
عاطف بشاى
النوابغ المتوسطون
أثارَ صديقى الكاتبُ المرموق «أسامة سلامة» فى مقاله بمجلتنا الغراء بعنوان «عجائب الثانوية العامة» قضية مهمة من خلال تساؤلاته المندهشة عن ظاهرة ارتفاع درجات إجابات الكثير من الطلبة والطالبات، وهل هذه الأرقام تُعَبر بالفعل عن واقع التعليم المصرى؟!.. وهل لدينا كل هذا العدد الكبير من النابغين؟!.. إن كل واحد من المتفوقين هو مشروع عالم كبير طبقًا للدرجات التى حصل عليها.. فمثلًا لدينا (14) طالبًا حصلوا على الدرجات النهائية فى جميع المواد!!
والحقيقة، أن هذه النتيجة تُبَدد دهشتنا وتفصح عنها بجلاء ووضوح تلك التصريحات المخزية التى يروّج لها الإعلام بمانشتات عريضة هذا العام والأعوام السابقة والتى تسبق الامتحانات.. فالمسئولون عن التربية والتعليم يبشرون بزهو وثقة أن الأسئلة ستتم مراعاة أن توضع فى مستوى الطالب المتوسط ولن تخرج عن اطار المنهج.. والمنهج له إجابات نموذجية محددة.. وذلك يعنى ببساطة نسف معايير التميز لدى الطالب المتفوق وتشجيع الطالب ذى المستوى المحدود.. بل صاحب المستوى المتدنى على مساواته بالنابه عن طريق الأسئلة السهلة والمباشرة التى لا تحتاج إلى التفكير والاجتهاد.. وذلك تحت شعار «كلنا سيد فى ظل التدهور فى مستوى التعليم».. فالاسئلة التى لا تعتمد على الذكاء والقدرة على الاستنتاج والاستقراء والاستشفاف والتخيل.. وتعدّد وجهات النظر.. والقصور وحرية الرأى والتعبير.. وتنحصر فى معلومات يحفظها الطالب ليفرغها على ورق الإجابة.. وإن لم يستطع حفظها فهو يغشها.. ويساعده المدرسُ الخصوصى فى تحديد أسئلة بعينها يتوقع أن يشتمل عليها اختبار آخر العام.. فمن الشائع ترديد مقولة على لسان الطالب هى «المدرس الفلانى بيبقى عارف الأسئلة اللى حاتيجى فى الامتحان.. عشان كدة أنا باخد درس خصوصى عنده».. إن الوزارة التى تفخر بأن الامتحانات فى مستوى الطالب المتوسط يعنى أنها تكره الطلبة المتفوقين حقّا.. وتحاربهم وتسعى إلى مساواة الأغبياء ومتواضعى المستوى والفاشلين بهم.. ومن هنا تفقد شهادة الثانوية العامة كمسابقة من المفترض أن يتصدرها النابهون والأذكياء.. وبالتالى؛ فإن هؤلاء الطلبة المتوسطين يحصلون على الدرجات النهائية!!.
وهى النتيجة المنطقية التى تجيب عن الأسئلة التى يطرحها «أسامة سلامة» من نوعية: هل المتفوّقون لدينا بالفعل عباقرة أمْ أنهم حصلوا على هذه الدرجات المرتفعة بسبب سياسة التعليم عندنا، التى لا تثمر تفوقًا حقيقيّا؟ وأين أوائل السنوات السابقة.. وهل واصلوا نبوغهم فى الجامعات التى التحقوا بها.. ومَن تخرَّج منهم هل أصبح من العلماء الكبار ويتمتع بمكانة علمية تتفق مع تفوقه فى الثانوية العامة؟!
يقودنا ما سبق إلى الإشارة إلى أن عدم قدرة المسئولين على معالجة آفة الدروس الخصوصية المتفشية لا يمكن التصدى لها على طريقة ذلك المَشهد العبثى الذى أوردته «وفاء بكرى» فى مقالها الأخير «بالمصرى اليوم» «قُمْ للمُعلم وكبّله تكبيلًا»؛ حيث لجأت بعضُ المحافظات حينما لم تجد وسيلة لمنع الدروس الخصوصية سوى مداهمة المراكز التى يستخدمها المدرسون بقوة الشرطة ليتم القبضُ على المدرسين المتواجدين وتكبيل أياديهم وإخراج الطلبة كأنهم يتلقون دروسًا ممنوعة، لدرجة أن الفتيات فى أحد الفيديوهات المنتشرة على «اليوتيوب» خرجن وهن يخفين وجوههن…
الغريب فى الأمر، أن المسئولين عن هذه المهزلة لم يدركوا بديهية أن هذه الطريقة التى تفتقر إلى اللياقة وتجنح إلى الترويع ليست هى الوسيلة الناجحة للقضاء على آفة الدروس الخصوصية المستفحلة.. ولكن جوهر المشكلة يكمن فى سياسة التلقين فى مناهج وطرُق التدريس وأسئلة الامتحانات التى إذا ما تم علاجُها بعدم اللجوء إلى الأسئلة المباشرة التى تناسب الطالب «المتوسط» أو ما دونه.. وطرح الأسئلة التى تعتمد- كما أوردنا- على الاستنتاج والبحث وإعمال العقل والخيال.. لما أقدَم أحدٌ على الذهاب إلى مراكز الدروس الخصوصية.