ابن عربى المسيحى!

روزاليوسف الأسبوعية
فى إثر زلزال خريف 1992، الذى دكّ البلاد المصرية، كان هناك فى قرية نويبع فى شبه جزيرة سيناء، بازار يُديره مُسلم وقبطى، ظلّت تماثيل السيدة العذراء، مُتراصة جنبا إلى جنب على الأرفف الزجاجية كأن شيئا لم يحدث. وكان تفسير صاحبى البازار أن «العذراء حمتنا».
تتذكّر آنا مارى شميِل (1922 - 2013) المستشرقة الألمانية المعروفة، هذه الحادثة فى ختام كتابها «عيسى ومريم فى التصوّف الإسلامي» الصادرة ترجمته حديثا عن دار نشر الكتب خان بتوقيع لميس فايد. هى اعتبرتها قصّة مؤثّرة عن مدى التسامح والتلاقى بين الديانتين، لكن لا يوجد ما يمنع النظر إلى تلك القصّة التى سمعتها شمِيل من صديقة، بوصفها أسطورة، واحدة من الأساطير التى حاولت المؤلّفة منذ أوّل مرّة صدر فيها الكتاب عام 1996، توضيح مدى توارثها وتأثيرها كرموز بين الديانتين، المسيحية والإسلام.
يتناول هذا الكتاب صورة المسيح ومريم فى مخيال الصوفية الإسلامية. عيسى، المُعلّم الأوّل، نموذج الإنسان الكامل ومثال للمُرشد الحقّ. تضع المؤلّفة يدها على الرموز الشعرية المسيحية فى قصائد شعراء المسلمين، الصوفيين بالأخصّ. تؤمن آنا شميل أن الإسلام نشأ على أرض مسيحيّة، وأن الكثير من الأساطير طُعّمت بمصادر من الكتاب المُقدّس، وغيرها من المصادر غير القانونية. ولا تنسى أن تُلمح إلى الصلة التاريخية بين الزُهّاد المسلمين والرهبان المسيحيين والنُسّاك. وكلها صور وعلاقات تعكس التسامح والالتقاء والتفاهم.
نعرف أن التلاقى بين المتصوّفة والمسيحيين حدث فى القرنين الأولين للإسلام. وحتى القرن التاسع كان الصوفية يولّون وجوههم إلى صوامع النسّاك المسيحيين بأسئلتهم عن الحياة الروحية والزهد. فى مثنوى الرومى تبرز صورة المسيح «الراهب السائح فى البريّة».
من أبرز ما يحويه الكتاب، جزء عرضت فيه شميل للأصوات الناقدة للمسيحية، وأحالت المؤلفة هذا النقد إلى موقف المسلمين فى القرن التاسع عشر من الاستعمار الأوروبى للشرق الإسلامى، والصدام الحاد الذى بلغت ذروته مع قيام إسرائيل. فى هذا الجزء انتقت شميل قصائد لبعض الشعراء الفلسطينيين، من بينهم فدوى طوقان، ممن توجّهوا بشكواهم إلى السيد المسيح صاحب الرحمة والعدل مما فعله أتباعه فى العالم أجمع. وترى شميل أن الحملات الصليبية لم تترك أثرا سلبيا على العلاقات المسيحية الإسلامية، مثل الذى تركه الاستعمار الأوروبى.
تتكلّم شميل عمّا أسمتهم «اللاهوتيين المسلمين»، وانتقاد المسيحيّة. تقصد فيما تقصد ابن حنبل على سبيل المثال. وفى عمل ابن الرومى النثرى «فيه ما فيه» فنّد الحجج التى تُفيد بأن عيسى ابن الله. ترى شميل أن تعدّد الطوائف المسيحية التى عاش معها العرب والفرس كجيران، حتى الطوائف المسيحية اليهودية، هى سبب تلك المُجادلات الشرسة، والتى وصلت حدّتها وقت الحملات الصليبية. ولم يفت شميل الإشارة إلى ضعف وقلّة الأعمال الأدبية الإسلامية التى ناقشت صدى الحملات الصليبية.
بعد الاستعمار، تأثّر، المفكّرون المسلمون، بحسب ما ترى شميل، برؤية تولستوى للحضارة الغربية الحديثة فى القرن العشرين. يرسم الشاعر محمد إقبال فى رؤياه عذابات يهوذا، صورة مُستعارة من دانتي: يهوذا يُعانى فى عاصفة ثلجية، توبّخه سيّدة أوروبية جذّابة. وبرزت صورة عيسى «المُحلّف به»، المُحلّف الذى دمّر تعاليمه المسيحيون، يرى مآسى العالم ولا يتدخّل ولا يُعين.
استعانت المترجمة، فى جهدها الثمين لترجمة هذا الكتاب، بمعاونات من الكنيسة الإنجليكانية، كنيسة القديس ميخائيل وجميع الملائكة، بالكوربة. معبد مدينة كيل، وقسم الدراسات القبطية بمعهد المصريات والقبطيات بمدينة منستر الألمانية. كما استعانت المترجمة بالنصوص القبطية التى ناقشت الصور والأمثولات الأدبية عن السيد المسيح ووجدت طريقها إلى شعر الصوفيّة.
عدا ذلك، تمتّعت أساطير المسيح، والصلب والرفع إلى السماء بالأخص، بالنصيب الأكبر من استلهامات شعراء الصوفيّة. تصل الخيالات والاستلهامات مداها، عند الطائفة الأحمدية فى الهند. بأن عيسى بعد اختفائه لم يُرفع إلى السماء، لكنه ارتحل إلى كشمير، حيث يقع قبره. وأصبح من وقتها مكانا للحجّ لدى أتباع الطائفة الأحمديّة.
أمّا عند ابن عربى، الذى تقول المؤلّفة إنه ظلّ لفكره التأثير ذاته على الرمزية التى استخدمها الشعراء فى أواخر القرن الثالث عشر، فعيسى مثال استلهام، للزهد، والخير، والطهر. فى «الفتوحات المكيّة» ذات الفصول الـ560، تتطابق صورة عيسى عند ابن عربى مع إنجيل يوحنّا: عيسى، الكلمة الذاتية، نفس الله والروح الطاهرة.