنه صحح خطأ اقترفه فى لحظة ضعف أو فقدان تركيز أو..أو ويتحمل الثمن كثيرًا أو قليلاً من الغضب والخناقات والأزمات حسب الظروف، وحتى يتدخل أولاد الحلال من العائلتين بلم الشمل بأى شروط.

لكن ماذا يفعل فى أسرار خطيرة عليها تفاصيل وأدلة تعرفها عنه الزوجة المذيعة؟، هل تقبل الخروج من المولد بلا حمص فى شنطة سيارة بورش؟

ماذا يحدثت لو تهورت وأفصحت؟

قبل سنوات تزوجت مذيعة فى بداية حياتها العملية عرفيًا من إعلامى ثرى كانت هوايته الزواج العرفى من صحفيات تحت التمرين، ويحتفظ هو بالعقود، كان ذلك الإعلامى على خلاف شرس مع رجل أعمال كبير، وحين تطلقت منه المذيعة المبتدئة أسرعت إلى رجل الأعمال، ومعها عدد كبير من صور العقود العرفية، وعرضتها عليه مقابل مليون جنيه، لكن رجل الأعمال رفض وشكرها.

هل سمع المستشار بهذه الحكاية؟، هل يقبل أن يسقط فى الفخ؟

لم يكن الطلاق حلاً، ولا يضمن صون أسراره، كما أن الزواج نفسه انتهت صلاحيته بالابتزاز وتبادل الطرفان ألفاظًا وصفات سيئة قبل دقائق من الجريمة.

هنا النفس الأمّارة بالسوء تحكم وتتحكم، لا منصب ولا علم ولا عائلة ولا أى شىء.

فعلاً كثير من جرائم القتل هى بتحريض من بيئة فاسدة أو تصنعها بيئة فاسدة!