
هناء فتحى
عكس الاتجاه ..عن البلاد التى احتلّت شعبَها
لم يحدث أن رَجّ وزلزل شخص ميت عرش إمبراطورية عظمَى راسخة عُنصرية دموية متوحشة حتى إزاء شعبها كما هو حالها تجاه شعوب بلاد الكون أجمع، كما فعلت روح «چورچ فلويد» فى أمريكا منذ عام وحتى الآن.
(ممات) المواطن الأسود چورچ فلويد فى 25 مايو 2020 مخنوقًا على يد شرطى أبيض صارت (حياةً) لشعب بأكمله؛ بل أكبر أثرًا حتى مما فعلته (حياة) أيقونتَىْ النضال والكفاح «مارتن لوثر كينج» و«مالكولم إكس» معًا، وتستطيع الجَزم بأن موت «فلويد» قد أقام قيامة رُفات إمبراطورية كانت لا تدرى بأن السُّوسَ ينخر عظامَها ويأكل الدودُ بدنَها وسُمعتَها، فكان أن أفاقت فى قبرها وراحت لتحاسب نفسَها الآن.
فالبلاد التى كانت قد محت وأنكرت مائة عام من تاريخ مذابحها المروعة ضدّ مواطنيها السود- ناهيك عمّا فعلوه من إبادة للهنود الحُمر السُّكان الأصليين- ها هى الآن تعيد تدوين وتصحيح التاريخ وتخرج للعلن أوراقه المخفية والمُمَزّقة وتعترف وتقر بأنها مُذنبة وأنها مارست ضد جماعة أصيلة من شعبها مجازر يُندى لها الجَبين.
وكان لوقع الذكرى السنوية المائة لمذبحة تولسا الشهيرة فى 31 مايو 1921، والتى احتفى واحتفلت بها أمريكا إدارةً وشعبًا، وهى ما عُرِفت أيضًا بمذبحة بلاك وول ستريت والتى راح ضحيتها المئات من مواطنى ولاية أوكلاهوما السُّود تعذيبًا وتقتيلًا على يد مواطنيها البيض، بالإضافة إلى إحراق بيوتهم وممتلكاتهم، أفنوهم و(شالوهم من على وِش الأرض)، كان لوقع الذكرى ما يشبه التطهير- أو تخليص الضمير من عذاباته- وهو الشعور والسلوك الذى لم تشهده أىُّ ذكرى من السنوات الـ99 السابقات حتى إن «بايدن» رسميّا وأمامَ شعبه قد اعترف بالمذبحة- بالطبع لأن الظروف داخل الداخل الأمريكى قد تغيّرت، وفعلها يقينًا تحت ضغط أسباب عدة- وهو الذى لم يستطع رئيسٌ قبله أن يعترف بها علانيةً أبدًا ولا حتى أوباما المنتمى لعِرق المقتولين.
والأسباب العدّة يبدأ أولها بالثورة العارمة الناتجة عن مقتل مُشعِلِها «چورچ فلويد»، وثمة أسباب تتعلق بوعد بايدن الانتخابى بعودة حقوق السُّود وبتأثير نائبته كمالا هاريس نصف الهندية ونصف اللاتينية فى قراراته ولاختياره أكبر عدد من السُّود فى إدارته ولمخالفته قاصدًا لكل ما مثله وجاء به سابقه الرئيس «الكاوبوى» الأبيض «دونالد ترامب»، ثم للمظاهرات العارمة المنفلتة فى كامل الولايات الخمسين وللدعوات المتزايدة والمطالِبة والصادرة من المواطنين البيض بالعدالة للمواطنين السُّود، ثم تلك الفضائح والهزات والشروخ التى خلفها «كوفيد 19» فى أساس أعمدة البلد سياسيّا واقتصاديّا، وحتى اجتماعيّا: فالوباء كشف الفروق الواضحة فى تدنى الخدمة الصحية للسُّود مقارنة بالبيض ثم نسبة المصابين والوفيات التى تعاظم عددُها عند الأمريكان السُّود- حتى إن أنتونى فاوتسى مدير المعهد الوطنى الأمريكى للحساسية والأمراض المُعدية قد أعلن يوم 16 مايو أن عدم المساواة فى الصحة بين المجموعات العرقية المختلفة يسلط الضوء على فشل المجتمع الأمريكى- بالإضافة الى تراكم النضال واستمرار الاحتجاجات وتراكم برك الدماء وسُمعة جهاز الشرطة السيئة وممارساته السيئة تجاه السُّود وشيخوخة الإمبراطورية وانكماشها خارجيّا ونمو إمبراطوريات أخرى فتيّة وعفيّة، كل تلك الأسباب أخضعت أمريكا لشعبها وأذلت أنفَها.
للفنانين الأمريكان دائمًا مواقف عظيمة تجاه شعوب الكون وشعوبهم، لكن مطالبة «توم هانكس» فى الذكرى المائة بتدريس تاريخ مذبحة (Tulsa) لطلاب المدارس قد أشعل نداءات كثيرة من الفنانين والحقوقيين بضرورة فرض كتابة وقائع حقيقية لتاريخ الأمريكان السُّود داخل المنهج الدراسى.
فالحكاية التى وقعت أحداثها قبل 100 عام من نهاية شهر مايو الماضى، حين اقتحمت عصابة بيضاء منطقة غرينوود فى تولسا- شارع بلاك وول ستريت- ودمرت وأحرقت ما بها من المتاجر المزدهرة والفنادق والمسارح وغيرها، كلها مملوكة للسُّود. وبعد 12 ساعة تم تدمير آلاف الهياكل على الأرض وقتل المئات من السُّود فيما يعرف بمذبحة سباق تولسا والتى كانت إبادة جماعية. الحكاية التى كانوا ينكرونها جهرًا ويعترفون بها سرّا قد صارت فضيحة بجلاجل ويدوى صدى صوتها العالى علنًا وجهرًا فى كل وسائل إعلامهم، حكاية تشرح كيف صاروا يحتفلون بالأسَى وبجَلد الذات داخل مناطق مقابرهم الجماعية القديمة والجديدة.
هل تظن أن جائحة اعتراف القتلة البيض بجرائمهم ضد مواطنى شعبهم من السُّود قد اقتصرت على إمبراطورية عجوز مريضة كأمريكا وحدها؟ لا، فلتتبع خُطى هولندا التى باتت- تزامنًا مع أمريكا- تنادى بمحاسبة ما اقترفته أيادى عناصرها البيض ضد السود من عنصرية. ووحشية داخل البلد وفى المستعمرات الإفريقية خارجها.