الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وعى توفيق الحكيم المفقود.. مرفوض جدًا!

وعى توفيق الحكيم المفقود.. مرفوض جدًا!

كلما سمعت كلمة «الوعي» فى برنامج تليفزيونى أو قرأتها مطبوعة أو على صفحات التواصل الاجتماعى، يتسلل الكاتب المبدع توفيق الحكيم إلى عقلى راكبًا حماره الشهير وعلى رأسه البيريه وفى يده كتابه «عودة الوعي»، مع أنى لا أحب هذا الكتاب ولا أوافق على مجمل أفكاره بالرغم من ولعى بالحكيم وإبداعاته المتنوعة، والكتاب صدر فى عام 1972، فبدا جزءًا من حملة تشهير انفجرت ضد الرئيس جمال عبدالناصر بعد شهور قليلة من رحيله، ووصف الحكيم الشعب المصرى فى هذا الكتاب بأنه عاش عصر عبدالناصر فاقدًا لوعيه، لأنه أحب زعيمًا لاحقته الهزائم وغامر بأموال شعب فقير، وقارن بين مصر ثورة 1919 ومصر ثورة 1952، وانحاز تلقائيًا إلى ثورة 1919، التى أيقظت مصر من سباتها دون اعتماد على حكامها وساستها وأحزابها، وكان الحكيم قد كتب فيها واحدًا من أهم أعماله «عودة الروح»، وهى الرواية التى استلهم منها عبدالناصر فكرة ثورة 1952، وأغفل الحكيم عمدًا أن ثورة 1919 لم تصل بالمصريين إلى تغيير أحوالهم العامة وتحسين مستوى معيشتهم، وظلوا فى قبضة الفقر والجهل والمرض، وهذا لا يعيب تلك الثورة العظيمة ولا ينتقص من قدرها ولا دورها فى بعث روح وطنية وفكرية جديدة فى جسد الأمة، إذ لم تسمح البيئة المحلية والنظام العام والظروف الإقليمية والدولية بأكثر من ذلك، لكنه أغفل أيضًا ما صنعه عبدالناصر من أجل بسطاء المصريين الذين تملكوا أرضًا زراعية لأول مرة فى بلادهم منذ قرون طويلة وألزمهم بتعليم أولادهم!



 

ويبدو أن كتاب الحكيم كان تنفيثا أو رد فعل حادًا على هزيمة 1967، وحالة الإحباط العام التى تفشت بين كثير من كتابها ومثقفيها، قبل أن تسترد مصر نفسها وعافيتها وترد فى أكتوبر 1973.

لكن أكثر عبارات وقفت أمامها مصفقًا فى هذا الكتاب هي: إن بعض الحكام قد يخافون من إيقاظ عقول الجماهير، على أساس أنهم لو أيقظوا هذه العقول فستفكر وتتعبهم، وهذا غير صحيح، فالحاكم الناجح يجب ألا يخشى من إيقاظ عقول الجماهير؛ بل على العكس يسعد بذلك، لأن هذه الجماهير ستؤيد بعقولها المتيقظة، وتأييد العقل أسلم وأبقى وأصح من تأييد الوعى المفقود.

وأتصور أن العبارة الأخيرة هى مفتاح بناء الوعى الذى يسعى إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى، ويطالب به طول الوقت فى معظم خطبه إلى الشعب وتصريحاته إلى الإعلام.

نعم نحن لا نريد وعيا على الطريقة التى وصف بها توفيق الحكيم نفسه قبل أن يكتب كتابه، وأيضًا لا نريد وعيًا محبطًا كالذى عاد إليه بعد وفاة جمال عبدالناصر، وإنما نريد وعيًا يقظًا، قادرًا على التفكير الصحيح، وعلى الفصل بين الغث والسمين، بين الأكاذيب والحقائق، بين التقدم إلى الأمام وعينه على الدرب، وبين التحديق فى الوراء ورقبته ملوية لا ترى المستقبل.

وأتصور أن بناء هذا الوعى يجب أن يكون جزءًا من الحوار الوطنى العام، ليتحول إلى حركة مجتمعية واسعة لها خريطة طريق وأدوات وهيكل يحافظ على نموها واستمرارها، فى مواجهة طوفان المعلومات الهادر من شبكات التواصل الاجتماعى، وأغلبها معلومات مغلوطة أو كاذبة أو انطباعات أو استنتاجات أو لها أغراض محددة فى نفوس لجان إلكترونية ممولة.

وبالطبع بناء الوعى يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببناء عقل الإنسان، بناء يمنحه فرصًا أكبر للتوافق والتطور والتعامل الكفء مع عصره المعقد المتخم بالمعارف والمتغيرات.. وثمة فارق هائل بين أن تكون طرفًا فاعلًا منتجًا فى هذا العصر أو تكون طرفًا مهمشًا مستهلكًا دون أن تدرك ما يحدث فيه وما يضيفه من قيم جديدة.

وبناء عقل جمعى يستند إلى التفكير العلمى المنظم ليس ترفًا ولا اختيارًا، وأتصوره  ضرورة إذا كنا نسعى إلى مصر متقدمة قادرة على تجاوز مشكلاتها وتؤسس لأجيالها القادمة بنايات اقتصادية وسياسية واجتماعية ترتفع بها إلى آفاق أعلى دومًا.

وأظن أن توقف مصر عن نهضتها فى منتصف الطريق دومًا، فلم تصل إلى ما وصلت إليه دول جنوب شرق آسيا وعلى رأسها اليابان راجع فى جانب منها، إلى أزمة عقل جمعى سواء فى تجربة محمد على باشا فى القرن التاسع عشر، أو تجربتها بعد ثورة 1919 أو مع جمال عبدالناصر، صحيح أن مصر لم تفقد امتلاكها لعقول مبدعة عتية فى الأدب والفن والفكر والاقتصاد والسياسية..الخ، لكنها كانت شريحة ضئيلة من المجتمع مقارنةً بعدد السكان، ولم يحدث أن تحولت ثقافة هذه الشريحة أو أنماط تفكيرها إلى «تيار غالب»، سواء ونسبة التعليم أقل من 10 % بين المصريين أو ارتفعت إلى 70 % منهم.

والوعى المطلوب ليس مجرد فهم المخاطر والتحديات التى تحيط بنا فهمًا صحيحًا، لنضع الشائعات والأكاذيب والدعايات المضادة وحملات التشهير فى صناديق القمامة أولًا بأول، أو لتحمينا من السقوط فى فخ جماعات تلبس أقنعة ورع وتديُّن لتخفى شرًا وخطط سيطرة علينا.. نعم هذا جانب فى غاية الأهمية، لكن الأهم منه هو الوعى المتكامل، الوعى الذى يدفعنا إلى سلوكيات وتصرفات عامة، تُسهل علينا حياتنا اليومية، فى الكفاءة التى ننتج بها السلع والخدمات، أو نختار بها ممثلينا فى البرلمان أو المحليات أو الأندية الرياضية أو النقابات المهنية والعمالية، الطريقة النى نعبر بها الشارع على أرجلنا، أو نقود سياراتنا فى الطرقات أو نستمتع فيها بالشواطئ، أو نجلس على المقاهى أو نؤدى عملنا فى دواوين الحكومة لخدمة الناس، أو فى أشغالنا الخاصة، أو نبيع ونشترى بها أشياءنا..الخ، باختصار فى كل شيء نتقاطع فيه مع الآخر.

باختصار نريد عقلًا واعيًا يعيد تشكيل حياتنا، ويتحكم فى تصرفاتنا فرديًا وجماعيًا على نحو يوفر لنا «جودة» فى ممارسة شئون الحياة.

بالطبع لا يوجد مطلق إلا الله سبحانه وتعالى، وكل ماعداه نسبى، والحياة متنوعة بدرجات مذهلة، والإنسان هو أعقد ألغاز الكون وأعجبها، ولن توجد ماكينات نمر خلالها، فنخرج من الناحية الأخرى نماذج متماثلة فى القيم والأخلاق والسلوكيات، إذن المقصود هو صناعة تيار عام، فيه غلبة للتفكير العلمى المنظم، أساس الوعى اليقظ وليس الوعى المفقود أو المغيب أو الساقط فى فخ الغيبيات والشائعات والخزعبلات أو الذى يسهل التأثير عليه.

وبالطبع حياة الناس نفسها، أى مستوى معيشتهم عنصر حاكم فى تكوين عقولهم ووعيهم، وهنا تأتى أهمية التنمية الاقتصادية المستدامة التى تنقل الناس من حال إلى حال، ومعروف كلما ارتاح الناس فى أيامهم، اتسمت سلوكياتهم وتصرفاتهم بقدر من الرفعة والالتزام بالقانون والقيم الاجتماعية التى تحترم حقوق الآخرين.

والتنمية الاقتصادية المستدامة حبالها طويلة، خصوصا فى مجتمع تعداده تجاوز مئة مليون نسمة، ويزداد سكانه بنسبة 2 % سنويًا، أعلى بـ18 % من نسبة الزيادة فى الولايات المتحدة التى مساحتها عشرة أضعاف مساحة مصر، وتقدر أرضها المزروعة بـ400 مليون فدان، أى واحد وأربعين ضعف الأرض الزراعية المصرية، ناهيك عن حجم إنتاجها الصناعى والخدمى والمعرفى، كى ندرك حجم المخاطر الجمة التى تلاحقنا بسبب الإفراط فى المواليد.

وهو إفراط مسئول عنه أفكار دينية وفتاوى رجال دين، كما لو أن الدين يقاس بكثرة التابعين له بغض النظر عن فهمهم له والتزامهم به وأحوالهم اليومية.

والتعليم مثل التنمية المستدامة حباله ممتدة سنوات لكن لا غنى عنه وهو أساس أى تفكير علمى منظم.

وبناء الوعى أو العقل لا يمكن أن ينتظر، وهنا تلعب الثقافة والإعلام والدور الأسرع مع حركة مجتمعية فاعلة فى الشارع يمكن أن تؤديه جمعيات أهلية.

وأدوات الثقافة كثيرة ومؤثرة من سينما ومسرح وموسيقى وغناء وكتاب ومسلسلات وبرامج تليفزيونية، والثقافة تعمل على ترقية العقول والوجدان والذوق العام، وبطبيعتها حائط صد ضد التطرف والتعصب والتشدد والنزوع إلى العنف وفوضى التصرفات.

أما دور الإعلام فهو فى غاية الخطورة، ويمكن أن يلعب دور الوعى المفقود أو دور الوعى اليقظ، حسب تأثير قواعد السوق والاستهلاك والإعلانات وجلب المشاهدة بأى وسيلة، وطبيعى أن يشكل وعيًا مفقودًا إذا غلب عليه مفهوم التجارة والتسلية لا مفهوم الصناعة والثقافة، ولا فرصة للوعى اليقظ أمام برامج التسلية والمصاطب وهزار النجوم والإضحاك بأى طريقة والبرامج الرياضية القائمة على التناحر والثرثرة الشعبية واللعب على أوتار المشجعين المشدودة واستنتاج الأخبار الساخنة، لأنها بيئة مثالية لتغذية العقل الغوغائى، فإذا كانت قزقزة اللب أو أكل الشارع غذاء صحيًا تكون هذه البرامج عملًا مفيدًا، لا مانع منها فى حدود كنوع من النكات البذيئة التى يتبادلها الأصدقاء أحيانًا فى قعدة سمر.

ومن يقول أن الجدية نقيض الجاذبية هو إعلامى فاشل جاهل بمهنته، ومثله مثل من يقول إن إعلام الحشد والتعبئة والهتاف قادر على بناء الوعى اليقظ، ويمكن أن تقدم الفضائيات برامج عن المصريين وسلوكياتهم العامة والقضايا الوطنية بمتعة وجاذبية فائقة، وأن تمنح عقول مصر فى مختلف المجالات فرصة أن تصبح قدوة للناس فى حياتهم وأفكارهم، بالإضافة إلى نشرات أخبار وبرامج إخبارية متحررة من الروتين الحكومى.

باختصار إعلام صادق وشفاف وسريع وغزير المعلومات هو درب سريع إلى بناء وعى يقظ، ليس مفقودًا ولا عائدًا بعد غياب على طريقة توفيق الحكيم.