الچوكر ثورة الفن على هوليوود

فى سابقة هى الأولى من نوعها لم تعهد «هوليوود» مثيلها من قبل، تمكن فيلم الـ(جوكر) من التربع على عرش إيرادات الأفلام ذات الفئة «آر- ريستريكتد» فى التاريخ، وهى الفئة التى عادة يكون محتوى أفلامها عنيفًا للغاية لدرجة لا تسمح لمن هم دون سن الــ17 بمشاهدة أفلامها، وفقًا لنظام جمعية الفيلم الأمريكى لتقييم الأفلام.
منذ طرحه رسميًا فى دور العرض السينمائية الأمريكية والعالمية فى 4 أكتوبر وحتى الآن، حقق الـ(جوكر) إيرادات خيالية وصلت إلى 860 مليون دولار، فيما توقع بعض النقاد أنه سيكسر حاجز المليار دولار فى منتصف شهر نوفمبر، ليتفوق بذلك على أفلامٍ من نفس الفئة مثل (ديدبول، فينوم وهالويين).
يجادل البعض بأن «تود فيلبس» - مخرج الفيلم - استخدم معادلة ماكرة ذات وجهين، قلما استعملها غيره من أترابه فى «هوليوود»، فمن ناحية نراه قد استطاع مداهنة استديوهات «وارنربرازرس» بأن يصنع فيلمًا يحقق نجاحًا جماهيريًا منقطع النظير بأقل ميزانية ممكنة وصلت إلى 55 مليون دولار، وهو رقم مستحيل - نظريًا - لصناعة فيلم من الفئة الأولى الشهيرة باسم A movies بمعايير السينما العالمية فى الوقت الراهن، وخصوصًا أنه استعان بأحد الأسماء اللامعة فى السينما العالمية وأحد رواد مدرسة الـ«تمثيل منهجى»، وهو «خواكين فينيكس».
وكما هو شائع، فإن الميزانيات القليلة عادة ما تُمنح لصناعة أفلام الدرجة الثانية B movies أو الأفلام التجارية، ذات التوزيع المنخفض التى اشتهرت خلال العصر الذهبى لـ«هوليوود»، إلا أنها ومنذ بداية الألفية أصبحت تغلّب العنصر الفنى والتجربى عن العنصر التجارى، فظهرت أفلام بميزانيات منخفضة للغاية لكنها حفرت نفسها بحروفٍ من ذهب فى الأدب السينمائى العالمى والجمعى، مثل أفلام (ضائع فى الترجمة، الآنسة سانشاين الصغيرة، المليونير المتشرد وخطاب الملك)، وذلك رغم أن صانعى بعضها انبهروا بها وقرروا تحويلها إلى ثلاثيات ورباعيات لاقت فشلاً ذريعًا مثل (نشاط خارق، روكى والمنشار).
الفئة الأولى - الفنية من أفلام الدرجة الثانية تحولت بمرور الوقت إلى أفلام من الدرجة الأولى خلقت بعدها معادلة النجاح الجماهيرى والثقل فنى، وذلك مع ظهور موجة الأفلام المستقلة فى نهاية السبعينيات وعلى أيدى مخرجين مثل «مارتن سكورسيزى، برايان دى بالما، ستانلى كوبريك، رومان بولانسكى»، ومخرجين أقل شأنًا مثل «أبيل فيرارا»، الذى بدأ مسيرته فى أفلام درجة ثانية مثل (الملازم السيئ) بتمويل مستقل تمامًا وبكلفة 1.8 مليون دولار.
إلا أن العصر الذهبى للسينما المستقلة جاء بعد ظهور اسم «كونتين تارانتينو» وسط عمالقة «هوليوود» كأحد أهم صناع السينما فى العالم، ذلك أنه أحدث آنذاك ثورة بأفلامه على مقاييس الإنتاج وعراقيله ومشكلاته، واستطاع بحذق شديد تحقيق توازن بين العنصر التجارى والعنصر الفنى بأقل ميزانية ممكنة، وبالتالى فإن أفلام مثل (كلاب المستودع، اقتل بيل ومضاد للموت) تعتبر وفقًا لمعايير اليوم «تحف» فنية رغم أنها مليئة بشكلٍ فج بعناصر أفلام الدرجة الثانية.
فى حالة «فيلبس» يختلف الأمر قليلاً، فبعد أن جاء النابغة البريطانى «كريستوفر نولان»، الذى يعتبر هو الآخر امتدادًا للسينما المستقلة، وهشم معادلات «هوليوود» فى صناعة الأفلام التجارية الرائجة-خصوصًا أفلام الأبطال الخارقين-عبر ثلاثية (فارس الظلام) رأينا شركة «مارفل» العدو اللدود لشركة «دى سى»، تعيد صياغة تلك المعادلة فى أفلامها بأن أصبحت ذات ثيمة «ظلامية» لتصل ذروتها مع طرح فيلم (المنتقمون) عام 2012 الذى كان بمثابة بداية انطلاق لعالمها السينمائى الذى يعرف اختصارًا بـ«إم.سى.يو» MCU، وهو الأمر الذى جعل «دى.سى» تشعر بالتهديد وتتجه لخلق عالم خاص بها هو «دى.سى.إى.يو» DCEU، أغلب أفلامه حققت فشلاً ذريعًا رغم نجاحها التجارى، ورغم أن بعض تلك الأفلام اعتبرها النقاد مسلية مثل (شاذام أو المرأة الخارقة).
لقد أعادت «دى.سى» ترتيب أوراقها بشكل كامل مع فشل فيلمى الـ(فرقة الانتحارية) عام 2016 و(فرقة العدالة) عام 2017، والآراء السلبية التى انهالت على أداء «جاريدليتو» فى دور الجوكر، وهو الذي-بحسب تقرير لمجلة «هوليوود ريبورتر»- حاول عرقلة مشروع «فينيكس» بعدما وعدته «وارنربرازرس» بتنفيذ فيلم مستقل عن الـ«جوكر» لكنها استبعدت المشروع فى آخر لحظة ووقع اختيارها على «فينيكس»، وهو ما أوقع «ليتو» فى مشاكل مع الشركة جعلتها تستبعده أيضًا من الجزء الثانى للـ(فرقة الانتحارية).
هذا فضلاً عن انسحاب «بن أفليك» من أداء دور «باتمان» و«هنرى كافيل» من تجسيد «سوبرمان» والمشاكل الإنتاجية التى صاحبت تلك الأفلام التى كان آخرها ترشيح البريطانى «روبرت باترسون» لأداء «باتمان» فى فيلم من إخراج «مات ريفز» وتأليفه بالاشتراك مع «ماتسونتوملين»، والذى من المقرر أن يطرح لدور العرض فى 2021.
ولما كان «فيلبس» معروفًا لدى الجمهور بأفلامٍ متواضعة فنيًا مثل ثلاثية (صداع الكحول) الكوميدية، فقد أحدث اختيار «دى.سى» له لتولى مسئولية إخراج فيلم جديد بعنوان (الجوكر) يدخل تحت فئة الأفلام المستقلة، ضجة كبيرة سواء على مواقع التواصل الاجتماعى أو فى وسائل الإعلام، بيد أنه كان هناك إجماع من جانب الجمهور على عدم الرغبة فى رؤية معالجة جديدة لـ«جوكر» آخر بعد «ليتو».
ورغم أن «فيليبس» و«فينكيس» ظلا يعملان فى صمت على (الجوكر)، ساورت البعض الشكوك فى أن الفيلم ليس متصلاً بعالم «دى.سى» السينمائى وهو ما كان مثيرًا للانتباه حتى إن البعض تكهن بأن الفيلم الجديد لن يكون مستندًا على قصص «دى.سى» المصورة الـ«كوميكس» وتأكدت تلك الشكوك مع ظهور مقاطع فيديو من كواليس الفيلم ومع طرح الإعلان الترويجى الأول له، الذى حصل على إشادات شتى وجعل الملايين من حول العالم يترقبون الفيلم، إلا أن كل شيء تغير بعد عرضه للمرة الأولى فى 31 أغسطس الماضى فى مهرجان فينسيا السينمائى.
بعد طرح الفيلم، ظهرت بين الجمهور فرضية جديدة وهى أن (الجوكر) سيدخل ضمن عالم سينمائى جديد لـ«دى.سى» يعتمد بشكل كلى على أفلام الشخصية الواحدة ويستند إلى حد كبير على عالم جديد أسسته «دى.سى» مؤخرًا داخل قصصها المصورة يدعى «العلامة السوداء» أو DC Black Label وهى قصص مصورة شديدة الظلامية موجهة لقطاع معين من الجمهور-غالبًا من هم فوق سن الـ18-وتعتمد هى الأخرى على الشخصية الواحدة، ولم يصدر منها حتى الآن سوى أعدادٍ قليلة.
يمكن القول إن العنصر الثانى من معادلة «فيليبس» هو اعتماده على «فينيكس» وموهبته، وتأكيده مرارًا أن الفيلم ليس متصلاً بعالم «دى.سى» السينمائى، وأهم شىء هو اختياره لأكثر شخصية رائجة ومحبوبة فى تراث القصص المصورة.. الـ«جوكر» الذى تفوق فى شعبيته عن غريمه التاريخى «باتمان» وذلك بسبب أداء الراحل «هيث ليدجر» فى (فارس الظلام) عام 2008، وبسبب أسماء مثل «فرانك ميلر» و«آلان مور»، اللذين يعود لهما الفضل فى إعادة ترسيم شخصية الغريمين وإضفاء الواقعية عليهما، وذلك فى قصتى (النكتة القاتلة)- أول قصة تحكى تاريخ الـ«جوكر» قبل تحوله لمجرم-و(عودة فارس الظلام)، وهما القصتان اللتان اعتمد عليهما «فيليبس» فى الـ«جوكر» بدهاء شديدٍ لم يلحظه الجمهور.
لقد صرح «فيليبس» فى مقابلات شتى بأن الفيلم مستلهم من تحفتى «سكورسيزى» و«روبرت دى نيرو» وهما فيلما (سائق التاكسى وملك الكوميديا)، وهذا يتضح جليًا فى الفيلم خصوصًا فى التصوير الفوتوجرافى وتصميم الإنتاج، إلا أن ما لم ينتبه إليه قطاع كبير من الجمهور خصوصًا ممن لم يقرأ الـ«كوميكس»، هو أن قصتى (النكتة القاتلة، وعودة فارس الظلام) يدخلان فى العامود الفقرى لقصة الفيلم الرئيسية، بل حتى إن هناك مشاهد «منحوتة» من تلكم القصتين فى الفيلم سواء مشهد الذروة الشهير أو مشهد النهاية، الذى يعتبر إعادة تحوير لنهاية «النكتة القاتلة»، ناهيك عن أن حبكة «بروس وين» الطفل فى الفيلم تجعل من «فيليبس» مشاركًا رئيسيًا فى تراث «باتمان» والـ«جوكر» بأن جعل لكلٍ منهما قصة ترتبط بالآخر، وهو ما لم يحدث قط فى تاريخ الـ«كوميكس» والسينما، باستثناء فيلم (باتمان) إنتاج عام 1989 وإخراج «تيم بيرتون»، الذى جعل الـ«جوكر» سببًا لوجود «باتمان» بأن قتل والدى «بروس واين»، وهو قرار اتخذه «بورتون» دونًا عن غيره، ورغم اعتراض المؤلف «سام هام» و«وارنربرازرس».
ظهرت مناشدات شتى بين جمهور الـ«كوميكس» لشركة «دى.سى» بأن تصنع جزءًا ثانيًا من الـ(جوكر) ليس لنجاحه فحسب، وإنما لأن معادلة «فيليبس» نجحت وجعلت هناك تعطش لرؤية معالجات ظلامية / واقعية للقصص المصورة، وبالفعل سرعان ما صرح «فيليبس» بأنه مستعد لإخراج الجزء الثانى من الفيلم إذا اقتنع «فينيكس» بالفكرة، وهو المعروف عنه بالرفض الشديد لفكرة السلاسل، إلا أن «فينيكس» قال مؤخرًا: إنه تحدث مع «فيليبس» عن إمكانية صناعة جزء جديد للفيلم، مؤكدًا أن الفكرة لا تزال مطروحة للنقاش.>