الأوراق المجهولة لـ«لويس عوض»

الدخول إلى عالم لويس عوض (1915 – 1990) لم يكن بالأمر السهل، فالعالِم الذى «تلهبه شهوة لإصلاح العالم»، كان التلف أو الضياع مصيرًا للكثير من مخطوطات كتبه، حتى إن كتابه بالعامية «مذكرات طالب بعثة» صدر فى منتصف الستينيات عن سلسلة الكتاب الذهبى فى «روزاليوسف» واحتاج أن ينتظر كل هذه السنوات منذ كتابته فى مسودته النهائية فى 1942، ذلك لأنها ظلت مع صحفى لمدة عشرين عامًا!
فى ذكرى وفاته الـ29، تكشف سطور أوراقه الناجية من التلف حكايات مجهولة خلفها.. وتفض حالة الغموض التى صاحبت «كاتب الأضداد» بعد أكثر من قرن من الزمان.. إذ تعود مخطوطة كتابه الجدلىّ الممنوع «فقه اللغة» من بين الأوراق الناجية.. لتردّ للمفكر الكبير قيمته وجهده.. وتفتح الباب على مصراعيه للمناقشة والنقد، محاولةَ لفهم منهج لويس عوض عن قرب.
1 مخطوط «فقه اللغة»: العامية انتقت المألوف فى المصرية القديمة
«إن جوهر القضية كما يراها المؤلف هو: مصر إلى أين؟ إلى الخُمينية أم إلى الحضارة والمعاصرة ودور العلم والعقل؟».. تكاد تكون الجملة السابقة هى الردّ الوحيد والموثّق للويس عوض على أزمة مصادرة كتابه «مقدمة فى فقه اللغة العربية».
مخطوطة الكتاب التى عثرنا عليها من بين الأوراق الناجية من غرق مكتبة لويس عوض هى دفتر وحيد يبدو واحدًا من دفاتر عديدة للكتاب. بخطّه المنمّق المعتاد، تبدأ أول صفحة من الدفتر/ المفكّرة بمبحث فى «أسماء الحيوان» واشتقاق الكلمات العربية للحيوان من لغات أقدم. المفكرة غير مكتملة، بها صفحات غير مكتوب فيها. وقبيل صفحات غير قليلة متروكة بلا كتابة، تنتهى المفكّرة بالكلمات الدالة على «العقل» ضمن مبحث مفصّل بصورة أكبر من مبحث أسماء الحيوان، اسمه «أعضاء الجسم». وفيه تفصيل بالكلمات الدالة على كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، وجذره فى المصرية القديمة واللغات الأوروبية، الإنجليزية والفرنسية.
فى إحدى صفحات النوت غير المرقّمة، يكتب لويس عوض هذه الخاطرة التى يمكن اعتبارها الفكرة المحورية للكتاب ككل: «ومما ينبغى ملاحظته أن العامية المصرية انتقت من المفردات العربية أقرب الألفاظ العربية إلى ما ألفته فى المصرية القديمة والقبطية. فلسبب ما لا نجد أثرًا لفعل «ذهب» فى أى صورة فى العامية المصرية التى تستخدم «راح» وحدها، وهى عربية، ولكن اختيارها من دون سواها دليل على أنها أقرب مفردات الذهاب إلى اللغة التى بادت».
فى كتاب «مقدمة فى فقه اللغة العربية»، حاول لويس عوض أن يُثبت أن الأمة العربية حديثة الظهور نسبيًا وأن اللغة العربية هى أحد فروع الشجرة التى خرجت منها مجموعة اللغات الهندوأوروبية. وهو ما انتفض ضده الأصوليون والمحافظون، واعتبروه تعدّيًا على حرمة لغتهم وطعنًا فى أصالتها.
فى دفاعه عن بحثه، وهو المجهود الموسوعى الضخم بحقّ، اكتفى لويس عوض، ذلك العنيد، بمذكرة أولى ووحيدة أرسلها إلى المحكمة فى أثناء نظر الدعوى المُقامة ضدّه بعد نشر الكتاب. وترفّع بعد ذلك فى الصحافة وبين الأوساط الأدبية عن التعليق والمناقشة والردّ على خصومه، وعلى رأسهم صاحب الدعوى العلّامة محمود شاكر، الذى خصّ لويس وكتابه بالهجوم والدعوى بالمصادرة فى كتاب بعنوان «أباطيل وأسمار».
نحن فى عام 1983، بعد عامين من صدور الكتاب، حيث قُدّمت مذكرة الأزهر ضد الكتاب بعد عامين من صدوره، بينما يرى لويس عوض نفسه أن كتابه كان ضحية ما عُرف بـ«خريف الغضب» فى أكتوبر من عام 1981، عام صدور الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مع حملة الاعتقالات الشهيرة لرجال الدين الإسلامى والمسيحى.
كتب لويس عوض عن نفسه فى المذكرة التى قدّمها إلى المحكمة، وهى الوثيقة التى يعرضها نسيم مجلى فى كتابه التفصيلى الشامل عن القضية «لويس عوض ومعاركه الأدبية» من إصدارات الهيئة العامة للكتاب أيضا. كتب عوض: «حتى 1965، لم أكن أتصوّر أنى أمثّل كل هذه الخطورة فى الثقافة العربية أو على الثقافة العربية».
تدخّلت النيابة العامة بناء على مذكرة من لجنة البحوث بالأزهر وصادرت الكتاب فانقطع سياق الحوار العلمى مع ما جاء به لويس.
وذهب كثيرون إلى أن قبطية لويس عوض زادت من أمر الهجوم عليه والتشكيك فيه. وأنكروا عليه أن يبحث فى الأدب العربى واللغة العربية ميراث الإسلام، فهو لا يحق له.
كان كتاب فقه اللغة قد واجه موجات متتالية منذ صدوره من الهجوم والاستنفار على حد تعبير لويس نفسه. وها هى مجلة الإذاعة والتليفزيون تنشر على مدار الشهور الأولى من 1981، ثلاثة عشر مقالاً بقلم مدرّس فى جامعة أسيوط هو الدكتور البدراوى زهران، انحرف فيها صاحبها تمامًا عن مناقشة القضايا اللغوية إلى إثارة القضايا الدينية.
لويس عوض الذى آمن بالقومية الفرعونية لمصر، واجه اتهامات بعد نشر كتابه هذا بمهاجمة الإسلام، وهدم قدسية اللغة العربية. ولم يتزعّم البدراوى وحده الهجوم على لويس. فهناك كتاب «الغزو الفكرى» لجلال كشك، «أباطيل وأسمار» لمحمود شاكر المذكور سابقا، و«دراسات نقدية فى ضوء المنهج الواقعى» للبنانى حسن مروه.
بالنسبة إليه؛ آمن لويس عوض بأن «الحقيقة تُقال لا أن تُعلَم». وواجه حملات التطرّف والتعصّب بجملة واحدة، ثم صمت حتى وفاته: «أنا أقف فى صف التقدّم والحرية والإنسانية، وشططى هو شطط الاجتهاد».
المعنى الاشتقاقى وليس معنى المعاجم
ترد هذه الجملة كثيرا فى مخطوطة «فقه اللغة» الناجية والتى لا يحذف أو يشطب منها لويس كثيرًا، تقول الجملة: «لن نهتدى إلى حكم قبل أن نعرف المعنى الاشتقاقى للكلمة لا معنى المعاجم». وهى باختصار جوهر منهجه فى هذا الكتاب.
لم يحظ كتاب «مقدمة فى فقه اللغة» بمناقشات علمية تحاجج ما جاء به مؤلفه. المخطوطة تمنح فرصة لقراءة هادئة ومحاولة للفهم بعد كل هذه السنوات.
كيف نفهم منهج لويس عوض فى هذه الموسوعة اللغوية اليوم، وكثيرًا ما نسمع عن «الوحدة إيتمولوجية بين الإنجليزية والعربية وبينهما وبين الألمانية والفرنسية».
فى البحث عن جذر «كلى»، «كليه» Kidney الإنجليزية، ممكن أن يقترب إلينا المعنى. يقول لويس إن علماء اللغة يجهلون أصل كلمة كلى ويرجعونها إلى معنى كلمة بيضة بالإنجليزية، لكن لويس عوض لا يرى مع «وبستر» أنها ترجع إلى بيضة، بل إلى «صيغة فاسدة من كلمة neiros اليونانية بمعنى الماء، ولا أستبعد أن يكون معناها الإيتمولوجى قريبًا من «مصفاة الماء».
من المباحث الطريفة فعل انتفخ لا بمعنى النفخ، لكن بمجرد البروز، ومنها جاء جذر breast من كلمة «بز» المصرية العامية، إنما فى العربية يعيش فى كلمة «برز» و«بورجوس» اليونانية وهى «برج» العربية. بمعنى أن «برج البناء هو ثديه البارز. وسليمان الحكيم حين استعمل التشبيه الجميل فى نشيد الإنشاد (ترك الاقتباس فارغًا) فشبّه البز بالبرج».
2 رسالة الماجستير غير المترجمة: دراسة مقارنة الأولى من نوعها
«أسس البلاغة الشعرية فى الأدب الإنجليزى والفرنسى» هو عنوان رسالة الماجستير التى حصل عليها الدكتور لويس عوض من جامعة كامبريدج سنة 1943. ونملك نسختها الأصلية على الآلة الكاتبة. وهى لم تترجم حتى الآن. ولا يذكرها لويس بين تتابع سيرته الذاتية فى كتاب «أوراق العمر.. سنوات التكوين».
كان لويس عوض قد عاد إلى مصر بسبب الحرب من دون أن يُكمل الحصول على الدكتوراه. وعمل مدرسًا فى جامعة القاهرة من دون أن يحصل على الدكتوراه بعد، فقد كان ذلك متاحًا. كانت فترة مليئة بالتحقّق والسعادة والفخر بالنسبة إلى الدكتور لويس. يكتب فى مقدمة روايته المُتقنة «العنقاء» ويعتبرها النقاد تحفة نادرة: «كان يُعرف عنى أنى لم أكن مجرد مدرّس جامعى بالمعنى المألوف، وإنما معلّم من طراز عصور الانتقال، حيث تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة».
الأدب والفن للحياة، كان شعار لويس عوض فى كل ما يكتبه ويدرّسه. حتى سافر إلى الولايات المتحدة (1951) فى منحة من مؤسسة روكفلر، حيث حصل على الدكتوراه (1953) عن رسالة «أسطورة بروميثيوس فى الأدبين الإنجليزى والفرنسى»، وهى التى ترجمتها الدكتورة فاطمة موسى. وعين لويس بعد عودته أستاذًا مساعدًا بكلية الآداب جامعة القاهرة، وسرعان ما فُصل (1954) من الجامعة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لأسباب سياسية.
من ملخص رسالة الماجستير الأكاديمية الصرف، نكتفى بترجمة الآتى: «فى هذه الرسالة حاولتُ إيجاد تعريف لأساليب البلاغة الشعرية بدءًا من أرسطو حتى الوقت الحاضر. هذه الدراسة المقارنة هى الأولى من نوعها، من أهدافها المواءمة بين طروحات أرسطو وويردزويرث. إذا فُهم ويردزويرث الفهم الصحيح فإنه يُكمل أرسطو ولا يتعارض معه. ومن الأهداف أيضا المواءمة بين لغة الشعر ولغة النثر. وقمتُ بعمل بحث موجز عن طبيعة الاستعارة وإيجاد نظرية للتفكير الرمزى للأدب».
من بين فصول هذه الدراسة المهجورة والمجهولة والمنسية، سونتات القرن الثامن العشر، ونظرية اللاتينية.
3 محاضرة عاصفة فى هارفارد: محفوظ ماكر ليس لديه ما يكتبه
كان الدكتور لويس عوض وقت عمله مستشارًا ثقافيًا لجريدة الأهرام، قد دُعى إلى أمريكا لإلقاء محاضرة فى مؤتمر الطلاب الجامعيين العرب. وهى الرحلة التى تحدّث عنها فى كتابه «رحلة الشرق والغرب» الذى صدر فى سلسلة اقرأ. وأشار إلى أنه ألقى عددًا من المحاضرات فى عدد من الجامعات الأمريكية حول «التطورات الثقافية فى مصر منذ 1952» و«دور المثقفين فى مصر الحديثة».
إحدى هذه المحاضرات، وقد ألقاها الدكتور لويس عوض فى جامعة كولومبيا بنيويورك، أثارت حفيظة عدد من الطلاب والأساتذة العرب والأمريكيين، حتى المعتدلين من الطلاب اليهود، وهى التى «تهجّم» فيها - على حد تعبير الدكتور محمد يوسف نجم أستاذ الأدب العربى بالجامعة الأمريكية ببيروت فى مجلة الآداب البيروتية - بشكل صريح على عبدالناصر.
لكن المحاضرة الأعنف فى ردود أفعالها بين أوساط المثقفين، كانت تلك التى ألقاها لويس عوض فى الواحد من نوفمبر من عام 1971 بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد. فى هذه المحاضرة أخذ الدكتور لويس يروح ويجىء على سيرة نجيب محفوظ بالتعريض والنقد الحاد، والاستهزاء والاستهانة بمكانته ككاتب روائى أحيانًا.
وهو ما خصّته مجلة الآداب البيروتية بالهجوم والردّ فى العدد رقم 11 لعام 1972، حيث وصف لويس عوض أديب نوبل فى محاضرته بأنه: «ليس كاتبًا ساذجًا، بل فنان ماكر»، «يعرف شغله وقد تزوّج من فنّه» وأنه اتّبع كل الطرق فى سبيل حماية فنّه.
كانت أن حصلت مجلة الآداب على شريط مسجّل لمحاضرة لويس عوض فى الولايات المتحدة الأمريكية، ونشرت نصّ المحاضرة فى عددها الشهرى فى نوفمبر 1972، بترجمة وتعليق من الدكتور محمد يوسف نجم، الذى اعتبر محاضرة لويس فى هارفارد «تزويرًا لطيفًا فى قالبٍ درامىّ».
ومن الواضح لنا أن مجلة الآداب تبنّت حملة للردّ والهجوم على لويس عوض على أثر هذه المحاضرة. فقد نشرت فى أعداد لاحقة ردودًا كثيرة على هذه المحاضرة. ومنها العدد التالى مباشرة لنشر المحاضرة، وهو بتاريخ ديمسبر 1972، ونُشرت فيه مقالة لم تقل حدّة للدكتور سامى خشبة يُعقّب فيها على ملاحظات الدكتور نجم، إلى حد اتهام ووصف دكتور لويس باكتساب الجرأة من الجمهور الأجنبى الذى قابل أوصافه الهازئة بنجيب بقهقهة ولمز، وأن الدكتور عوض بدا وكأنه يتحدّث على راحته كأن أحدًا لن يعرف أو يسمع فى القاهرة بما قاله هناك. ونشرت المجلة كذلك فى أعدادها اللاحقة ردودًا مطوّلة لمحمد محمود عبدالرازق وغيره، مُعلّقين على المحاضرة ذاتها.
إدانة لاذعة لتحوّلات المثقفين بعد يوليو 52
فى المحاضرة المعنيّة بهجوم مجلة الآداب، والتى لا يأتى الدكتور لويس على ذكرها فى كتابه «رحلة الشرق والغرب»؛ فتح لويس عوض النار على الجميع. استعرض ما أسماه «حالة الآداب المصرية قبل الثورة مباشرة». وما أسماه اللحظات الحرجة لتاريخ الفكر العلمانى فى مصر. ووصفها بـ«كانت أيامًا خطيرة»، يقصد السنوات الأخيرة من الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات.
وأطلق على سنة 1936 «التاريخ غير الرسمى للقضاء على الديمقراطية الأدبية المصرية». وهى السنة التى شهدت - بحسب ما يستطرد - تطوّر «الجمعيات الفاشية» فى القاهرة مع ظهور الإخوان المسلمين، بينما كان ممثلو «الديمقراطية الأدبية» يُجاهدون من أجل كبح جماح هذه الحركات المتطرّفة.
عاود لويس عوض فى محاضرته العاصفة تقريعه لأوضاع الحركات اليسارية والشيوعية، وإدانته لتحوّلات المثقفين الجذرية غير المبرّرة فى وجهة نظره بعد ثورة يوليو 1952. وكان عوض قد خصص كل أفكاره الاستنكارية النقدية للتجربة الشيوعية والماركسية المصرية فى روايته الوحيدة «العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح»، نشرتها دار الطليعة البيروتية فى عام 1966، بينما كتبها لويس بين القاهرة وباريس من أكتوبر 1946 إلى سبتمبر 1947. وراقب عبرها نتائج استدراج النوادى الثقافية للشباب، بحيث «تجرى السياسة وراء واجهة الثقافة».
فى المحاضرة، راجع الدكتور لويس عوض هذه الأفكار مرّة أخرى، ووضع (طه حسين) على رأس ممثلى الديمقراطية الأدبية تلك، ولكنه عاد واعتبر أن طه حسين بعد «مستقبل الثقافة فى مصر» قد «بلغ مرحلة الجمود الحقيقى». وجمع معه العقاد الذى اعتبره فى نفس الفترة وبالتزامن؛ «أنهى مهمّته كقائد من قادة الفكر». فى إشارة إلى اتجاه العقاد إلى إنتاج سلسلة فى السير الدينية، التى يقول عنها دكتور لويس إنها تحوّلت إلى «بدعة محبوبة فى مصر».
وقال أيضا فى المحاضرة: «أظن أن هذا هو الدور المهم الذى اضطلع به طه حسين، لا كمفكر، ولكنه إلى جانب عباس العقاد، حاولا أن يُدخِلا إلى المورثات الإسلامية شيئًا من المعقولية ونوعًا من المنحى العلمى». وهو نفس المنوال الذى سار عليه محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، وجميع أعلام الأدب المصرى الذين كانوا «يحاولون مقاومة ما كان يحدث دون تعقّل فى السياسة المصرية».
بعد معاهدة 1936، استطاعت الديمقراطية العمل بشكل علنى بحسب رؤية الدكتور عوض. ظهرت أفكارٌ خاصة بإصلاح الأدب المصرى والعربى. وعندما جاءت الثورة، «كان الاتجاه السائد فى الأدب المصرى هو الاتجاه الواقعى الاشتراكى» يقول عوض.
مرة أخرى نجيب محفوظ. قال أن نجيب محفوظ بدأ «صغيرًا» وعلى استحياء فى ارتياد مدرسة الواقعية. ومما رآه الدكتور لويس عوض كذلك أن محفوظ لم يستطع أن يجد جمهورًا عريضًا بسبب أنه «يقف بين القديم والجديد»، ومما قاله فى المحاضرة فى هذا الشأن: «كنّا نحاول أن نقنع الناس جميعا بأن لدينا كاتبًا جيدًا اسمه نجيب محفوظ، ولكن لم يكن أحد يُصدّقنا».
قبل الثورة، خبا اسم نجيب محفوظ فى وجهة نظر لويس عوض خلف «الأدب البرّاق» الذى تزعّمه روائيون برجوازيون برّاقون أمثال: إحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب ويوسف السباعى ومحمد عبدالحليم عبد الله، وخلف الأدباء اليساريون الشباب أمثال: نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة، قال: «كان لديهم جمهور كبير من القراء، ولكن قراء نجيب محفوظ كانوا قلة. كان كالعادة غير ملتزم بأى شىء ويعيش فى عزلة. موظفًا كتابيًا صغيرًا فى دائرة حكومية بوزارة الأوقاف. لا يؤمن بشىء ولا يواجه إنسانًا، ولا يدّعى مبادئ ولا يلتزم بأى فكرة».
بعد الثورة، بلغ محفوظ قمة الازدهار، ومما قاله لويس فى محاضرته: «نجيب محفوظ قضية صعبة، قوبل بالترحاب من الجميع.. الماركسيون ورجال الثورة، بطريقة ما شوّه وجه ثورة 1919 فى ثلاثيته، فى «بين القصرين» حيث صورة الثورة فى شخص السيد أحمد عبدالجواد.. أخذوا منذ سنة 1954 ينفخون فى نجيب محفوظ.. لقد بلغ المنزلة التى أصبح فيها الكاتب الرسمى».. إلخ.
فى هذا الجزء من المحاضرة أدان لويس عوض تيار الروايات الميتافيزيقية الرومانطيقية فى كتابة نجيب محفوظ، ورآه تحوّلاً غير مبرّر، بينما رآه دكتور نجم مُعاصرَة جديرًا بالمدح، خاصة أن دكتور لويس كتب ممتدحًا رواية «بين القصرين» التى عارضها لاحقًا فى مُحاضرته، فى مقالة بالأهرام سنة 1962، ووضعها فى مصاف روايات الصدق الفنى.
محفوظ بين هيكل ولويس فى الأهرام
بعد هزيمة 1967، نجيب محفوظ «لم يكتب شيئًا ذا بال» وفق رؤية لويس عوض. وهنا ينقل شهادة خاصة عن فترة عمله مع هيكل فى الأهرام. يقول: «لقد حاول محفوظ نشر عدد من القصص القصيرة فى الأهرام، ولسوء الحظ لم نتمكن من نشرها».
يشرح بأن هيكل قلَق من نشر هذه القصص، بينما كانت رغبة لويس هى فى نشرها. ويعود يُكمل: «هيكل ككل رئيس تحرير لم يرد أن يظهر بمظهر من يُصادر الأدب وقال إنها فن ردىء، وطبعا كانت فنًا رديئًا».
يأتى ردّ الدكتور محمد يوسف نجم هنا، بأن هذه «حملة حاقدة على محفوظ»، لأن صاحب الثلاثية نشر خمس قصص فى الأهرام سنة 1968، وأربعًا فى عام 1970، وحتى عام 1972، نُشرت قصتان أو ثلاثة.
يستنكر دكتور نجم على لويس عوض تجنّيه على مكانة محفوظ الأدبية. وكتب أن محفوظ فى فترة صعود السباعى وإدريس كان استوى على عرش الشُهرة مصريا وعربيا. ولم يكن فى حاجة إلى تزكية الدكتور لويس عوض، الذى لم يكن معروفًا باهتمامه بالأدب العربى فى ذلك الوقت. وأنه لم يكتب باعترافه شيئًا عن محفوظ قبل صدور «اللص والكتاب»، وهو يورد ذلك فى كتابه «دراسات فى النقد والأدب».
بالعودة إلى أوضاع الثقافة فى مصر عقب ثورة يوليو، يرى دكتور لويس عوض أنه حدث فى مصر شىء شبيه بما حدث فى روسيا سنة 1917. عندما أصرّ لينين وتروتسكى فى بداية الثورة الروسية على تنحية ممثلى كل ما هو جديد خوفًا على كل ما هو من التراث.
وبالمثل حدث سنة 1955 أن حشد كمال الدين حسين جميع المستميتين المتزمتين وحشرهم فى «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» بحسب محاضرة دكتور لويس عوض فى هارفارد. كان على رأس هؤلاء من وجهة نظر لويس هو نجيب محفوظ.
حافظ محفوظ على التقليدية فى كتابة الحوار الروائى باللغة العربية الفصحى، لغة سماها لويس لا تُصدّق بين خادمة وغسّالة. ويذهب لويس فى محاضرته إلى ما هو أبعد، أن قرار تدجين «سدنة الثقافة فى البلاد» كان من الأسباب الأولى لموت الرواية المصرية وأن «الشخص الوحيد الذى بقى فى الميدان منذ ذلك الوقت هو محفوظ الذى ورثته الثورة من العهد البائد».
استمرّ الدكتور لويس فى محاضرته راصدًا أدب نجيب محفوظ مبديًا آراء صادمة للمحافظين والملتفّين حول سمعة الأديب الكبير. وحظيت «المرايا» بنصيب الأسد من تقريظ لويس عوض.
رآها رواية سطحية ومحاولة رديئة جدًا فى رسم الشخصيات. «إنها ليست رواية وليست قصة قصيرة، إنها لا شىء» قال فى المحاضرة ذاتها. واعتبرها محاولة من محفوظ ليقول رأيه فى عدد من الشخصيات التى شغلت عالم الأدب والثقافة والسياسة فى السنوات العشرين الأخيرة. وختم كلامه عن محفوظ: «من المفيد له أن يتمكّن من لجم نفسه ريثما يتغلّب على قلقه، لأن القلق انتقل بسرعة إلى أدبه، وبدأ يتحوّل إلى أدب ذاتى».