الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الشعوب التى لا تعمل بجدّيّة تتفاقم فيها المشكلات ولا تُحَل كأننا نعمل.. والخبراء الأجانب هم كلمة السر!

الشعوب التى لا تعمل بجدّيّة تتفاقم فيها المشكلات ولا تُحَل كأننا نعمل.. والخبراء الأجانب هم كلمة السر!

لم تكتسب مرافعة سينمائية قبولاً وذيوعًا إلى الحد الذى أوصل الجمهور إلى حفظ مقاطع منها إلى يومنا هذا مثل مرافعة أحمد زكى فى فيلم (ضد الحكومة)، ثلاثون عامًا ولا تزال كلمات السيناريست بشير الديك ساخنة ترن فى الأسماع كجرس إنذار زاعق دون توقف.



وقد حان الوقت الآن لكى نراجع هذه الكلمات بطريقة غير التى اعتدنا عليها، أن ننتقل بها من مربع السخرية إلى مربع الجدّيّة، من مربع الاستشهاد العابر إلى مربع العمل على كسر دائرتها الخبيثة، لم نعد نملك ترف «وقت ضائع»، فالوقت لم يعد من ذهب كما يقولون، الوقت هو الحضارة، فالحضارة بكل منتجاتها الثقيلة والناعمة، وأشكالها المادية والمعنوية هى فى جوهرها (عمل فى وقت)، يعنى خلاصة استغلال الوقت فى إحداث نهضة دائمة، فإذا أهدر الناسُ الوقتَ، ولم يديروا ثروته بكفاءة فمن المستحيل أن يصنعوا تقدمًا وحضارة؛ بل العكس هو الصحيح، أن يستقروا فى قاع التخلف بكل ما يعنيه من عوز اقتصادى واجتماعى وسياسى وثقافى، يتشكل فى مشكلات حياتية لا أول لها ولا آخر، والعوز هو تراجُع إلى الخلف؛ لأن الزمن حركة متواصلة إلى الأمام، أى تتسع المسافة الحضارية بين راكب الزمن والمتفرج عليه.

وهنا دعونا نتذكر بعض مرافعة بشير الديك الرائعة: اصطدمت بالمستقبل، المستقبل الذى يحمل طوق نجاة لنا، رأيتنا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هى طبائع الأمور، كان لا بُدّ أن أقف، كلنا فاسدون.. كلنا فاسدون، لا أستثنى أحدًا، حتى بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة، كل ما أطالب به أن نصلى جميعًا صلاةً واحدةً لله الواحد، إله العدل الواحد الأحد القهار، لستُ صاحب مصلحة خاصة؛ لكن لدَىَّ علاقة ومصلحة فى هذا البلد، لدَىّ مستقبل هنا أريد أن أحميه.

وتنتهى المرافعة بكلمتين عاطفتين: «أغيثونا.. أغيثونا»..

هل يمكن أن نقف جميعًا أمام مرآةٍ نقية ونصرخ بهذه العبارات، دون «أغيثونا أغيثونا»، فهى مجرد نداء عاجز، ولن يستطيع أحد أن يغيثنا، نحن فقط القادرون على إغاثة أنفسنا.

والسؤال: هل نملك فعلاً شجاعة أحمد زكى ونعترف أننا نعمل كأننا نعمل، أيًا كانت وظائفنا وأدوارنا ومُهمّاتنا ومناصبنا وأملاكنا وثقافتنا؟

اعترافنا مهم جدًا، فهو أول خطوة فى كسر الدائرة الخبيثة التى ندور فيها منذ عشرات السنين، فالاعتراف هنا ليس سيّد الأدلة فحسب؛ وإنما هو نوع من التمرد على هذه السلوكيات، بحث عن الخلاص منها، لوم للنفس التى أدمنت «شبه العمل» وعاشت عليه، لكى نعمل ونعمل بكل طاقاتنا.

مؤكد أن بعضنا أو كثيرًا منا يعترض أو على الأقل لا يتفق مع تشخيص «كأننا نعمل»، ويتصور أن فيه مُبالغة وجنوحًا، وربما يظن أنها محاولة خبيثة نشق بها ثغرة فى جدار مسئولية الحكومة عن عدم حل المشكلات الحياتية المحيطة بالناس، ونضع الشعب خلف الأسوار متهمًا بـ«كأنه يعمل»، والشعوب التى لا تعمل بجدّيّة تتفاقم فيها المشكلات ولا تُحَل.

قطعًا ليس هذا مقصدنا، ولا يعنينا تبرئة حكومات أو إدانتها؛ لكن من الضرورى أن نرى واقعنا بالضبط، ونعرف ونفهم بعضًا من حقائقه حتى لو كانت مؤلمة، وقطعًا كل حكومة فى مصر الحديثة كانت مقصرة فى حق مصر والمصريين؛ لأنها لم تفكر فى كيفية إنهاء «ظاهرة كأننا نعمل»؛ بل تركت الحبل على الغارب للحصول على الرضا السياسى، فكانت الظاهرة تتمدد يومًا بعد يوم، حتى ساهمت مثلاً فى إفساد نظام التعليم، فأصبح عندنا «شبه تلاميذ» بالملايين، وشبه مدارس، وشبه مدرسين.. ونحاول الآن أن نجعلهم تلاميذ ومدارس ومدرسين، فنواجه بمقاومة شعبية وإن كانت تقل بالتدريج.

ولو تخلينا عن الهروب من مواجهة الواقع وتوقفنا ونظرنا حولنا وسألنا أنفسنا أسئلة صحيحة، ألا نقابل كثيرًا من هؤلاء الذين كأنهم يعملون؛ موظفين وعمّالاً وصنايعية وعاديين وحرفيين ورؤساء أقسام فى شركات وقطاعات ومديرين وصحفيين ومهندسين ومحامين ورؤساء مؤسّسات وهيئات عامة وأندية واتحادات رياضية ووزراء!  

هل حدث أن أحدًا منا، من أول قاع المجتمع إلى قمته لم يستأ مرة ومرات من سوء أداء عامل أو موظف أو صنايعى أو مهنى.. إلخ؟، هل هى حالة فردية أو حالات متكررة؟ كم مؤسّسة أو شركة أو هيئة تعانى من أزمات فى الكفاءة تنتهى إلى أوضاع مالية سيئة؟ هل هى حال العمل فى بلادنا؟

وكأننا نعمل غير العمل، ودون الاستغراق فى تحليل وتفسير وتفكيك الظاهرة، نبسط المسألة فى الفارق بين حرب يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973.. والفارق أيضًا بين بناء كوبرى أكتوبر فى 30 سنة، وعشرات الكبارى الأخيرة فى بضع سنوات قليلة..والعمل ليس جهدًا بدنيًا فقط؛ وإنما تفكير وتخطيط وحسابات وتنفيذ ومتابعة وروح فريق.

صحيح أن فينا من يعمل بمنتهى الجدّيّة والإخلاص والتفانى والإبداع، وهم بضعة ملايين من المصريين، لكنهم ليس بالعدد الأكبر الذى يستطيع أن ينتشل مجتمعًا ضخمًا كالمجتمع المصرى، وزنه أكثر من مئة مليون نسمة، مشدود بسلاسل من قيم قديمة معطلة للطاقة ومُثقل بعادات وخرافات وسلوكيات مقطوعة الصلة بزمنها وغارقة فى بحر الظلمات.

مؤكد أننا لن نستطيع أن نفك هذه السلاسل بين يوم وليلة، فالمجتمعات تأخذ وقتًا طويلاً للتحرك من مربع قيم وتقاليد عاشت فيها إلى مربع قيم وتقاليد أكثر إيجابية، لكن يمكن أن نبدأ الخروج من نفق «كأننا نعمل» ونحن نتغير ببطء.

نريد العمل الجاد- بإخلاص وإتقان- تيارًا عامّا فى كل شبر على أرض مصر، فى المرور والشوارع والشواطئ والمكاتب ودواوين الوزارات والمستشفيات والطرُقات والمَزارع والمصانع والشركات.. إلخ.

والسؤال: ولماذا أصلاً لا نعمل تلقائيًا بكل طاقة وإتقان؟

لن أخوض فى التحليل العميق وأكتفى بسبب فى النظام العام، وهو اختيار الأشخاص ومتابعة العمل بصرامة وتقييم القائمين عليه بأمانة ثم المحاسبة العادلة لهم.

بالقطع اختيار الأشخاص الخطأ لأى منصب، سواء كان صغيرًا أو متوسطًا أو كبيرًا هو دعوة عامّة مؤثرة جدًا إلى حالة «كأننا نعمل»، وفى الغالب هى اختيارات مرتبطة بعلاقات لا بالمؤهلات، والمؤهلات ليست شهادات علمية فقط؛ وإنما سمات شخصية، دورات تدريبية حقيقية، تاريخ من النجاح، قدرات على تحمُّل المسئولية بكفاءة.. وهكذا.

ذات مرّة كنت فى مكتب رئيس وزراء، عرفته سنوات طويلة، وكان الحديث وقتها مشتعلاً عن اختيار رؤساء لشركات القطاع العام، فوجدت كومة من الملفات، فقلت: الله فى العون، ضحك قائلاً: لن تصدق كلها توصيات بأسماء رؤساء للشركات، توصيات من شخصيات نافذة فى المجتمع.

أخذتنى الدهشة: ياه.. هذه مشكلة كبرى.. كيف تحلها وكل واحد يتصور وصيته لها مفعول السحر؟!

قال بهدوء: لهذا السبب تأخَّر إعلان التعيينات شهورًا.. وسنجد طريقة.

إذا كان هذا فى مكتب رئيس وزراء، فكيف يكون الوضع فى مكتب وزير أو محافظ أو رئيس مصلحة أو جامعة أو مؤسّسة أو هيئة أو مدير عام نزولاً إلى تعيين رئيس قسم؟!

لا تنسوا أن التعميم خطأ وخطيئة، وبالطبع توجد مساحات مضيئة واختيارات مبنية على الكفاءة والمؤهلات الجيدة.. لكننا نتحدث عن الجانب الآخر المعتم وهو ليس صغيرًا.

وطبيعى ما يحكم التعيينات من وسايط ومحاسيب يستكمل نشاطه فى المتابعة والتقييم والمحاسبة، فتقارير المتابعة خالية من النواقص والتقييم امتياز مع مرتبة الشرف، مع أن الواقع يمضى إلى درب التعاسة.

وقد سمعنا كثيرًا عن رؤساء شركات أو مؤسّسات «جابوا دروفها الأرض» وانتقلوا منها إلى أماكن جديدة.. فلماذا لا تستفحل ظاهرة «كأننا نعمل»؟

طيب والحل؟!

تخيلوا هو نفس ما فكر فيه اتحاد كرة القدم فى ضبط لجنة الحكام.. خبير أجنبى يرأس اللجنة، يعيد تنظيمها، دون أن يعرف فلانًا ولا يجامل علّانًا، ولا يستجيب لطلبات ترتان، فتمضى فى عملها كالساعة وتختفى أزماتها تدريجيًا. نعم الأجانب أكثر جدّيّة منا فى العمل، سواء غضبنا من هذه الحقيقية أمْ لم نغضب، عندهم تقاليد إلى حد كبير فى احترام القانون والقواعد والإجراءات والنزاهة فى التعامل، وقطعًا عندهم فاسدون، لكننا نود أن نستعين بأصحاب كفاءة وخبرات وسمعة رفيعة فى مجالاتهم.

نعم علينا أن نفعل كما فعل محمد على باشا، نأخذ أحسن ما فى تجارب النهضة المصرية فى بداية القرن التاسع عشر ونستبعد خطاياها ومساوئها، نريد خبراء أجانب فى لجان الاختيار والمتابعة والتقييم فى كل نشاط عام فى بلادنا؛ لا سيما فى برامج إعادة التدريب والتأهيل لكل القوَى العاملة المصرية التى يلمع أغلبها على الورق دون الواقع، نريدهم فترة قد تطول أو تقصر حتى نتخلص من أدران المجاملات والمحسوبية والاستثناءات، تراث شاع فى بيئتنا فصارت «كأننا نعمل» ثقافة سائدة.

لا يمكن أن ننكر أن مصر بها عشرات الآلاف من الخبراء فى غاية الكفاءة؛ لكنّ عددًا غير قليل منهم يتصرف بطريقة «دعه كأنه يعمل دعه يمر».

مؤكد أن استكمال بناء الجمهورية الجديدة يفرض علينا أن نتخلص فورًا من ظاهرة «كأننا نعمل»، والجمهورية الجديدة هى بناء دولة مصرية على أسُس وقواعد غير تلك التى انتهت بنا إلى الأزمات، ولن نفعلها دون خبراء أجانب يضبطون ميزان العمل المعوج، لأننا لن نعدله بأنفسنا.

والأهم لدينا مستقبل هنا نريد أن نحميه.