حكايات فى حب لينين الرملى

لم يتبادر إلى ذهنى قَط أن يأتى اليوم الذى يمكن أن يتناول فيه قلمى أمرًا خاصّا، فالشأن العام هو ما يشغلنى، وصلاح الحال والأحوال فى بلدى هو مُرادى، ولذلك أستسمحك عزيزى القارئ فيما سأتناوله فى هذا المقال، فهو شأن خاص وجدت أنه يتحتم علىّ الخوض فيه، أولًا بصفتى شاهد عيان عليه، ثانيًا بصفة درجة قرابتى للكاتب الكبير الذى يحمل المقال اسمه.
بداية أؤكد أن حبى وعشقى للمسرح يعود فى المقام الأول لهذا الكاتب المبدع «لينين الرملى»، الذى عملت معه لمدة 18 سنة متواصلة، خلالها عرفتُ الكثيرَ عن المسرح وأدواته وإدارته، بل وتأسيسه أيضًا، مع لينين شهدتُ ولادة العديد من المسرحيات، تخاريف ولوحاتها الخمس؛ خصوصًا لوحة «سونيا» التى أصبح نصفها راجل والنصف الآخر سيدة، تلك اللوحة تحديدًا أراد الفنان محمد صبحى أن يلغيها من المسرحية لعدم اقتناعه بها، ودارت بينه وبين لينين العديد من المناقشات حولها، حتى وصل الأمْرُ إلى طلبه من صبحى إلغاء المسرحية بأكملها؛ لأنها تُضعف البناء الدرامى فى المسرحية، وقتها اقتنع صبحى بوجهة نظر لينين واستكمل العرض متضمنًا هذه اللوحة، التى كادت تتسبب فى إلغاء المسرحية، وكذلك شهدتُ ولادة مسرحية بـ(العربى الفصيح) التى أحدثت انقلابًا فى المسرح المصرى، والتى كان من المفترض أن يشارك فى بطولتها ممثلون محترفون، حتى استقر الرأى بين «لينين» و«صبحى»، على أن يقوم بتمثيلها ممثلون غير محترفين، يتم اختيارهم عن طريق مسابقة أشرفا عليها سويّا وشاركهما فى ذلك الناقد المسرحى الراحل «أحمد عبدالحميد»، وكان من نتاجها منى ذكى وفتحى عبدالوهاب وماجد الكدوانى وحسن عبدالفتاح وغيرهم من النجوم ممن يتصدرون الشاشة والمسرح حاليًا، بالمناسبة هذه المسرحية كان عدد مشاهديها فى أول ليلة عرض أربعة مشاهدين بالتمام والكمال، وانتهى موسم عرضها الأول وهى تنافس فى إيراداتها مسرحيات كبار النجوم، بما فيها مسرحية (وجهة نظر)، وهى من تأليف وإنتاج وتمثيل وإخراج لينين وصبحى، وهى أيضًا المسرحية التى تم رفضها رقابيّا فى جُل البلاد العربية، رُغم إشادة مسئولى وفنانى المسرح فى هذه البلاد بالمسرحية، لهذا لم تُعرض سوى فى مصر التى إجازتها رقابيّا، رُغم تخوُّف لينين نفسه من رفضها، وقد صدَق إحساسُه عندما رفض مسئول كبير فى التليفزيون المصرى عرض المسرحية على شاشته حتى الآن، وهى نفسها التى تم تصويرها بأمر مباشر من وزير الثقافة الأسبق (الفنان فاروق حسنى) أثناء عرضها على خشبة المسرح القومى، حتى تبقى فى ذاكرة الأجيال، وتبين لهم الواقع العربى الذى عكسته المسرحية، والذى أعتقد أنه مايزال موجودًا، خلال الفترة نفسها قدّم العديد من المسرحيات لمسرح الدولة، فكانت مسرحية (عفريت لكل مواطن) أول بطولة مسرحية مطلقة للفنان نبيل الحلفاوى والفنانة عبلة كامل، إخراج محمد أبو داود، وأثناء عرض مسرحية (عفريت لكل مواطن) قدّم أيضًا المسرح القومى من تأليفه مسرحية (أهلًا يابكوات) إخراج عصام السيد، وهى المسرحية التى لاقت استحسان النقاد والجماهير (ولكنها لم تُعجب الفنان محمد صبحى من ناحية الإخراج)، ووضعت لافتة (كامل العدد) فوق شبّاك التذاكر الخاص بمسرح الدولة. وهى نفسها المسرحية التى بسببها وصلت خطابات لإدارة المسرح القومى تهدد بحرقه من قِبَل جماعات التيار السلفى؛ لعرضه هذه المسرحية، فصدرت الأوامر بعدم دخول السيارات إلى فناء المسرح إلا للعاملين فقط، وبسببها أيضًا فرضت حراسة شخصية على منزل لينين لمدة عام ونصف العام، بعد تلقيه العديد من خطابات التهديد بقتله من قِبَل هذه التيارات، مما جعل رئيس الوزراء فى ذلك الوقت يشد على يده ويقول له: (خد بالك من نفسك)، وجعلت الأديب الراحل يوسف إدريس يقول له: أنت متهور. فى هذا الوقت كان لينين المؤلف المسرحى الوحيد فى مصر الذى تُعرض له ثلاث مسرحيات فى وقت واحد (وجهة نظر والبكوات وأبوزيد)، فى سابقة لم تحدث فى تاريخ المسرح المصرى من قَبل، وهى الظاهرة التى لم تتكرر حتى الآن.. عقب الانفصال فنيّا بينه وبين صبحى، قدّم لينين مسرحية (الحادثة المجنونة) فى ثانى تعاون له مع عصام السيد على مسرح الفردوس، موسيقى عمر سليم فى أول عمل له فى المسرح، وأثناءَها قدّم من إنتاجه ومن حُر ماله مسرحية (الكابوس) فى مهرجان المسرح التجريبى من إخراج محسن حلمى، الذى أخرج له مسرحية (مجد وغلب)، وهى المسرحية التى أثارت البعض من الحاضرين فى مهرجان القاهرة للأفلام الروائية، ويأتى على رأسهم الفنان الراحل «شكرى سرحان» الذى اعتقد أن المسرحية تسخر منه ومن فن السينما التى يُعد أحد نجومها؛ حيث وقف مرددًا بأعلى صوته أنه جاء للحفل لكى يُكرَّم، لا للسُّخرية منه ومن طريقة تمثيله. توالت المسرحيات بعد ذلك (الشىء، زكى فى الوزارة، جنون البشر، اضحك لما تموت، سعدون المجنون، تحب تشوف مأساة وسك على بناتك مع الفنان الكبير فؤاد المهندس) الذى سبق أن رفض العمل مع لينين من قبل اعتراضًا منه على اسمه الذى لا يمكن أن يضعه على أفيش المسرحية، ولكن بعد شهرته وأصبح من كبار كتاب المسرح فى مصر، طلب منه مسرحية فكانت رائعته (سك على بناتك)، هذا بخلاف غيرها من المسرحيات، جميعها أصر لينين على أن يكون حاضرًا لبروفاتها، وعندما سُئل عن سبب تواجده الدائم فى بروفات أعماله قال: يوجد نوعان من الكُتّاب المسرحيين، كاتب يكتب المسرح كأنه يكتب قصـة أو روايـة، وينـعـزل تمامًا عن فريق العمل المسرحى، وينـتـهى عمله بتسليم مسرحيته للمخرج، وكاتب آخر هو رجل مسرح، أى يكتب المسرح من الكواليس وفى ذهنه التمثيل والممثلون والإخراج والديكور، والمسرح منذ أيام اليونان وُلِدَ هكذا، والمؤلفون العاملون الكبار مثل بريخت وموليير وشكسبير كانوا صُناع مسرح، وأنا مثلهم، ولهذا لم يكن يسمح قَط لأى ممثل أن يخرج عن النص إلا بعد العودة إليه والاتفاق معه، ولهذا لم يكن مرحبًا بالصورة التى قدمت بها مسرحية (أبوزيد) على المسرح، وكان يسعد جدّا عندما يطلق عليه البعض لقب (مسرحجى)، فهو الأقرب إلى قلبه.. فى السينما كان هناك إنتاج ولكنه قليل، ولكن أهم ما يميزه هو فيلم الإرهابى مع الفنان عادل إمام، الذى كان من المفترض أن يقوم ببطولته الفنان الراحل أحمد زكى، الذى تخلّف عن أكثر من ميعاد مع لينين لقراءة السيناريو فى صورته النهائية؛ ليقرر بينه وبين نفسه عدم السماح له بتمثيل الفيلم، وعندما عرف عادل إمام (الذى كان ينوى تقديم فيلم عن الإرهاب) من لينين أنه كتب سيناريو فيلم عن الإرهاب، طلب منه معرفة قصة الفيلم ولم يعلق عليها، ولكن عقب ذلك مباشرة وفى الليلة نفسها أرسل له زوج شقيقته الفنان الراحل مصطفى متولى، طالبًا منه السيناريو؛ لأن عادل قرر أن يلعب بطولته لإعجابه به، وبالفعل قدّم عادل الفيلم على الشاشة ولاقَى استحسان الجماهير. وأذكر أن العرض الخاص لهذا الفيلم، أقيم فى مجمع صالات سينما هيلتون رمسيس، وسط إجراءات أمن غير مسبوقة، نظرًا للشخصيات الكبيرة التى حضرت هذا العرض، ولخطورة وأهمية الموضوع الذى يناقشه، وقتها كان يجلس بجانبى أحد ضباط وزارة الداخلية؛ حيث شاهدتُ دموعه وهو يرى على الشاشة مشهد اغتيال أحد الضباط فى الفيلم، بالطبع لم يسلم لينين من عتاب الراحل أحمد زكى المتكرر على منح الفيلم لعادل على اعتبار أنه كان الأحق به. ومع عادل إمام أيضًا قدّم ثلاثية بخيت وعديلة التى كان من ضمنها فيلم (الجردل والكنكة)، الذى أثبت وللمرّة الأولى فى تاريخ السينما المصرية، أن من حق المؤلف وقف عرض عمله إذا تبين له أن هناك مشاهد أضيفت لما كتبه حتى ولو كان بطل العمل (عادل إمام) الذى فوجئ بأن جهاز الرقابة وقتها الذى كان يترأسه الناقد الراحل على أبو شادى، يرفض التصريح بعرض الفيلم؛ لأن مؤلفه تَقدم بشكوى ضد المخرج ومنتج العمل، وعندما سأل أبو شادى عن سبب عدم منح التصريح قال له: اذهب للمؤلف واتفق معه، هنا اضطر (عادل) إلى التفاوض مع لينين حتى يصل لصيغة تسمح بالموافقة على عرض الفيلم، بالطبع لم يُضِيع الكاتب الصحفى (عادل حمودة) هذا السبق الصحفى الذى يحدث للمرة الأولى مع نجم مصر الأول، فطلب مِنّى الذهاب إلى لينين لاستيضاح الأمر وسرعة نشره فى مجلة روزاليوسف، التى سبقت جُل الصحف والجرائد اليومية والأسبوعية، وكشفت سبب تقدُّم لينين بشكواه لمنع الفيلم رُغم صداقته لبطل الفيلم عقب قيام المخرج بإضافة مشاهد لم تكن مكتوبة فى السيناريو.. كذلك نالت الدراما التليفزيونية حظها من كتابات الرملى؛ حيث قدّم مسلسل (حكايات ميزو) أول بطولة مطلقة للفنان سمير غانم والفنانة فردوس عبدالحميد، وكذلك مسلسل (هند والدكتور نعمان)، أول عمل كوميدى للفنان الراحل الكبير كمال الشناوى، وقبلهما قدّم مسلسل (برج الحظ) حاسب من شرارة، التى أعادت الفنان محمد عوض إلى دائرة الضوء مرة أخرى، وأذكر هنا أن زوج شقيقتى الكبرى قد تُوفى، وقتها أصر الفنان محمد عوض على حضور مراسم العزاء مصاحبًا للينين، وعندما دخل العزاء قال عدد لا بأس به من جموع المعزين، أنه لا بُد أن تحدث مصيبة لإيمانهم بصدق الدور وواقعيته الذى كان يؤديه هذا النجم الراحل، كما قدم العديد من السهرات منها الجلياط وشقة للإيجار وهى السهرة التى أتوقف عندها لأذكر أمرًا خاصّا بشأنها، فبعد فترة من خطبة لينين لشقيقتى بدأت رحلة البحث عن شقة لإتمام الزواج، وعندما تواجدت فوجئ لينين بأنه مطلوب منه 1000 جنيه (خلو رِجْل) وبالطبع لم يكن يملك شيئًا من هذا المبلغ، هنا قرر أبى دفع الخلو من جيبه الخاص لصاحب العمارة، الذى أخذ المبلغ وهو يردد المهم أنكم تكونوا راضيين، نفس هذه الجملة تضمنتها السهرة لأن خلو الرّجْل وقتها كان غير قانونى. هذا بعض من كل فى حياة هذا المسرحجى التى كنتُ شاهدًا عليها وغيرها كثير، وإن كان أغلبها له علاقة بالمسرح الذى أعطاه ثمرة جهده وفكره، وصرف عليه من حُر ماله ومال أسرته، ولم ينتظر المقابل طالما هو كان يسعد ويحب ما يفعله ويقدمه، ودون أن ينتظر مساعدة من أحد أو من ممول هنا أو هناك.