الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الله يحب أوروبا

الله يحب أوروبا

العنوان أعلاه هو أحد فصول كتاب «كل المدن أحلام» للشاعر المبدع والصحفى المتميز جرجس شكرى، ويحكى فيه عن تجربة سفره إلى عدد من الدول الأوروبية، العنوان يبدو صادمًا للبعض، ولكنه يعبر عن حقيقة مهما حاول البعض أن ينكرها أو يغمض عينيه عنها، ولكن لماذا يحب الله أوروبا؟ يقول «جرجس» فى هذه القارة العلمانية رأيت الله فى كل شىء، فى الطبيعة الساحرة، فى مجانين الحارات حين يرقصون طربًا آخر الليل، ويركلون العالم بأقدامهم، فى البشر الذين يقدسون أعمالهم كصلاة يومية، ويحبون الحياة، فى الطعام والملابس، فى السعادة والطمأنينة، فى التسامح وقبول الآخر، فى العمارة الساحرة، فى الكاتدرائيات التى تتحدى الزمن، فى الفلاسفة الذين أشبعوا السماء أسئلة حول الوجود والعدم، فى المفكرين والعلماء الذين وقفوا حجر عثرة فى طريق الجهل حتى لا تتحول الدنيا إلى حديقة حيوان كبيرة يرعى فيها البشر يأكلون ويشربون وينجبون الأطفال ويموتون.



يضيف «جرجس» شارحًا ما يدهش زائرًا مثلى فى أوروبا، سيادة العلم وسلطة القانون، ومظلة العدالة التى يشعر الجميع تحتها بالأمان.. رؤية الشاعر فى هذا الأمر واضحة فقد نزلت الرسالات السماوية فى الشرق ولكن أهله لم يتعلموا منها ولم يفهموا تعاليمها ولا روحها وقيمها السامية مثلما فعلت أوروبا، ولكن هل معنى الكلام السابق انبهار جرجس بأوروبا الى الدرجة التى ينسى معه بلده؟ الاجابة لا، فقد حمل الوطن معه فى كل رحلاته، يقول: «حين أغادر كنت أرى مصر وأحن إليها بعد ساعات وأرغب فى العودة فى اليوم التالى إلى الشارع والبيت والمقهى، نعم أستمتع وأقضى أوقاتًا مثيرة وثرية ولكن روحى فى مصر»، ويضيف: «كنت أسير فى شوارع زيورخ وبيرن وبازل وباريس وبرلين ولوزان وجنيف وسان جالن ومالمو وفرانكفورت وشتوتجارت وليون وغيرها من المدن فأرى شوارع القاهرة وكل المدن المصرية التى عشت فيها، وكأنى أحمل القاهرة بالشوارع والبيوت والبشر أينما ذهبت».

 فى كل مدينة سافر إليها «جرجس» وجد ما يذكره بمصر وناسها  سواء كان ذلك حقًا أو خيال شاعر جاشت عواطفه بالحنين إلى بلده، المؤلف فى كتابه الصادر عن دار آفاق منذ شهور قليلة رأى المدن التى زارها بعين الشاعر، وهو هنا يسير على درب من سبقوه إلى أوروبا والكتابة عنها فقد كان كل واحد منهم يكتب من منظور اختصاصه، فالفيلسوف يبحث عن الفلاسفة، ومن له اهتمام بالتعليم يكتب عن الجامعات، والفنانون يتحدثون عن الفنون المختلفة، وعلماء الاجتماع همهم دراسة المجتمعات، والمعماريون تجذبهم العمارة.. جرجس فتش بحكم اهتمامه عن الشعراء خاصة أن كثيرًا من زياراته لهذه الدول كانت فى مؤتمرات شعرية أو فى لقاءات لإلقاء قصائد له فى محافل تضم شعراء من دول مختلفة، يقول: «حين أسافر أبحث عن الذين شيدوا عمارتها الروحية وأتخيل أننى سألتقى بهم فى الشوارع والمقاهى رغم رحيلهم منذ قرون أقتفى أثرهم، أمر أمام بيوتهم إن لم أستطع زيارتها»، على سبيل المثال فى سويسرا فتش عن دورينمات، وكلما مر بقرية وفى الغابات والمزارع بحث عن جان جاك روسو هائمًا على وجهه يطلب طعامًا من الفلاحين ومنقبًا عن الإنسان الخير بفطرته، يذهب إلى مقهى الأوديون الذى كان يرتاده ماكس فريش، وفى هولندا يسير فى الشوارع التى تشرد فيها باروخ سبينوزا بعد اتهامه بالهرطقة، وفى برلين عاش يومًا كاملًا فى بيت ومقبرة بريشت، ولم يترك فايمر إلا بعد أن تجول فى بيت جوته، وهكذا فى كل مدينة كان يقتفى أثر شعرائها وفنانيها، ولكن جرجس لم يهمل البشر فى هذه البلاد وظل يتساءل هل تشبه المدن أصحابها أم أن الناس يشبهون المدن؟ فهناك علاقة تصل إلى حد التطابق بين العمارة والبشر، وبين الشوارع والسلوك الإنسانى، ولذلك كان للعمارة نصيب كبير فى مشاهداته، أدهشه الاحتفاء بالبيوت القديمة حتى أنه فى سلوفينيا قرأ شعره فى أقدم بيت فى إحدى القرى هناك حيث تحول المنزل إلى متحف ومركز ثقافى، وهو دائمًا ما يقارن بين ما رآه فى هذه الدول وبين ما حدث لمصر سواء ما أصاب القاهرة وعمارتها أو ما جرى فى الريف، والمقارنة بالطبع ضدنا، فقد ريفنا المدن وتمدين الريف فتشوها الاثنان.. ويتحسر جرجس قائلًا: «أدهشتنى أشياء عديدة فى أوروبا وكنا نمتلك مثلها، الشوارع النظيفة والعمارة الجميلة التى تشى بالتسامح وقبول الآخر فى طرازها، حيث الشرفات والنوافذ المفتوحة، ومراعاة جمال العمارة حتى فى البيوت الصغيرة والفقيرة، لقد احتفظوا هناك بعمارتهم وكأنها متحف يعرض أبواب الزمن، أما نحن فقد تخلصنا من تاريخنا كما يتخلص شخص من ملابسه البالية، هدمنا كل ما له علاقة بهويتنا واستوردنا بيوتًا لا نعرفها وهى أيضًا لا تعرفنا، فصرنا غرباء نحن وبيوتنا فى المدينة التى نعيش فيها».

الكتاب ممتع ومن الصعب تلخيصه فى المساحة المتاحة، للكتابة فهو يطوف بك فى رحلة إلى مدن ثمانى دول، تتعرف فيها على شعرائها وفنانيها وعمارتها وشوارعها ومقاهيها وحاناتها وريفها  وناسها، وبعدها ستدرك أن كل المدن أحلام، وتعرف لماذا أحب الله أوروبا؟