دواء الرصيف.. فيه سم قاتل!

ابتسام عبدالفتاح وهند خليفة
قدم الراحل كمال الشيخ إلى السينما فيلم «حياة أو موت» حول صيدلى أخطأ فى تركيبة دواء وصرفه لمريض، ويحاول بشتى الطرق الوصول إليه وتحذيره منه، ولجأ إلى حكمدار العاصمة والذى نشر أشهر نداء وصل للجماهير عبر شاشات السينما على مدار تاريخها الطويل عبر أثير الإذاعة.. ورغم مرور ما يزيد على 65 عامًا على الملحمة السينمائية التى لعب بطولتها يوسف وهبى وعماد حمدى، ودخولنا عصر السماوات المفتوحة والإنترنت إلا أن سوق الأدوية مجهولة المصدر يشهد رواجًا كبيرًا.
لم يتوقف أمر سوق المستعمل عند الأجهزة والأدوات والملابس فقط، بل تعداها إلى الأدوية، حيث يستغل التجار الفقر والحاجة الملحة للمرضى للعلاج بعرض أدوية منتهية الصلاحية أو مجهولة المصدر، بهدف تحقيق مكاسب مادية.. فجولة داخل «سوق الجمعة» تكشف لك حجم الكارثة التى تهدد حياة الآلاف، فرش على الأرض وطاولات وأقفاص خشبية، تتراص عليها عبوات وشرائط لأدوية وسرنجات تغطيها الأتربة، مقابل أسعار زهيدة فى متناول أى شخص يفتك به المرض وغير قادر على شرائها من الصيدليات الرسمية. «روزاليوسف» وقفت على مفروشات «باعة الموت» فى سوق السيدة عائشة، أدوية وسرنجات بعضها كمقويات وفيتامينات ومكملات غذائية وأخرى لمرض السكر والضغط والبعض الآخر للأمراض الجلدية والالتهابات، بعضها يستخدم للحيوانات وأخرى للإنسان.
عند الاقتراب للتعرف على نوعية الأدوية، نجد أن غالبية الباعة يتعاملون فى أدوية للسكر، وتركيبة فيتامينات، وكالسيوم، وأقراص خميرة، ومسكنات، وكريمات العناية بالجلد والشعر، فمثلًا أقراص «سنتروم» التى تستخدم كمكمل غذائى لمن هم فوق الخمسين، تباع فى الصيدليات بـ300 جنيه، بينما على فروشات سوق الجمعة بـ5 جنيهات فقط، الكارثة التى أكدت لنا فساد أدوية الرصيف أنه بمجرد فتح العبودة وجدنا الأقراص مفتتة ومتآكلة ما يؤكد انتهاء صلاحيتها. المعروف أن الأدوية تحتاج إلى عوامل خاصة للحفظ حتى لا تفسد، خاصة أدوية الأنسولين، إلا أننا وجدنا أثناء جولتنا عبوة «فيفار وإنسولين»، الذى يستخدمه مريض السكر، معروضة على فروشات السوق، مغطاة بالأتربة ومعرضة لجميع عوامل الجو من شمس وأمطار، كما أن الزبون يستطيع تجربتها، كما هو الحال لـ«أوتريفين» بخاخة الأنف التى تستخدم فى حالات الرشح والزكام واحتقان الأنف، تجدها ملقاة بين عبوات مئات الأدوية غالبيتها بدون أغلفة أو نشرة داخلية. أحد الباعة، يفترش عبوات الأدوية داخل أقفاص خشبية موضوعة على الأرض، غطتها الأتربة لدرجة أنك لا تستطيع قراءة أسمائها إلا بعد تنظيفها وإزالة ما عليها من أوساخ، سألنا عن إمكانية توفير بعض الأدوية رخيصة الثمن، ليؤكد أن لديه جميع الأدوية حتى وإن كانت غير موجودة على الفرشة يستطيع توفيرها، موضحًا أن بعض التجار يجمعون الأدوية من الصيدليات وشركات الأدوية ويقومون بتوزيعها على الباعة «الكل يستفاد».
مضادات الرصيف
داخل سوق الجمعة، تفترش سيدة أربعينية، الرصيف وتضع أمامها عددًا كبيرًا من العبوات وشرائط الأدوية ومستحضرات التجميل، ويلتف حولها عدد من المواطنين، يفتش كل منهم عن غايته وسط كومة الأدوية، التى وجدنا بها العديد من المضادات الحيوية كـ«ميجاكلافورس، جاردينوفا، كلافيوسين، إيمو كسكلاف، أوجمنتين، كيورام، البنسلين، الأموكسيلين، الجنتامسين، أزيدوسيلين، كيندا مايسين، موبيروسين، نيتروفورانتوين، دوكسيسايكلين»، وأدوية للسكر، ويصل سعر جهاز قياس السكر 10 جنيهات فقط، وسرنجة الأنسولين للحقن تحت الجلد جنيهًا واحدًا فقط، إضافة لأدوية الأنسولين مثل هيومالين أر، أنسيومان رابيد، أقلام أبيدار الذى يصل سعره بالصيدليات لـ400 جنيه وتحتوى العلبة الواحدة على 5 أقلام تباع فى السوق القلم بـ 5 جنيهات. فضلًا عن العقاقير « سيدوفاج، جلوكوفاج، جاسبرومين، جلوكولايت، الكسوجيات». وعلى نفس الفرش تجد أدوية للأطفال وارتفاع الضغط والقلب كـ«الأتينول، ميتابرولول، البروبرانولوا»، وعلب شراب للأطفال كأنتينال، دياكس، كالسيرم، بيبى فيت، جميعها تباع بـ 5 جنيهات. ناهيك على رواج للعديد من الأدوية المحظورة من قبل وزارة الصحة كـ«Livagoal 450 mg»، ناهيك على أن جميع الأدوية منتهية الصلاحية، او تنتهى خلال أيام . «أم أدهم» صاحبة الفرشة قالت لنا إن الأدوية منتهية الصلاحية تأتى بعضها من صيدليات المستشفيات أو الصيدليات، وغالبيتها دون علبة، يتم بيعها لمحلات البضائع فى منشية ناصر، موضحة أنها تشترى شنطة الأدوية من التاجر بسعر 50 جنيهًا، بها جميع أنواع الأدوية مضادات حيوية، القلب، الضغط، الكبد، السكر، مؤكدة أن الزبائن تلجأ إلى السوق للحصول على أنواع من الأدوية المختفية من الأسواق. أحد الزبائن أكد لنا أنه اعتاد شراء أدوية السكر من سوق الجمعة، نظرًا لأن علاج السكر بالصيدليات غالى الثمن، فلم يجد أمامه إلا سوق الجمعة للحصول على الدواء، فشريط «جلوكوفاج» بالصيدلية 75 جنيهًا، ويباع فى السوق بـ10 جنيهات: «أنا على باب الله والسكر عندى عالى بأخذ الأنسولين، الهيومالوج بـ 500 جنيه فى الصيدلية، هنا بشتريه مرة بـ 50 جنيهًا وأخرى بـ30 جنيهًا»، وعن الصلاحية، قال: بعضها منتهى الصلاحية، وهناك أدوية منتهية الصلاحية، لكنها لا تضر لأن صلاحيتها منتهية منذ فترة قليلة: «اشتريت أدوية كتير قبل كده ومحصليش حاجة».
مستحضرات التجميل
بين الأدوية، تجد العديد من مستحضرات التجميل على الفرش كريمات، شامبو، شاور، أدوات مكياج ماركات عالمية بسعر 5 جنيهات، لكن جميعها مستحضرات مستعملة، إلا أن الازدحام على المستحضرات كبير جدًا، رغم انتهاء صلاحيتها، فهذا رجل اعتاد شراء مستحضرات التجميل لزوجته وابنته من سوق الجمعة ونصحنا بشراء كريم الوجه وشاور، لأنها لا تتأثر بانتهاء الصلاحية، والابتعاد عن شراء أدوات المكياج منتهية الصلاحية. أثناء سيرك فى السوق، تجد جميع الأدوية عن يمينك ويسارك بجوار الخردة، ويشهد السوق رواجًا كبيرًا لأدوية المنشطات الجنسية بمختلف أشكالها وأسمائها، بسعر 7 جنيهات للشريط.. وكشف لنا مينا، صاحب فرشة عن سر تدنى الأسعار قائلًا: إنه يحصل على هذه الأدوية من الصيدليات بسبب أن عبواتها بها عيوب ولا تصلح للبيع، فبدلًا من إلقائها فى القمامة نبيعها بالسوق، بأسعار أرخص من الصيدليات. شركات الأدوية «ى . م»، موظف مخازن بإحدى شركات الأدوية فأكد أن شركات الأدوية تتخلص من الأدوية منتهية الصلاحية عن طريق «المفرمة» فى حضور مندوب من وزارة الصحة، موضحًا أن إعدام الأدوية منتهية الصلاحية لابد أن يتم بمحاضر مسجلة وتحت إشراف الوزارة، وكشف أن التلاعب وبيع الأدوية منتهية الصلاحية، يكون عن طريق «السوق المحروق»، فهناك مجموعة من التجار يقومون بشراء الأدوية بأسعار أقل من سعرها الحقيقى من شركات الأدوية، التى تلجأ إليهم للتخلص من المخزون المتراكم قبل انتهاء مدة صلاحيته، ففى أحيان كثيرة تعجز الصيدليات عن تصريف الكميات المنتجة من الأدوية، فهذه الأدوية تخزن بمعرفة التاجر، فضلاً عن «تاجر الشنطة» الذى يعرض أسماء أدوية على الصيدليات، وكشف أن بعض الصيدليات تقع ضحية للتجار الذين يعرضون عليهم الأدوية بأسعار مخفضة كثيرًا عن الشركات، وهو ما يجعلهم يتغاضون عن الشكل القانونى.
أدوية سامة
وكشف الدكتور أحمد الجويلى، منسق حملة أنا صيدلى أنا فاهم شغلي؛ وجود أشخاص مجهولى الهوية يترددون على الصيدليات، للحصول على الأدوية منتهية الصلاحية، مقابل بيع أدوية الضعف الجنسى وبعض الأدوية الأخرى بخصم 40 و60 % من قيمة الأدوية صالحة. ويعتقد الصيادلة أن هذا «الشخص المجهول» يقوم بإعادة تلك الأدوية إلى الشركة لخلط القديم بالجديد، إلا أنه فى الواقع يقوم هؤلاء الأشخاص بتسليم الأدوية منتهية الصلاحية، إلى شركات «بير السلم»، التى لا تخضع للرقابة، وعادة ما يتم تدويرها من جديد بتزوير مدة الصلاحية، وإعادة بيعها للصيدليات، وفى الأسواق الشعبية. وأضح «الجويلى» أن الأدوية منتهية الصلاحية تخضع للإعدام، لكن بعض الشركات لا تقوم بهذا، بل تسرب الأدوية منتهية الصلاحية للبيع بالأسواق الشعبية، فضلا عن أن سوء التخزين والنقل يتسبب فى تلف الأدوية، وتصبح غير صالحة، رغم أن تاريخ الصلاحية غير منتهٍ، مشيرًا إلى أن الأدوية تخضع للكشف على جهاز درجة الحرارة بالصيدليات، للتأكد من حفظها ونقلها بطرق صحيحة فأحيانًا يتم رفض استلام الأدوية غير المطابقة للمواصفات، وبعض هذه الأدوية تجد لها طريقًا للرصيف من قبل معدومى الضمير. من جهته نفى الدكتور وحيد عبد الصمد, عضو مجلس نقابة الصيادلة، وجود سوق للأدوية منتهية الصلاحية على الرصيف، معللًا بأن أى صور متداولة لهذا الأمر التقطت صدفة لأدوية كان من المفترض أن تعدم وتم إلقاؤها بالطريق، مشددًا على أنها ليست ظاهرة موجودة فى مصر ولا يجب تضخيمها. وعند مواجهته بتجربة «روز اليوسف» رد بأن هناك أدوية يتم صرفها من التأمين الصحى والمنافذ الحكومية والبعض يفقدون الثقة فيها ويتخلصون منها أو بيعها على الرغم من أنها سليمة: «الناس اللى بتبيع فى الأسواق جهلة مش هتعرف الفرق بين دوا القلب أو الضغط.. ومفيش متعلم هيستخدم دوا بالصورة دى وياخد علبة دواء فيها سم علشان سعرها رخيص». وحول طرق التلاعب فى الأدوية منتهية الصلاحية، يقول «عبدالصمد» إن التلاعب يتعلق بالناحية التجارية وبعض الشركات يقوم بتسريب الأدوية للتجار، على الرغم من ضرورة إعدامها، خاصة وأنها تحصل على قيمتها المادية مقدمًا فى ظل تطبيق السعر الجبرى، موضحًا أن ثمن علبة الدواء التى يقوم الصيدلى بشرائها من الشركة يشمل نسبة لمنتهى الصلاحية. وكشف أنه فى الآونة الأخيرة لجأت الشركات إلى سحب الأدوية منتهية الصلاحية وإعادة تدويرها من جديد، بطريقة غير رسمية، مضيفًا أن نقابة الصيادلة طالبت بتقنين وضع الدواء منتهى الصلاحية من خلال ما يسمى بـ«غسيل السوق» بإلزام الشركات بارتجاع كل الأدوية الموجودة حتى وإن مر عليها عشر سنوات، وتوقيع عقوبة على الشركات غير الملتزمة بالتطبيق بوقف أعمالها وسحب ترخيصها من خلال وزارة الصحة.