«غجر سوريا» يستوطنون شارع «كلوت بك»

هدي منصور
تبقى الحقيقة الوحيدة أنهم بشر، لكن من أين وإلى أين وكيف؟ لن تصل إلا إلى أنهم جاءوا مع الريح.. ببساطة هذه حياة الغجر، على اختلاف الأزمنة والأمكنة، وبالطبع لا يمكن استثناء هذه المجموعة منهم، والتى تنسب إلى سوريا، إذا استقر بهم المقام فى شارع كلوت بك بوسط القاهرة.
لا تتعجب إذا مررت من أمام «لوكاندة الإسبلندية الجديدة» بمنطقة رمسيس، ووجدت أكثر من 100 طفل، يرتدون ملابس ذات ألوان مبهرجة وقطع حلى غريبة، شقر يتمتعون بأعين خضراء، إلا أنهم يمارسون «التسول».
الغريب أن هؤلاء الأطفال توجد خلفهم أسر كاملة يطلقون على أنفسهم سوريين فى السر، وفى العلن يطلقون على أنفسهم أردنيين.
هذا ما لفت انتباهنا أثناء المرور بالشارع خاصة بعد نداءات هؤلاء الأطفال وأنهم بحاجة إلى مساعدات، وهو ما دفعنا إلى الوقوف والاقتراب من اللوكاندة التى تعتبر مكانا رئيسيا للإقامة لهم فى مصر.
لوكاندة سورية الجنسية
فى مصر بأمر الغجر
صاحب اللوكاندة أيهاب محمد قال إنها مفتوحة أمام السوريين منذ أربع سنوات أو أكثر لاستقبال العائلات السورية فقط، وهم من طلبوا منه الاحتفاظ بتلك الخاصية مقابل عائد مادى بسيط، وهو 50 جنيها فى الشهر للغرفة وكل غرفة يوجد بها أسرة مكونة من 10 أفراد سوريين.
وأضاف: هم يخافون على أنفسهم من أن يعلم أحد جنسيتهم خوفا على حياتهم، حيث يزعمون أن نظام بشار الأسد يسعى خلفهم داخل مصر رغم عدم تعرضهم لأى ضرر حتى الآن، لكن الأطفال فقط مصرح لهم أن يطلقوا على أنفسهم سوريين من أجل التسول فهم يعيشون منه أو على المعونات فقط، أو التبرعات التى تحضر إليهم من الخارج من الشخصيات النسائية غير المعلومة المصدر لأن معظم المتواجدين فى اللوكاندة نساء فقط وقليل من الرجال والشباب تتراوح أعمارهم بين سن الـ 15 عاما إلى 20 عاما فقط.
ونحن نطلق على هؤلاء فى مصر «البدو» ويطلق عليهم السوريون «الرحالة» أو «النَّور»، وقالوا لنا إنهم جاءوا من على الحدود السورية الأردنية، بعد تفاقم الأزمة السورية كلاجئين، حيث هربوا من لهيب المعارك تاركين خيامهم التى كانوا يعيشون فيها.
أحد العاملين فى اللوكاندة أكد أن سعر الغرفة فى العادى بعيدا عن السوريين 10 جنيهات فى الليلة، وأن السرير الواحد بـ 5 جنيهات فى الليلة، لكن كل الغرف مشغولة فى الوقت الحالى، وأن العائلات السورية تستأجر المكان بالكامل، بالإضافة إلى أنهم يرفضون النوم على أسرّة، فهم يخرجون كل محتويات الغرفة ويجلسون على الأرض، ونحن لا نتدخل فى ذلك فهم يعيشون كما يريدون، ونعلم أن لهم تنقلات متعددة داخل مصر فكان مقرهم الرئيسى قبل ذلك فى عزبة الهجانة تحت مسمى «غجر سوريا».
وأضافت «ليلى» العاملة الوحيدة فى اللوكاندة: إن هؤلاء سوريون وينكرون جنسيتهم أمام الغرباء فقط، واللوكاندة أصبحت لهم هم فقط يرفضون حضور أى أحد آخر إلى المكان لأنهم يحضرون ويعيشون شهورا ويرحلون ثم يعودون، وعندما نسألهم من أين جاءوا يقولون أنهم يسافرون إلى سوريا والأردن، وفى أغلب الأحوال لا نفهم لهجاتهم لأنهم يتحدثون بأكثر من لغة ويتردد على المكان أكثر من 150 سيدة ورجلا منهم.
لغتهم غريبة بعض الشىء وقد لا تفهمها، خاصة الكبار منهم، أما الأطفال فقد اكتسبوا اللهجة المصرية خلال الفترة التى جلسوا فيها بمصر واختلطوا بأطفال الشوارع ليصبحوا بعد ذلك أكثر قدرة منهم فى نطق الألفاظ الشعبية.
غرف المعيشة داخل اللوكاندة
الغرفة خالية من أى محتوى فلا يوجد بها سوى بطانية ومسند وبعض الملابس المعلقة على الحائط فقط، واللافت كثرة البطاطين التى تلقوها من المعونات من الجمعيات الخيرية وهم مازالوا يحتفظون بها، بالإضافة إلى أنه يوجد عدد من الغرف لا تصلح للعيش وغارقة بالمياه ويعيشون بها كما يربون فى غرفهم الطيور، وتلك المواصفات فى العيش لا تنطبق إلا على غجر سوريا كما أطلق عليهم البعض، وحرص هؤلاء القاطنون للوكاندة على أن يضعوا جميع بياناتهم الشخصية ووسائل الاتصال الخاصة بهم على حوائط المكان، فقد تستطيع التعرف على جزء من بياناتهم من خلال الحائط من الأسماء عليا وإياد وزياد وهلا.
سيدات سوريا بشكل بدوى
نفاجأ بعد المرور من الطابق الأول والثانى من اللوكاندة بظهور عشرات السيدات يرتدين زيا يبدو غريبا للغاية، فهو بدوى مختلف عن الزى البدوى المصرى، تتدلى شعورهن على أكتافهن بشكل يتناقض تماما مع الملابس المتسخة التى ترتديها تلك النساء.
وأكدت إحداهن أن سبب رفضهم الإفصاح عن بياناتهم الحقيقية هو الخوف من إلقاء القبض عليهم، فهم رحالة بين الدول العربية ويرفض الجميع تواجدهم لأن اسمهم يؤكد هويتهم «الغجر»، وأشارت إلى أنهم يرفضون ما يحدث فى سوريا ولا يحبون بشار الأسد لأنه قتل العشرات من الأبرياء والأطفال، لكن لا يعنيهم كثيرا الحديث فى السياسة أو التعامل من خلالها فهم تراث مختلف عن السوريين، كما كشفت عن أنهم يتجولون فى عدد من المحافظات المصرية مثل محافظة الشرقية فى المقدمة التى يتمركز جزء كبير منهم هناك لأنه مكان آمن، ثم تليها محافظتا البحيرة وكفر الشيخ.
∎ الأطفال «على باب الله»
تقول عليا الفتاة التى تبلغ من العمر 13 عاما: تواجدت فى مصر منذ شهرين فقط وحضرت مع جزء كبير من أسرتى وعددهم 15 فردا، حيث يوجد الجزء الآخر من العائلة هنا وعددهم 10 أفراد، ونحن نعمل منذ الصباح الباكر فى شوارع القاهرة لبيع المنتجات البسيطة التى لا يزيد ثمنها على جنيه أو نعمل «على باب الله»، ونحن لا نعلم أى شىء عن التعليم، ولا يتم تعليمنا فى مدارس بعينها ولا نهتم بذلك لأننا من الممكن بشكل مفاجئ أن نسافر إلى خارج القاهرة أو إلى سوريا حسب ظروفنا وجولاتنا سواء فى القاهر أو خارج القاهرة من أجل المال فقط وممنوعون من الحديث فى السياسة، ويوجد داخل اللوكاندة أكثر من مائة طفل متفاوتى الأعمار وجميعنا أسرة واحدة ونعرف بعضنا جيدا ونأكل مع بعض ومن أهم طقوسنا ارتداء الأزياء ذات الألوان المبهرجة ووضع الماكياج على وجوه الفتيات والعمل فى الشارع ونحصل فى اليوم الواحد على 30 جنيها لكل طفل.
أحد الرجال الموجودين منهم الذى رفض ذكر اسمه وكان يرفض التصوير أيضا قال إنه يعيش فى مصر منذ 3 سنوات مؤكدا أنهم يرفضون الزيارة داخل اللوكاندة فهى حياتهم وهم أحرار بها ويدفعون أجرا ماليا مقابل العيش هنا، ولكنهم رغم ذلك يحتاجون إلى المساعدات لأن معظم الأطفال يعملون فى الشحاتة وليس لهم مصدر رزق آخر، لكن قد تكون تلك المعونات مصحوبة بالعناء أو الترحيل الفورى خاصة أن المسئولين السوريين وأصحاب مكاتب الإغاثة يطلبون منهم بياناتهم وهم يخافون من رصد بياناتهم فى أوراق رسمية لأنه غير محبذ وجودهم، وأضاف: نرفض ذهاب أبنائنا إلى المدارس أو إلى أى مكان آخر بعيدا عنا، ونحن نتواجد فى أماكن متفرقة فى مصر ونسافر فى شكل أفواج خارج القاهرة كل ثلاثة شهور يحضر فوج منا ويخرج فوج آخر ولا نثق بأحد ونؤكد أننا غجر، ونحن لدينا أطفال كثيرون لأننا نحبذ الإنجاب بكثرة فأنا لدى من الأبناء 10 وجميعهم يعملون فى الشارع.
السكان وأصحاب المحلات المجاورة للوكاندة أكدوا أنهم تعودوا على رؤية هؤلاء الأطفال والنساء تحديدا بشكل يومى يخرجون من الصباح الباكر حاملين على ظهورهم أكياسا لا يعلمون ما بها ويتزينون بالملابس المزركشة ذات الألوان اللافتة والاكسسوار ولا يعودون إلا فى نهاية اليوم ولا نعلم من أين تبدأ رحلتهم، وما يجعلهم غامضين أكثر أنهم يتحدثون أكثر من 5 لغات، لكن لا نتدخل فى أمور لا تعنينا فهناك أمن يمر من الشارع، ومن المؤكد أنه يعلم بوجودهم.
∎ البحث عن هويتهم الغامضة
وفى إطار عملية البحث تواصلنا مع حمدى أبو حمر، منسق حملة «كلنا إنسان» والتى تعمل بمجال الإغاثة ومساعدة الأشقاء السوريين، والأسر المصرية الفقيرة أيضا، حيث أكد أنهم عرضوا بعض الشقق على تلك الأسر منذ عام، إلا أنهم رفضوا السكن فيها، وفضلوا الجلوس فى الشارع.
وأوضح أبو حمر أنهم اطلعوا على بعض جوازات السفر الخاصة بهم، حيث جاءوا عبر طائرات عادية، أو سفن بحرية، مستغلين قضية اللاجئين السوريين بمصر، ليحترفوا التسول، وأن هذه هى طبيعتهم التى يرحلون من أجلها فى جميع البلاد.
وحسب بعض الروايات التاريخية، تتعدد أصول هذه المجاميع التى تتواجد فى سوريا والعراق والأردن، فما بين أصول هندية وأخرى باكستانية، تقول إحدى الروايات إن أصولهم عربية، إلا أن الصفة والعادات تظل واحدة فيما يقومون به ويسعون من أجله هو جمع المال بأى طرق كانت. ∎