الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

سعيد بن زيد صاحب أول مهمة تجسُّس فى الإسلام!

سعيد بن زيد صاحب أول مهمة تجسُّس فى الإسلام!
سعيد بن زيد صاحب أول مهمة تجسُّس فى الإسلام!


الشيخ محمود البرشومى يكتب:
بدأت قصة هذا الجندى المجهول قبل أن يولَد! بدأت بوالده زيد بن عمرو بن نفيل الذى ثار على الأصنام قبل ظهور الإسلام، وثار على قومه لأنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا يغنى من الحق شيئًا، وحار بين الأديان، وكان يريد أن يرجع إلى دين أبيه الأول إبراهيم عليه السلام، ولم يكن الرسول «ص» قد بعث بعد، ولم يكتف «زيد» بخروجه عن دين آبائه وأجداده، بل أعلنها صريحة فى منتديات قريش: «يا معشر قريش، ما منكم اليوم أحد على دين إبراهيم غيرى؟» .

ومادام «زيد» قد اعتزل آلهة قريش فقد حرَّم على نفسه ذبائحهم وخمرهم ومغامراتهم ومعاملاتهم الخبيثة، وقد شوهد كثيرًا وهو يرقب زوال الشمس، فإذا زالت استقبل القبلة مصليًا ركعة وسجدتين ثم يقول: «هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حَجرًا ولا أصلى له ولا أذبح له ولا آكل ما ذُبح له، ولا استقسم بالأزلام ولا أصلى إلّا إلى هذا البيت حتى أموت».
كان والد سعيد بن زيد إنسانًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فلم يرض عن عادات بعض العرب فى وأدهم للبنات، فكان يقول لرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها، أخرجه البخارى.
داخل دائرة الضوء:
هذا والد سعيد بن زيد، فمَن سعيد هذا الذى بشّره رسول الله بالجنة؟
أغلب المراجع لا تذكره إلّا فى سطور قليلة، وإن ذكرته فهى تكثر من الحديث عن والده الذى اهتدى إلى الحق بحسه الفطرى، مع أن «سعيد» كان من أوائل من أسلموا مع رسول الله قبل أن يجتمع «ص» بالمسلمين اجتماعات منظمة فى دار الأرقم فى ظاهر مكة، وكثير من الناس لا يعرفون قرابته من عمر بن الخطاب «رضى الله عنه»، بل الكثير من الناس لا يعرفون أنه زوج أخت عمر بن الخطاب وعمر ابن عم أبيه، بل أكثر من هذا أن سعيدًا وزوجه كانا سببًا فى إسلام عمر.
قَصّ عمر بن الخطاب قصة إسلامه على جمع من الصحابة فقال: «أكنت من أشد الناس على رسول الله «ص»، فبينما أنا  فى يوم شديد حَرُّهُ بالهاجرة فى بعض طرُق مكة، إذ لقينى رجُل من قريش فقال: «أين تذهب يا ابن الخطاب؟ أنت تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر فى بيتك»، قلت وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت «غيَّرَت دينها»، فرجعتُ مغضبًا وقد كان رسول الله «ص» يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة، فيكونان معه ويصيبان من طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختى رجلين، فجئت حتى قرعت الباب فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، وكان القوم جلوسًا يقرأون القرآن فى صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتى تبادروا واختفوا وتركوا أو نسوا الصحيفة، فقامت المرأة ففتحت لى فقلت: يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك صبئتِ.
وأضاف عمر: رفعت شيئًا فى يدى فضربتها به، فسال الدم، ورأت المرأة الدم فبكت ثم قالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلًا فافعل فقد أسلمت، فدخلت وأنا مغضب، فجلست على السرير، فنظرت فإذا بكتاب فى ناحية البيت، فقلت ما هذا الكتاب؟ أعطينيه، فقالت، لا أعطيك، لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون، فلم آلَ بها حتى أعطتنيه، فقرأت فيه قرآنا فتأثرت به، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارًا ثم قالوا: يا ابن الخطاب أبشر فإن رسوال الله «ص» دعا يوم الاثنين فقال: اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين إمّا عمرو بن هشام «أبو جهل» وإمّا عمر بن الخطاب، وأنّا لنرجوا أن تكون دعوة رسول الله «ص» لك».
فى هذا البيت- بيت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد- أسلم عمر بن الخطاب، وفى هذا البيت بشّر بدعوة الرسول «ص»، فى بيت سعيد بن زيد بن نفيل العدوى الذى نذر نفسه للدعوة الإسلامية وافتداها بكل مرتخص وغالٍ، ووضع ماله فى سبيلها يحمى به فقراءها فيطعمون معه، يطعمهم من جوع ويبسط عليهم حمايته وهم من المستضعفين من أمثال خباب بن الأرت، العبد الضعيف الذى حرر بالإسلام وقوّى بعقيدته الجديدة.
كان سعيد «رضى الله عنه» من الجنود المجهولين الذين وضعوا مالهم وما يملكون فى سبيل دعوة محمد «ص»، وفى سبيل عقيدتهم الجديدة، والولد سِرّ أبيه، فقد وضع والده من قبل ماله فى سبيل عقيدته، فحمى الفتيات الصغيرات من الوأد والقتل وهن أحياء، وكذا فعل سعيد بماله فقد أطعم فقراء المسلمين وأواهم حتى نفد ماله وأخلص لله إيمانه وإسلامه، فاستحق أن يكون من العشرة المبشرين بالجنة، وكافح وجاهد مع رسول الله فى غزواته كلها، وكان مكانه المفضل دائمًا فى الغزوات أمام رسوال الله يدرأ عنه الأذى ويفديه بنفسه، خوفًا عليه من مكروه يصيبه أو سهم طائش يناله.
ولقد وَثَقَ به الرسول «ص» ثقة لا حد لها، فأرسله مع طلحة بن عبيد الله قبيل غزوة بدر فى مهمة سرية للتجسس على قريش فى طريق الشام، لأن الرسول «ص» قبل غزوة بدر كان يخطط لها ولم يترك أمره للمصادفات، حتى لا يؤخذ على غرة فى غزوة فيها عز الأبد لو انتصر فيها، أو ذل الدين وذهاب ريحه لو كانت الأخيرة، ووقعت غزوة بدر وسعيد وطلحة «رضى الله عنهما» بعيدان عن المدينة فلما جاء نصر الله وانهزم المشركون ضرب الرسول لهما بسهمين لأنه اعتبرهما قد اشتركا فى المعركة، بما كان يبعثان به من أخبار قبيل المعركة تفيد المسلمين وتعجل لهم بنصر الله.
لقد خط سعيد خَطّا فى النصر على أعداء الله، والرجل الفذ لا يظهر فى الصورة كثيرًا، لكنه دائمًا من الرءوس البارزة غير المعروفة فى صنع النصر، لذا لم تسلط عليه الأضواء لا فى حياة الرسول ولا بعدها، وإنما أبرزه تقدير الرسول «ص» له ونصه صراحة على أنه من العشرة المبشرين بالجنة.
الفرار من المنصب
كنت تجد سعيدًا دائمًا خلف رسول الله «ص» فى السلم أثناء الصلاة، وأنت تجده دائمًا من غزوة أحد أمام رسول الله «ص» فى حروبه كلها، لا عمل له فى حياة الرسول إلّا الجندية، ولا عمل له بعد وفاة رسول الله «ص» إلّا الجندية، وما فكّر يومًا فى ولاية يتولاها أو رئاسة يرجوها أو يتمناها، وأكبر هدفه دائمًا أن يكون فى ميادين القتال، فإذا خلا إلى نفسه كان مستغرقًا فى عبادة الله وحده، ما فكّر يومًا أن يقتنى بستانًا أو حديقة، ولا فكّر يومًا أن يستريح إلى منصب كبير من مناصب الدولة الفتية، فلما وقع فى الاختبار خرج منه سريعًا بمثله التى أحبها وما فرط فيها لحظة واحدة من حياته المديدة.
لم يتوقف بعد انتقال رسول الله «ص» إلى الرفيق الأعلى عن الجهاد، فقد شهد اليرموك وحصار دمشق وكان نِعم الجندى، فلما انتصر المسلمون وفتحوا دمشق أمره أبو عبيدة بن الجراح أن يتولى أمرها وأن يكون واليًا عليها، ثم تركه متوجهًا إلى الأردن فنزلها معسكرًا فيها، وبعث عليهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان، فلما بلغ ذلك سعيد بن زيد «رضى الله عنه» تحركت طموحاته المتواضعة إلى الجندية من جديد؛ لأنه يريد أن يرزقه الله الشهادة. وهو مقيد بأمر القائد أن يبقى فى دمشق واليًا عليها، ففكر كثيرًا كى يتخلى عن مهمة الوالى لينخرط من جديد جنديّا كسائر المجاهدين فى سبيل الله، فكتب إلى أبى عبيدة كتابًا يطلب إعفاءه من الولاية، فلما بلغ الكتاب أبا عبيدة قال: «ليتركنها»، ثم دعا يزيد بن أبى سفيان فقال له: «أكفنى دمشق».
تهديد بالقتل
ظل سعيد ذلك الجندى الذى لا ينقطع عن الجهاد لحظة واحدة حتى بلغ بضعًا وسبعين عامًا فى عهد معاوية بن أبى سفيان، فأمر أن يتقاعد فى مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد ابنه كتب إلى والِيه بالمدنية- مروان بن الحكم- يطلب منه أن يبايع الناس لابنه يزيد، وأوعز إليه أن يبدأ بسعيد بن زيد- رضى الله عنه- ليأخذ منه البيعة أولًا حتى يقتدى به الناس، وأحجم مروان قليلًا، وقال له رجل من أهل الشام ما يحبسك قال مروان حتى يجىء سعيد بن زيد فبايع، فإنه سيد أهل المدينة، فإذا بايع بايع الناس.
لم يمد سعيد بن زيد يده إلى عطاء بن أمية، ولم يرضَ أن يأخذ أى مال منهم، لكنه اكتفى بقطعة أرض صغيرة يملكها فى المدينة تمنحه الكفاف، وحتى هذا الكفاف كان يتصدق منه ويعطى الأرامل والمساكين، ومع ذلك ادعت «أروى بنت أويس» أنه ظلمها وجار على أرضها، وشكته إلى مروان بن الحكم أمير المدينة، فاستدعاه ليهز من سيادته ونبالته.
قال سعيد: أترونى ظلمتها وقد سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من ظلم شِبرًا من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين» ثم اتجه إلى السماء وقال: «اللهم إن كانت كاذبة فلا تمتها حتى تعمى بصرها ويجعل قبرها فى بئرها».
وكانت المرأة ظالمة حقّا فأجاب الله دعاء سعيد، فلم تمت حتى ذهب بصرها وجعلت تمشى فى دارها فوقعت فى حفرة فكانت قبرها، قال الرواه: «فكان أهل المدينة يقولون فى دعائهم على أعدائهم «أعماك الله كما أعمى أروى».
الأثر الذى يبقى
كان عمر وهو سيد الفقراء يقدر قريبه هذا ويهش له، ويسعى لإرضائه بالحق، وكيف لا يرضيه ولا مطلب له إلا مطلبًا واحدًا، أن يكون جندًا دائمًا؟ لذلك سارع عمر بتلبية طلبه، فلم يعيّنه واليًا ولا أميرًا ولا أعطاه قيادة، ولا فكر يومًا أن يستبقيه فى المدينة، فلما قتل عبدالله بن أبى بكر زوج عاتكة بنت زيد أخت سعيد، سارع عمر بن الخطاب بعد انقضاء عدتها بالزواج منها حتى يعوضها عن فَقْدِ زوجها، وحتى يصل صهره بابن عمه سعيد بن زيد، وحتى يدخل على قلبه الفرحة وهو فى ميادين القتال، وحتى يتحمل عنه مسئوليتها ليتفرغ لهدفه وهو القتال فى سبيل الله.
وإلى ما بعد السبعين ظل على أسلوبه ملتزمًا به، وقبيل وفاته بقليل فى عام 51هـ، وفى عهد معاوية بن أبى سفيان، جاهد وكافح وصبر وصابر ورابط، يتذكر الرسول فيروى عنه أحاديث قليلة ويقتدى به اقتداءً مطلقًا، يؤثر الفقر على الغنى، وشظف العيش على النعيم المقيم، وخشونة الحياة على أطايبها، لأنه يريد أن يلحق بأصحابه الذين لحقوا بالرفيق الأعلى، فلما توفى وهو ابن بضع وسبعين سنة غسله عبدالله بن عمر وسعد بن أبى وقاص، وصلى عليه عبدالله بن عمر.
وبقى لنا من سعيد الذكر الحسن والمثل والقدوة، وذهب كل شىء ولم يبق إلا ما يروى للأجيال المؤمنة التى تبحث عن الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.