الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حديث خاص  مع الرسول وقفات معاصرة مع صاحب المقام المحمود بيان نبوى ضد سماسرة الأديان "الحلقة الثالثة"

حديث خاص مع الرسول وقفات معاصرة مع صاحب المقام المحمود بيان نبوى ضد سماسرة الأديان "الحلقة الثالثة"

السؤال قد يكون سهلاً للدرجة التى تجعلك تستخف بمنْ يطرحه عليك.. لا أستبعد بالطبع أن تصفه بالجنون وتعرض عنه.



لكن الإجابة ليست بالسهولة التى تجعلك تقف لتتأمل ولو قليلاً وجاهة السؤال وأحقية – وربما حيرة - من يسأل فى طرحه.

أما السؤال فهو: أين الله؟ 

مؤكد أنك الآن ستلتفت حولك، ويمكن أن تنظر باستنكار لمن يطرح السؤال بهذه السهولة، وستعتقد أن الإجابة سهلة، ولا تحتاج إلى أى تفكير، فالله هناك يستوى على عرشه لا يغادره أبدًا. 

فى سورة هود يمكننا أن نعرف أين كان عرش الله فى البداية.

اسمع إلى هذه الآية التى تقول: «وهو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً». 

وقبل أن تسأل: وأين عرش الله الآن بعد أن خلق السموات والأرض؟

سآخذك إلى الرسول «صلى الله عليه وسلم» وهو ينصح العباد بقوله: إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة.

يمكن أن نريح أنفسنا ولا نتحمل عناء البحث، فها هو النبى «صلى الله عليه وسلم» يحسم الأمر بكلماته الموجزة، يقول لنا إن مكان العرش الذى يستوى عليه الله جل جلاله فى أعلى الجنة.

لكننا فى الغالب لا نطلق لخيالنا العنان ليقف عند المكان، فنحن نسأل عن المكانة. 

عن هذا الوجود الذى يجتاحنا ويُشكِّل حياتنا ويمكننا من أن نستمر فى حياتنا ونحن على ثقة أن الله معنا وبيننا وحولنا.

عن هذه الحالة من الاطمئنان التى لا نعرف لها سببًا ولا مبررًا، ونحن نعرف أن الله لا يمكن أن يدعنا فى دروب الحياة نتخبط بلا دليل.

عن راحة البال المطلقة التى تسيطر علينا بمجرد أن نسمع أحدهم يقول لنا: «ارمى همومك على اللى خلقك»، لأنه ما دام خلقنا فلا بُد أن يرعانا ويراعينا.

عن الثقة التى نتحرك بها حتى ونحن نتجاوز فى حقه، ونخطئ بلا حساب، لأننا نعرف فى النهاية أنه غفور ورحيم.

عن التسليم الذى نبديه عندما تضيق بنا وعلينا الحياة، لأننا نعرف أنه هو رازقنا، ولا يمكن أن يتخلى عنا من تعهد برزقنا، حتى لو أحاطت بنا الأزمات من كل جانب.. فحتى الأزمات فى قلبها بعض من الرزق، فـلله حكمة مخفيّة لا يدركها من عباده أحد.

لا يتركنا النبى نخوض تجارب الحياة وحدنا بحثًا عن الله.

انظروا إليه وهو يجلس «صلى الله عليه وسلم» بين أصحابه، يدخل عليه أحدهم وفى يده جاريته التى يفكر فى عتقها والتقرُّب بذلك إلى الله، وقد رغب فى أن يشهد النبى على الخير الذى جاء ليقدمه بين يديه.

استوقف النبى الجارية وبدأ فى سؤالها.

قال لها: أين الله؟

فردت دون أن تفكر: فى السماء.

فسألها النبى: ومن أنا؟

قالت: أنت رسول الله؟

فنظر النبى «صلى الله عليه وسلم» إلى أصحابه، ثم توجّه إلى صاحب الجارية، وقال له: أعتقها فإنها مؤمنة.

هكذا.. فالأمر سهل جدًا، إجابة الجارية كانت صحيحة، فالله بالنسبة لها فى السماء، فالسماء هى المكان الذى يليق وحده بأن يعى ويستوعب الله، الذى يطّلع على عباده جميعًا من سمائه، يراقبهم وينظم لهم حياتهم، وقول النبى عن الجارية أنها مؤمنة، تعنى أن الإجابة على هذا السؤال بهذه الإجابة نموذجية تمامًا.

لكن ليست هذه هى الإجابة الوحيدة التى يقدمها لنا النبى «صلى الله عليه وسلم» لمن يسألون: أين الله؟

يقابلنا هنا عبدالله بن عمر الذى يخبرنا بأن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» رأى بصاقًا فى جدار القبلة بمسجده، فحكه ثم أقبل على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلى فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى.

الله ليس فى السماء إذن فقط، والذى يتحدث عن ذلك هو الرسول، فها هو فى قبلة مسجده، ولذلك ينصح أصحابه ألا يبصقوا تجاه القبلة لأن الله يكون فى انتظارهم هناك.

يمنحنا النبى «صلى الله عليه وسلم» رحابة لا نتخيلها، عندما يقول لنا: لو ألقى أحدكم دلوه فى بئر لوقع على الله.

الأمر ليس أمر البئر فقط، اسمعه «صلى الله عليه وسلم» وهو يقول مرة أخرى: لو دليتم بحبل إلى الأرض السابعة لوقع على الله. لا معنى لما حرص الرسول «صلى الله عليه وسلم» على أن يقوله لنا، إلا أن الله فى كل مكان، لا يغادرنا ولا يفارقنا أبدًا، حتى لو فارقناه، ولا يقصد النبى أن صفات الله هى التى تحيط بنا من كل مكان، فرحمته تظللنا، ومغفرته تشملنا، ورأفته تحمينا، وعطاؤه يغمرنا، وبركته تعيننا على مغالبة الحياة، ولكن الله بذاته يكون معنا. 

يفعل الله ذلك لأنه من خلقنا، ولأنه كذلك فهو يعرفنا جيدًا.

يعرف ضعفنا قبل قوتنا.

ويعرف قلة حيلتنا قبل غرورنا وكبريائنا وتجبُّرنا وتطاولنا.

يعرف جهلنا قبل علمنا.

ويعرف حماقتنا قبل حكمتنا.

يعرف فقرنا قبل غنانا.

ويعرف عجزنا قبل قدرتنا.

من بين الأحاديث القدسية المنسوبة إلى الله عز وجل على لسان النبى «صلى الله عليه وسلم»، حديث أحتفظ به فى ذاكرتى منذ طفولتى.

لم أفتح الكتب لآتيكم بنصه، سأقوله لكم كما استقر فى وجدانى.

اجتمعت مخلوقات الله أمام عرشه، بعد أن قررت أن تتحدث معه غاضبة بعد أن عاث ابن آدم فى الأرض فسادًا وتخريبًا.

قالت الجبال: يارب دعنى أطبق على ابن آدم، فقد أكل خيرك ومنع شكرك.

وقالت السماء: يارب دعنى أسقط على ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.

وقالت الأرض: يا رب دعنى أنشق فأبتلع ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.

وقالت البحار: يارب دعنى أغرق ابن آدم فقد أكل خيرك ومنع شكرك.

أوقف الله كل مخلوقاته بإشارة منه، مؤكدًا لهم جميعًا أنه قدر ما يقولونه، فقد فزعت هذه المخلوقات مما أحدثه ابن آدم، لكن ولأن الله يعرف ما لا يعرفون فقد قال لهم: «دعوهم.. دعوهم.. لو خلقتموهم لرحمتموهم.. إن تابوا إلىّ فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم».

تخيلوا أننى وجدت من يشكك فى هذا الحديث، ينفيه تمامًا عن الله، ويبتعد به عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد تعتقد أن من فعلوا ذلك على حق، فهم اتبعوا قواعد البحث والتدقيق والتمحيص قبل أن يقولوا ما قالوه، ولذلك فليس عليهم حرج. لا يمكننى أن أركن إلى هؤلاء بالطبع، ولو كان هذا الحديث ضعيفًا بالفعل لما أجرمنا لو أخذنا به، فهو يقربنا إلى الله أكثر مما يردده دعاة العذاب والترهيب والتخويف بجهنم وبئس المصير. 

تخيل أنت أن هذا هو إلهك الذى يتحدث بكل هذه الرحمة، ففى الوقت الذى تعلن المخلوقات جميعها أنها على استعداد لأن تهلكك، فإذا به يقف بينك وبينها، يعلمها ويعلمك درسًا علينا جميعًا أن نستوعبه، فلو تبنا إلى الله فحتمًا سيقبلنا لأنه حبيبنا، وإن لم نتب وواصلنا سيرنا فى طريق الضلال، فهو القادر على أن ينقذنا مما تركنا أنفسنا فيه، لأنه هو الطبيب الذى يعرف أين يكمن الداء، ويعرف من أين يأتى الدواء.

ما رأيكم فى زيارة سريعة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم.

إنه هناك أراه عائدًا من أحد أيامه المجيدة التى خرج فيها ليعلى كلمة الله على خصومه، يسوق أمامه سبيًا، وبينما هو يسير إذا بامرأة من السبى تسعى، وجدت صبيًا فأخذته وضمته إلى بطنها وأرضعته.

نظر النبى «صلى الله عليه وسلم» إلى أصحابه، وقال لهم وهو ينقل نظراته بينهم وبين المرأة: أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار؟ 

قالوا: لا والله؟

فرد عليهم النبى بما يمكننا أن نتعامل معه على أنه قاعدة حياتنا الكبرى: الله أرحم بعباده من هذه بولدها

لماذا أقول أن هذه هى قاعدة حياتنا الكبرى؟

أقول ذلك لأننا نعيش بظلها وفى ظلالها حتى لو لم نعترف بذلك، فلولا رحمة الله التى نعرف أنها معلقة هناك على جدار عرشه، ما استطعنا أن نعيش يومًا من حياتنا، لولا رحمة الله لمكثنا فى خوف مقيم لا يفارقنا أبدًا.

هل أقول إن رحمة الله هى التى تطمعنا فيه؟

أعتقد أن هذه القاعدة – إذا تعاملنا معها على أنها كذلك – صحيحة، ولا يمكن أن يصادرها منا أحد، فنحن نطمع فى الله بلا حدود، نفعل ذلك لأننا نعرف أنه لن يصدنا أبدًا.

يعتقد البعض أن الأتقياء فقط هم من يطمعون فى الله، وهى فكرة ليست دقيقة ولا واقعية، فحتى المذنبون يطمعون فى رحمة الله ورضاه.

إننا نقف الآن مع واحد من المشهود لهم بالتقوى والورع.

اسمه سهيل بن عمرو، كان فى طريق سفر هو وزوجته وأولاده، وفجأة اعترضهم قطّاع طريق، وأخذوا كل ما كان معهم من مال وطعام، وعلى مقربة من سهيل جلس اللصوص يأكلون، لكنه وجد أن قائدهم لا يأكل، فاقترب ودار بينهما هذا الحوار: سهيل: لماذا لا تأكل معهم؟

قائد اللصوص: أنا صائم.

سهيل: تسرق... وتصوم؟

قائد اللصوص: إنى أترك بابًا بينى وبين الله... لعلى أدخل منه يومًا ما.

كان يمكن لهذه الحكاية أن تقف بنا عند هذا الحد، لكن من نقلوا لنا الحكاية يقولون: بعد عامين رأى سهيل قائد اللصوص فى الحج، وقد تعلق بأستار الكعبة يبكى، فنظر إليه اللص وعرفه، قال له: أو علمت.. من ترك بينه وبين الله بابًا دخل منه يومًا ما.

يمكنك أن تصدق هذه الحكاية، ومن حقك أن ترفضها تمامًا، لن أناقشك فى منطقيتها، لكننى آخذ منها حكمتها، وليست الحكمة التى ساقها لنا قائد اللصوص، وهى أنه ترك بينه وبين الله بابا يمكنه أن يدخل إليه منه إذا قرر أن يعود، ولكنها الحكمة الأكبر وهى أنه إذا كان العبد يترك بينه وبين الله بابًا واحدًا ليعود إليه منه، فإن الله يترك كل أبوابه مفتوحة لا يغلقها أبدًا فى وجه من يقصده، فإذا ضاقت بك الدنيا فتأكد أن هناك بدل الباب عند الله ألف باب.. وليس عليك إلا أن تعود.. وتأكد أنك ستكون مقبولاً ومجبورًا.

هل أخبركم بما هو أكثر من ذلك.

تعرفون الآية الكريمة «نبئ عبادى أنى أنا الغفور الرحيم، وأن عذابى هو العذاب الأليم».

مؤكد أنكم تعرفونها، فجميعنا يتعلق بأستار آيات الرحمة فى القرآن الكريم طمعًا فى أن نحظى بفضلها وبركتها.

ومؤكد أنكم تعرفون المعنى من ورائها، فالله سبحانه وتعالى يقول لنبيه أن يخبر العباد جميعًا - لم يقصر الحديث هنا عن المسلمين – أن الله ذو رحمة وذو عقاب أليم.

لكن ما رأيكم أن نقترب من سبب نزول هذه الآية قليلاً؟

عندما نقترب تأكدوا أننا سنجد ما لا نتخيله، وهو الحال عندما يسعى المسلمون ليعرفوا أسباب ومناسبات نزول آيات القرآن، وهى الأسباب التى تضع القرآن فى سياقه، وتخبرنا بالظروف التى تمت صياغته فيها، ثم إن السبب يضع أيدينا على معانٍ ربما لا تشى بها الألفاظ الظاهرة.

من بين الروايات التى تخبرنا بسبب نزول هذه الآية، أن الرسول «صلى الله عليه وسلم» كان يمر على بعض من أصحابه، فوجدهم يضحكون فقال لهم: «اذكروا الجنة واذكروا النار»، فنزلت الآية التى يمكننا اعتبارها على هامش هذه الرواية ترجمة لما جرى بين النبى وأصحابه.

لكن هناك رواية أعتقد أنها الأقرب إلى الدقة، كما أنها الأقرب إلى ما نريد أن نقوله هنا.

الصحابى الذى كان شاهدًا على ما جرى، لم يذكر لنا أحد اسمه، لكنه يقول: طلع علينا رسول الله صلى الله علينا وسلم، فقال: ألا أراكم تضحكون؟ ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا، فقال: إنى لما خرجت جاء جبريل فقال: يا محمد.. إن الله يقول لك: لم تقنط عبادى؟ ، ثم تلى «نبئ عبادى أنىأنا الغفور الرحيم وأن عذابى هو العذاب الأليم».

أعرف أنكم كنت ترسمون صورة كاملة لما حدث.. وأعرف أن الصورة التى رسمتموها مبهرة، فالرسول وكأنه استنكر على أصحابه أن يضحكوا، لكن الله أراد أن يمنحنا من خلال نبيه تأكيدًا على رحمته ورحابته.

هل تتصورون مدى عظمة الحكمة التى حملها سؤال جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم؟

 قال له: الله يقول لك لم تقنط عبادى؟

وكأنه يقول له: لماذا لا تتركهم يضحكون؟ اتركهم يا محمد وضحكهم، ونبئهم أن ربهم غفور ورحيم، ولأن القرآن يقوم على حماية النظام الإنسانى كله، فهو يعقّب بأن يخبرنا النبى أيضا بأن عذابه هو العذاب الأليم، وذلك حتى لا تأخذنا الدنيا فى طريقها فنضل وتزل أقدامنا.

هناك حقيقة أخرى يقودنا إليها القرآن الكريم.

تعرفون بالطبع الآيات الكثيرة التى سجلت أسئلة الصحابة إلى النبى -صلى الله عليه وسلم.

« ويسألونك ماذا ينفقون.. قل العفو».

«ويسألونك عن اليتامى.. قل إصلاح لهم خير».

«ويسألونك عن المحيض.. قل هو أذى». 

«ويسألونك عن الروح.. قل الروح من أمر ربى».

«ويسألونك عن ذى القرنين.. قل سأتلو عليكم منه ذكرًا».

« ويسألونك عن الأهلة.. قل هى مواقيت للناس والحج».

«يسألونك ماذا ينفقون.. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين». 

«يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.. قل قتال فيه كبير».

«يسألونك عن الخمر والميسر.. قل فيهما إثم كبير».

«يسألونك ماذا أحل لهم.. قل أحل لكم الطيبات».

«ويسألونك عن الجبال.. فقل ينسفها ربى نسفا».

ما أقصده واضح بالتأكيد، فالنبى «صلى الله عليه وسلم» حامل الرسالة الكبرى كان هو أيضًا حامل الأسئلة ممن جاءهم إلى من أرسله.

فى كل مرة كان السؤال يصل إلى الله، يرسل جبريل عليه السلام بالإجابة، وهى الإجابة المشفوعة بكلمة « قل».. فالنبى هنا بين الناس وبين ربهم.

مرة واحدة عندما سأل الصحابة، طلب الله من النبى أن يخرج من المسافة التى تصل بينه وبين عباده.

«وإذا سألك عبادى عنى.. فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانى».

السؤال هنا كان عن الله، فأراد الله أن يتحدث مع عباده مباشرة دون وسيط، حتى لو كان هذا الوسيط هو النبى «صلى الله عليه وسلم» نفسه.

كان هذا المعنى كامنًا فى قلب النبى صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ابن عمه عبد الله بن عباس وكان لا يزال غلامًا صغيرًا.

كان عبد الله بن عباس راكبًا خلف النبى ذات يوم، فوجد النبى يوجه إليه كلامه.

 قال له: يا غلام إنى أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك.. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

كلمات النبى صلى الله عليه وسلم الموجزة يمكن أن تتعامل معها على أنها وصية لغلام صغير أراد النبى أن يجعل منه جسرًا يصل من خلاله إلى الأمة كلها، ويمكن أن تكتمل هذه الوصية، إذا ما وضعنا إلى جوارها رواية أخرى.

فهناك من يقول أن النبى قال لابن عباس رضى الله عنه: «يا غلام احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا».

ستظل ممسكًا بما رسخ فى يقينك من أن ما قاله النبى هنا وصية يمكنك أن تأخذ بها فترتاح وتطمئن، فمادامت وجهتك هى الله وحده، فلن يستطيع أحد أن يهزمك أو يقهرك.

لكننى قرأت ما قاله النبى من زاوية أخرى، زاوية خاصة بزماننا، فعندما عدت إلى وصية النبى «صلى الله عليه وسلم» إلى ابن عمه الغلام الصغير، وهى الوصية التى أحفظها عن ظهر قلب منذ سنوات الطفولة البعيدة، أدركت أننى أمام بيان نبوى واضح وصريح أصدره النبى ضد سماسرة الدين الذين كان يعرف أنهم سيأتون من بعده.

سيقفز إلى أذهانكم الآن الأحاديث الكثيرة التى تتحدث عن أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الله يرسل على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها، وهو كلام منطقى ومقبول ولا يمكن لنا أن نشكك فيه.

لكن ما رأيكم أن نقف قليلاً مع ما تعنيه هذه المعانى التى ترسخت فى وجداننا للدرجة التى أصبحنا نتعامل معها على أنها جزء من الدين.

يقول النبى -صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يتبق عالم، اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.

لا ننكر أن هناك من بين الطبقة التى أطلقت على نفسها طبقة رجال الدين علماء أجلاء خدموا الدين وعملوا على حمايته ورفعته، ولكننا من الحديث نفسه نعرف أنه من بين هؤلاء العلماء من سيضلون الناس بعد أن يأخذوا منهم مصدرًا للفتوى.

إننا أمام ما يمكن أن نسميه «خيانة الورثة».

هؤلاء الذين انحرفوا عن الجادة، وبدلاً من أن يرشدوا الناس إلى الطريق الذى يصلهم بالله مباشرة، قرروا هم أن يقطعوا الطريق، عندما جعلوا من أنفسهم أوصياء على دين الله، صادروا رحمة الله وعذابه إلى أنفسهم، يمنحون الرحمة لمن يشاءون ويحجبونها عمن يريدون، ويهددون بالعذاب من يختلف معهم ويخففونه عمن يسير وراءهم.

دون تعريض بالعلماء يقطع النبى «صلى الله عليه وسلم» الطريق على هؤلاء الذين يعيشون على ذنوب الناس، يحصلون منها على أرزاقهم، وهى الذنوب التى ساهمت فى أن يكون لدينا طبقة من الدعاة الأثرياء الذين لا يمكن أن يكونوا حملة الدين والقائمين عليه. أرى فى عيونكم دهشة لأننى أطلقت على طبقة رجال الدين «سماسرة الدين».

هم كذلك بالطبع.

فقد جعلوا منه تجارة دنيوية لا مكان فيها للآخرة، فكل شىء موجود بالنسبة لهم هنا فى الدنيا، ادفع تحصل على البركة، إذا أردت أن تتعرف على الله، فلن تنجح فى ذلك إلا من خلالنا، ومن خلالنا نحن فقط.

لقد أبعدنا رجال الدين عن الطريق.. وقفوا بيننا وبين الله، تخيل أن قناة سلفية كانت تضع لها شعارًا « طريقك إلى الجنة».. ولما هاجم الغرب النبى صلى الله عليه وسلم بالرسوم الكاريكاتيرية الملعونة، تحدثوا مع متابعيهم بأن ينصروا نبيهم برسالة sms، وعندما أرادوا أن يروجوا لمرشحهم فى الانتخابات قالوا أنه مرشح الله، ومن يعرض عنه فكأنه يحارب الله ورسوله.

لقد انحرف هؤلاء بدين الله من أجل مصالحهم وحدهم.

لسنوات طويلة وقفنا أمامهم، حاولنا كشف حقيقتهم، أثبتنا للناس أن هؤلاء لا يستحقون أبدًا أن نسير وراءهم ونقتدى بهم، ولا بُد من خلعهم من حياتنا وعدم الركون إليهم، فالركون إلى طريقهم لعنة.

كان هناك دائمًا من يقع فى فخ هؤلاء السماسرة ويتهموننا نحن بأننا نحارب الإسلام، فقد نجح هؤلاء فى أن يجعلوا من أنفسهم الإسلام نفسه، وعليه فأى هجوم عليهم هو هجوم على الإسلام وهو الإفك الكامل الذى لم نخضع له أو نستسلم لمن أرادوه.

الآن لن نتحدث نحن، ولن نعيد عليكم كلامًا قلناه كثيرًا عنهم، فقط سنضع بيننا وبينهم بيان النبى الذى صدر ضدهم لكنهم كانوا يحجبونه عنا.

يمكننا أن نعيش فى الحياة دون سماسرة الأديان الذين يتاجرون فى الذنوب.

وإذا سألت: وما الذى نفعله نحن؟ وعمن سنأخذ ديننا؟

ستجد النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى يجيبك: فإذا سألت فاسأل الله.

ستقف بينى وبين فهمى لكلام النبى ويمكن أن تتهمنى بأننى أحرف الكلام عن مواضعه – حاشا لله أن أفعل ذلك – ستقول لى أن النبى هنا يقصد السؤال عن الحاجات، عما نريده فى حياتنا الدنيا، وما نحتاجه فى حقيقة الأمر كثير.

سأقول لك إن هذا تضييق للمعنى الواسع، وخروج من رحابة قول النبى إلى عنت تفسيراته وتأويلاته، فالسؤال هنا عن كل شىء.  ستسأل وكيف أسأل الله فى شئون دينى؟ سأقول لك.

أولاً: يجب أن تقرأ بنفسك، أنت تستطيع أن تفعل ذلك، أن تمنح نفسك الفرصة لتفهم أنت، وإذا كنت عاجزًا عن القراءة، فلا مانع من أن تسمع لمن يقولون أنهم رجال الدين، لكن على الأقل لا تمنحهم ثقتك على بياض، فكر وناقش وحاور وجادل بالتى هى أحسن، حتى تصل إلى ما تطمئن إليه.

ثانيًا: اعرض أعمالك أنت وما تقوم به على ضميرك الذى هو منحة كبرى من الله، ألم تسمع للنبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك «استفت قلبك ولو أفتوك».. فالنبى كان يعرف أن هناك من سيفتى بالباطل.. ابتعد عن هؤلاء واعتصم بقلبك الذى هو بعض من الله ومن حكمته.

لقد آن أوانك أنت لتعرف عن دينك بنفسك.. أنت تكون فى موضع المسئولية، فقلبك لن يضلك، وعقلك لن يشقيك.

لقد أغلق النبى «صلى الله عليه وسلم» الطريق تماما فى وجه سماسرة الدين.

ما رأيكم أن نقابله صلى الله عليه وسلم هذه المرة يوم القيامة.

يقف النبى «صلى الله عليه وسلم» أمام حوضه المورود، يدعو أمته ليشربوا منه، نهمّ جميعًا حتى نقف أمامه، وقبل أن نمد أيدينا لنشرب يحول بيننا وبين النبى من يمنعنا، فيسأل النبى: إنهم منى، فيقال له: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول النبى: سحقًا سحقًا لمن غير بعدى.

حاول سماسرة الدين أن يصادروا هذا الحديث لصالحهم، خوفونا نحن، وقالوا أن النبى يقصد من ابتدعوا فى دينه، دون أن يدركوا أننا ننظر لهم على أنهم هم من أحدثوا فى دين الله ما ليس منه، وأنهم من غيّروا فيه.. وهم من سيُمنعون من ورود حوض النبى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.