الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحوار الوطنى أسئلة خارج الصندوق!

الحوار الوطنى أسئلة خارج الصندوق!

قبل أن نجلس على مائدة الحوار الوطنى، ما هو السؤال الأهم الذى يجب أن يشغل بالنا ونقلب كل جوانبه، سؤال يجبرنا جميعًا على السير فى طريق نتجمع فيه مَهما اختلفت أفكارنا، وبالطبع لا أحد يملك وصاية على أحد، فكلنا سواسية فى حب الوطن، أيًا كانت مواقعنا من السُّلطة.. ورأيى مجرد اجتهاد مواطن عاش طول عمره يحلم بمصر دولة متقدمة حديثة، وكان يؤلمه دومًا أن يكون تاريخ أجداده من قدماء المصريين أجدر من حاضره، فمن المؤلم حقًا أن يكون جدّك عظيمًا وأنت لا شىء.



والسؤال: كيف نتصور مصر فى منتصف القرن الحادى والعشرين؟، ومصر ليست حدودًا ولا جغرافيا ولا نيلاً وشمسًا وقمرًا وواديًا وبحارًا ونخيلاً وجبالاً.. مصر قبل كل هؤلاء هى أهل مصر، ناسها الطيبون الساخرون، أولاد البلد، بكل قماشاتهم الإنسانية والحضارية، والمصريون من أصحاب القماشة المتسعة جدًا، بين الصفات الأكثر سموًا والصفات الأدنى، بحُكم تاريخهم الطويل والتقلبات الحادة التى انصهروا فيها.

هذا السؤال ينزع عن أطراف الحوار كل تصورات الأفكار الخاصة عمّا يريدون من الحوار وكيف يحققون وجودًا على مسرح الحياة المصرية على طريقتهم باسم الإصلاح. ويبقى الأهم: ما هو الحال الذى نتمنى أن يكون عليه المصريون بَعد 30 سنة من الآن؛ سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؟

ولتبدأ كل أطراف الحوار فى رسْم هذه الصورة الحلم، وربطها بالواقع الحالى بحقائقه المجردة ومعلوماته التفصيلية، وأهمها «الثقافة العامة والتقاليد الاجتماعية» دون أوهام أو انطباعات أو كلام مرسَل، حتى يمكن تحديد السياسيات والبرامج والأساليب التى تنقل المصريين من الأحوال الحالية إلى الأحوال المرجوة؛ لأن إهمال الأحوال الثقافية والاجتماعية والتخطيط فى المُطلق هو نوع من السباحة على الرمال.

علينا أن نفكر فى أحوال أهلنا فى النجوع والكفور والقرى قبلى وبحرى، معيشتهم، همومهم الأولية، أنماط تفكيرهم، طرُق اختياراتهم فى الحياة، قبل أن نفكر على طريقة «چنرالات الكلام» على مقاهى وسط البلد، وهم يقارنون بين النظام السياسى فى الغرب ونظامنا السياسى، أو التقاليد الديمقراطية هناك والتقاليد عندنا؛ لأن الفارق الثقافى والسياسى فى التطور الحضارى بيننا وبينهم ليس قليلاً.. بمعنى أن ثمّة فارقًا بالإكراه بين «ست أبوهم أو الحاجة تفيدة» فى ريف المنوفية أو الدقهلية أو ريف سوهاج وقنا، وبين إليزبيث أو مارجريتا فى مقاطعة «كوتسوولدز» فى وسط غرب انجلترا، أو فى «شامونى» شرق فرنسا أو فى مقاطعة بانولا بولاية مسيسيبى الأمريكية، الولاية التى عانى فيها الأمريكيون من أصل إفريقى اضطهادًا طويلاً حتى الربع الأخير من القرن العشرين.

وهذا مهم جدًا؛ لأن التغيير الثقافى للمجتمع فى غاية الصعوبة ويلزمه وقتٌ قد يطول أو يقصر حسب البيئة والظروف، فمجتمع المدينة أكثر قابلية للتغيير من مجتمع الريف، ومجتمع الأحياء المتوسطة أكثر مرونة من التجمعات العشوائية.. وهكذا.

وهذا لا يعنى أى تنازلات فى حقوق الإنسان والحريات والعدالة ونحن نرسم خريطة طريق إلى المستقبل الأفضل، ولكن لكى نضع ظروف أهلنا وثقافتهم فى تطور نظامنا السياسى إلى الشكل الذى يصل بنا إلى تداوُل السُّلطة دون انقلابات حادة فى هويتنا، وقد جرّبنا وسقطنا فى الفخ فى زمن الجماعة، حين سَلّمنا السُّلطة إلى الإخوان، فحاول الإخوان دمج الدولة المصرية فى الجماعة وليس دمج الجماعة فى الدولة.. ناهيك عن العوائق التى تحيط بنا من شيوع العقل السلفى بين قطاعات غير قليلة فى المجتمع، والعقل السلفى ليس «السَّيْر على منهج السلف الصالح» كما يتصور الكثيرون؛ وإنما هو منهج تفكير يلوى عنق الحاضر إلى الخلف، فيحكم على الحاضر ويتصرف وفق «منهج تفكير» لا يَمتّ للعصر الذى نعيشه بصِلة، ومنهج التفكير السلفى ليس هو «الدين»، هو طريقة فى التفسير البشرى للدين، وهو المنهج الذى بنى أسوارًا وحجز خلفها أصحاب الدين دون أن يسمح لهم بحرية الحركة خارجه، ودون أن يعفو عنهم بَعد طول حبسهم رهن هذه الحواجز.. والمنهج السلفى لا يقف عند الدين؛ وإنما يمتد إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتقاليد.. إلخ.

أتصور أن هذا هو السؤال الأهم فى الحوار، قبل أن نفرض شروطا أو نسأل مَن هم أطراف الحوار، وزمن الحوار، وأشكاله، والتوصيات الخارجة عنه.. وحتى هذه اللحظة يبدو المجتمع حائرًا فى تفسير دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى للحوار، ويتساءلون: لماذا الدعوة الآن؟

وقد تبرع معارضون على اختلاف مشاربهم بإجابات سهلة مريحة لهم، ودون تفاصيل الإجابات التى تحاول أن تفتش فى الضمائر قبل الواقع، يمكن القول أن الدول تتقدم على مراحل، وقد تجاوزت مصر مرحلة الخطر المباشر، الذى كان يهددها بالتفتت والتشرذم والحرب الأهلية بعد ثورة 25 يناير، ربما طالت مدة هذه المرحلة إلى تسع سنوات؛ لكن كان من المستحيل أن نصل إلى «فكرة» الحوار الوطنى، قبل أن نحافظ على الدولة، من تهديد أمنى داخلى يتمثل فى عنف شرس داخلى فى الوادى والأطراف سالت فيه دماء كثيرة ودُمّرت خلاله عشرات المبانى الحكومية والشرطية وخسائره بالمليارات، ومخاطر خارجية تمول العنف وتتربص وتشهر بالسُّلطة الجديدة، وقد حلم البعض بدولة ديمقراطية على الطراز الغربى بمجرد أن نجحت ثورة 30 يونيو فى التخلص من جماعة الإخوان، وكان حلمًا مستحيلاً بل أقرب إلى الخرافة، على رأى المَثل من يده فى الماء غير الذى يده فى النار، أى كانت الأولوية للحفاظ المباشر على الدولة من السقوط، ثم لملمة الأجزاء المبعثرة من مؤسّسات أساسية جرى ضربها بشراسة عمدًا، ثم شد أعمدتها لتقف على أقدامها من جديد.

نعم الأولوية كانت للأمن، ولا بديل عنه وقتها، وإجرءات الأمن- فى أوقات المخاطر عبر تاريخ الإنسان والدول والنظم- دواء شديد المرارة له آثار جانبية وأثمان ثقيلة، ولا أريد أن أروى وقائع من التاريخ الأمريكى أو الإنجليزى أو الفرنسى فى العصر الحديث؛ بل فى السنوات العشرين الأخيرة تثبت أن إجراءات الأمن دومًا تصاحبها مُبالغات فى التصرفات، وهنا لا أبرّر ولا أعطى شريعة لتصرفات مسيئة كالحبس الاحتياطى الطويل؛ وإنما لكى نفهم ما حدث حتى وصلنا إلى الحوار الوطنى، وهو حوار نريده أن ينجح وليس مجرد مصطبة كلام أو دخان فى الهواء، وأكرّر أن فهم الواقع ضرورة للتحرُّك إلى الأمام، وفهم الواقع لا يعنى قبول أو رفض تفاصيله أو حقائقه.. ولا يحرم المواطن من إعلان رأيه.

وأتصوّر أن استقرار الأحوال، رُغْمَ صعوبات معيشية محيطة بنا؛ كان محرضًا بالدرجة الأولى على فكرة الحوار؛ خصوصًا أن الرئيس رفع شعارًا ملفتًا وهو «الجمهورية الجديدة»، والجمهوريات الجديدة لا تبنى على الأمن أو الرؤية الأحادية التى يتطلبها الحفاظ على الدول فى مرحلة الخطر المباشر، إذن نحن ننتقل إلى مرحلة إصلاح أوسع سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، تحتاج حتمًا إلى رؤى متعددة تستنير بها مراكز صناعة القرار فى رسم السياسات والخطط وأن يكون أصحابها جزءًا من هذه المراكز؛ خصوصًا أن التحديات التى تحيط بمصر لا تزال كبيرة، وخطر الجماعة وإن تقلص إلى أقل حد له فى الخمسين سنة الأخيرة، لكنه لا يزال موجودًا تحت رعاية دولية، ولا يزال يحاول أن ينشب أظافره فى رقبة الدولة بأى طريقة.

 وهنا نأتى إلى ما طرحه البعض ضمنًا بحُسن نية أو بخبث دفين بأن دعوة الحوار يجب ألّا تقصى أحدًا، وفى الحقيقة أن المقصود بـ«أحد» هو جماعة الإخوان، ولا أعرف كيف لا نقصى تنظيمًا دينيًا عاش حياته كلها فى السّر منذ تأسيسه 1928، أعضاؤه، تمويله، نشاطه، ومارس عنفًا واغتيالات فى الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وظل جناحه العسكرى مخفيًا عن الأنظار حتى عاد للظهور مجددًا بعد 2011.. ما هى النظم الديمقراطية فى أى بقعة فى العالم التى تسمح بجماعة لها تنظيم دولى وجناح عسكرى خفى أن يكون عضوًا فاعلا فى نظامه العام؟

إذا أرادت الجماعة أن تعود إلى رشدها؛ عليها أن تقدم السبت والأحد والاثنين قبل أن تلتقى معنا يوم الثلاثاء، وأن تعلن للدولة كل تفاصيلها، العضوية العلنية والسّرّيّة والتمويل وحساباتها والعلاقات الخارجية، لكن لن نقبل شبحًا مسلحًا لا يظهر منه إلا القناع المسالم فقط.. فهذه جريمة فى حق مصر طالت تسعين سنة.

نعم لا يجوز أن نقصى أحدًا، من كل الذين يعملون فى النور داخل حدود الوطن أو خارجه مَهما كانت آراؤهم ومواقفهم، ولم يحملوا يومًا سلاحًا فى وجه الوطن أو وجه مواطن وليس لهم ارتباطات خارجية.

نعم نريد إصلاحًا سياسيًا، نريد حرية صحافة وتعبير ورأى، نريد حرية تبادُل معلومات؛ لأن المعلومات الصحيحة هى التى يستند إليها الوعى العام، نريد أحزابًا حقيقية وقوية وليس مجرد لافتات ومقرات وصراعات داخلية.. والسؤال هنا: كيف نقوّى الحياة الحزبية فى مصر؟، وعلى فكرة الحياة الحزبية فى مصر طول عمرها مأزومة، ونسبة المشاركة فى الانتخابات العامّة هشة وليست وليدة ثورة يوليو.. فإذا كان الرئيس يدعو إلى الحوار؛ فالأحزاب مدعوة إلى سؤال نفسها: لماذا لم نفلح فى صناعة كيانات شعبية مؤثرة منذ أول حزب عرفته مصر؟، لا ننكر أن النظام العام عنصر مؤثر، لكنه ليس العنصر الوحيد، فأزمة الأحزاب الأصلية فى بنيتها حتى فى الفترة شبه الليبرالية، باستثناء حزب الوفد وهو لم يؤسَّس كحزب؛ وإنما حركة وطنية شعبية من أجل استقلال مصر وخروج الإنجليز منها، ولهذا أصابه الضعف تدريجيًا رُغْمَ تأييد الشعب له.

قطعًا أمامنا فرصة للقفز إلى الأمام، فالعالم كله فى أزمة، ونحن أيضًا، واختياراتنا وإصلاح أحوالنا واختلاف أفكارنا هى خطوة مهمة لكسر سلاسل هذه الازمة.