كلاسيكيات مصرية بالألوان الطبيعية!

هاجر عثمان
هل تخيلت تفاصيل أزياء «هند رستم» فى فيلم صراع فى النيل بالألوان وليس الأبيض والأسود، وكذلك إسماعيل يس فى فيلمه «إسماعيل يس فى مستشفى المجانين»، وغيرهما من الفنانين فاتن حمامة، وسعاد حسنى، هذا ما فعله المصور الصحفى والمخرج هشام عبدالحميد، من إطلاق مشروعه التوثيقى لترميم وتلوين صور الأفلام الكلاسيكية وإعادة نشرها للمشاع الإبداعى.
الصور التى تفاعل معها رواد مواقع التواصل الاجتماعى خلال الفترة الماضية، وتناقلتها الصفحات فى ظل حالة من الحنين لحقبة مميزة فى تاريخ مصر ولأفلام تربى جيل كامل عليها ولكن أصبح يشاهد تفاصيلها لأول مرة بالألوان.
يحكى عبد الحميد لـ«روزاليوسف» أن هدفه هو إعادة إحياء ذاكرة السينما المصرية بالألوان ومحاولة الاستمتاع بالتفاصيل البديعة التى كانت تخفيها الصورة بالأبيض والأسود فقط فى مواجهة القبح المنتشر والعودة لإرث مصر الثقافى والفنى لتعرفه الأجيال الشابة.
وعن بداية فكرة مشروع ترميم صور الأفلام الكلاسيكية وتلوينها يقول: «يرجع السبب فى ذلك لشغفى بمجال البحث والأرشيف منذ بدأت عملى الصحفى، وزاد هذا الاهتمام أثناء تصويرى لفيلم عن عمال السد العالى قبل أربع سنوات، وتعثرت فى الحصول على مواد أرشيفية مصورة بالفيديو بسهولة لهذه الفترة.. ولجأت لبعض المؤسسات الحكومية للحصول على 3 دقائق فقط كمادة مصورة يمكن إضافتها للفيلم، لكن كان بمقابل مادى ضخم جدًا، لم أتمكن من دفعه آنذاك، وهو ما جعلنى ألجأ للبحث بطرق مختلفة للوصول لمصورين مصريين أو أجانب كانوا يعيشون فى تلك الفترة ولديهم أرشيفهم الخاص، وبالفعل عثرت على مصورين من روسيا عبر مواقع التواصل الإلكترونى، وأعطونى مادة فيلمية ملونة مدتها 22 دقيقة. وكانت رحلة بحث ممتعة قررت بعدها البدء فى مشروعى التوثيقى بترميم الصور».
البحث عن مادة أرشيفية مصورة لعمال السد العالى كان نقطة انطلاق حقيقية بالنسبة لـ هشام: «اكتشفت أثناء هذا البحث أننا لا نمتلك ذاكرة سينمائية حقيقية ولو موجود هذا الأرشيف ليس للمشاع الإبداعى، وعندما قررت العمل على مشروع ترميم الصور، لم يكن فى الحسبان، تلوينها، لكن مع التجربة، أدركت أننا مفتقدون لتفاصيل كثيرة، وهذا لا يمنع أيضًا، أن نستمتع بها، وكيف أن التكنولوجيا والعلم، قادرين على إظهار الكثير من التفاصيل الجميلة، التى نشاهدها لأول مرة فى هذه الصور».
وبسؤاله عن الطريقة التى حصل بها على هذا الأرشيف من صور الأفلام المصرية بالأبيض والأسود، يجيب: «رحلة الحصول على هذا الأرشيف بدأت أثناء سفرى لبيروت قبل ثلاثة أعوام أثناء إخراجى لفيلم وثائقى عن جريدة «المعركة» التى كانت تصدر أثناء الحرب الأهلية، وفيلم آخر عن توثيق رحلة الأفلام المصرية التى تم إنتاجها فى الستينيات والسبعينيات فى بيروت. وأثناء رحلة البحث تعرفت على شخص مهتم بالسينما يدعى «عبودة أبو جودة» وكان يمتلك مخزنًا هائلًا من صور الأفلام المصرية وتعاونا سويًا فى الحصول على هذا الأرشيف وأعطانى الصور دون مقابل، بالإضافة لأننى تعرفت على أحد العاملين باستوديو بعلبك والذى كان شاهدًا على ذاكرة سينمائية عظيمة فى الوطن العربى، ولكن تعرض هذا الاستديو للإهمال فى الفترة الأخيرة، وبُعثرت محتوياته بين أماكن متعددة، وكنت محظوظًا بتعاون أحد المهتمين بجمع هذا الأرشيف حيث منحنى جزءًا كبيرًا منه».
مع انتشار تطبيقات سريعة لتلوين الصور على الهواتف المحموله يوضح «هشام» أنه لا يمكن المقارنة بين تلوين صورة أو فيديو بشكل سريع وبين ما يفعله هو من الاهتمام بأدق التفاصيل وحتى ترميم بعض الأجزاء: «تلوين الصور يحتاج لمهارات الفنان الذى يقوم بهذه العملية، فهى ليست مجرد تطبيق أو برنامج على الحاسوب فقط، ساعدتنى كثيرًا دراستى للفنون الجميلة وكيفية التعامل مع الألوان، لو هناك موقع كـ heritage الشهير بتلوين الصور فهو قائم على خاصية الذكاء الاصطناعى، ويلقى على الصورة جميع الألوان بشكل متساو وهى CMYK « السيان – الماجينتا – الأصفر – الأسود» ونلاحظ أن الشخصيات والموتيفات بالصور تأخذ لونًا واحدًا باستخدام هذه التقنية، ولكن عند تلوينى للصور باستخدام برامج الفوتوشوب أو لايت رووم أو دافشى سواء للفيديو أو للصور، أستطيع معالجة الصور بصريًا بتقنية بألوان RGB التى نعرفها وهى الأخضر الأحمر والأسود، ومن خلال اللعب فى هذه الألوان نحاول الخروج بلون للصور أقرب للواقع الذى كانت عليه».
ويضيف أن تلوين كلاسيكيات السينما لا يتم بعشوائية «اللون المستخدم فى الصورة يكون لونًا قريبًا جدًا للواقع ونحققه من خلال معايير منها؛ أن يكون هناك تنسيق فى اختياره لتخرج عليه الصورة كاملة بدون تشويش أو تكون مزعجة للعين، فمثلًا الأبيض والأسود للصورة الأصلية يكون الأسود هو أى لون داكن قد يكون «أسود، بنى غامق أو أخضر أو أحمر»، ولكن اختيارى للون يعتمد على نظرتى للكادر كله بأن يكون متناسقًا مع الديكور مثًلا، ونبدأ بتجربة أكثر من لون حتى نصل للون التقريبى والتى تظهر عليه الصورة، فالمسألة ليست تطبيقًا إليكترونيًا ولكن ذكاء وروح الفنان».
الوقت الذى يستغرقه هشام فى تلوين وترميم صورة واحدة يختلف من صورة لأخرى بحسب ما يوضح هشام «يستغرق عملى على ألبوم كامل يضم 10 صور تقريبًا نصف يوم من العمل، وتختلف حسب طبيعة الصور وحالتها التى يصل العمل عليها لـ 8 ساعات مثلًا، فهناك صور مدمرة تمامًا، تحتاج إلى معالجتها فى البداية.. ولا تحتمل قطعًا أو تهالكًا، فنبدأ بإعادة الصورة كاملة من خلال تخيل الجزء المفقود منها أو العودة للفيلم الأصلى ومتابعة اللقطات بدقة حتى نصل للصورة الجارى ترميمها، ونحصل من الفيلم على screenshot للمشهد، ثم نقوم بإعادة تحريره بواسطة برنامج الفوتوشوب وترميمها. كما حدث مع صور من فيلم «رمال من ذهب» للمخرج يوسف شاهين وبطولة الفنانة فاتن حمامة، وكانت صور الفيلم مُدمّرة تمامًا، وتم تعديلها، ليس هنا مكان للذكاء الاصطناعى للتطبيقات ولكن بذكاء الفنان، حيث نعود للمشهد الأصلى ونراقب حركة فاتن حمامة بالمشهد وطريقة جلستها، ونقوم بالمقارنة بالمشهد الأصلى والصورة تحت الترميم ونكملها بالأجزاء الناقصة ويتم تعديلها من الألف للياء».
وعن التحديات التى تواجه هشام فى استكمال مشروعه يقول: «تلوين وترميم الصور أمر مكلف إلى حد كبير، وأتحمل تكاليفها بشكل شخصى، لذلك أدخر مبلغًا من المال شهريًا لاستكمال عملية الترميم لدى أرشيف ضخم يضم آلاف الصور يحتاج إلى وقت ومجهود كبير لإنجازه».
لكن رغم التكلفة الكبيرة والمجهود الذى يحتاجه ذلك العمل يُقدم «هشام» مشروعه للمشاع الأدبى «المشروع ليس حكرًا، فعندما قررت نشر أجزاء منه، فهى للمشاع، من يريد أن يستخدم هذه الصور، فليستخدمها، ولكن فى الاستخدام الأصح، الذى نريد أن نرتقى به، لمواجهة هذا القبح المصطنع، الذى يحيط بنا من كل اتجاه، الصور ملكية عامة، وليست ملكية خاصة، فالمشروع مجد تاريخى لنا جميعًا وليس مجدًا شخصيًا، هدفى هو المساهمة فى إظهار هذا التاريخ العظيم لمصر، وكيف كانت تقود العالم فى الأدب، السينما والفن نمتلك إرثًا ثقافيًا بديعًا، علينا أن نعيده للصدارة مرة أخرى ليزيح بإبداعه ورُقيه هذا الانحطاط الذى نواجهه والإسفاف الذى تعانى منه الفنون الآن. نتابع جميعًا مهاجمة الذوق العام وإنه يميل لما هو خفيف وتافه ولكن علينا أن نقدم على الساحة فن وتاريخ هذه الأمة، لتعلم الأجيال الشابة أن لديهم تاريخًا عظيمًا وصناعة سينما ومبدعين فى مختلف المجالات.من خلال هذه الذاكرة الملونة للسينما التى تعبر عن حقبة تاريخية لمصر بشكل عام».
بدأ هشام فى نشر جميع الصور التى قام بترميمها وتلوينها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى بالتزامن مع تطبيق حظر التجول «كان التخطيط نشرها بعد الانتهاء من جميع الصور، ولكن وجدت الفرصة سانحة الآن مع ساعات الحظر الطويلة فى ظل أزمة فيروس كورونا، وقضاء الأفراد ساعات طويلة على الإنترنت، إتاحة المحتوى ليستمتعوا بجمال الفن وعظمة هذه الأفلام الكلاسيكية، وأن تكون نقطة مضيئة مليئة بالتفاؤل والإيجابية فى ظل انتشار أخبار الوفيات والإصابات وما تتركه من آثار نفسية سلبية على الجميع».
وعن الخطوات القادمة فى مشروعه يقول: «لم أنجز سوى 10 % من المادة الأرشيفية الموجودة، فضلًا عن عملى خلال الفترة المقبلة على نشر مادة فيلمية بعد تلوينها لحقبة مهمة من تاريخ مصر فى الفترة من 1910 إلى 1920، من قرى ونجوع مصر، وبدأت بنشر فيلم قصير عن عودة سعد زغلول من المنفى ولكن بعد تلوينه وإظهار تفاصيل هذه المرحلة المهمة. أخطط مستقبلًا لتدشين موقع إلكترونى يضم هذه المادة الأرشيفية من الصور بعد ترميمها والمواد الفيلمية لتكون متاحة للجمهور».