حتمية الإصلاح الديني
عبد الله كمال
عبدالله كمال 30 يناير 2010 2:00 م
أضحي الإصلاح الديني ضرورة حتمية.. وإذا كان بيننا من يفاضل بين أولويات الإصلاح وما بين المسار الاقتصادي والمسار السياسي والمسار الاجتماعي والمسار الثقافي.. هذا يجعل ذاك قبل غيره.. وآخر يوازي بينها.. فإن مسار الإصلاح الديني يبدو مع المتغيرات الجارية في المجتمع ضرورة أولي.. قد لاتسبق المسارات الأخري.. ولكن لابد أن يكون بموازاة أي مسار له أولوية أولي.
ماذا نعني بـ الإصلاح الديني؟.. بالطبع لانقصد الحالة الاجتماعية الدينية الثقافية التي جرت بين القرنين الـ15 والـ16 الميلاديين في أوروبا.. حين نشأت حركات إصلاح بروتستانتية وجهت انتقادات إلي الكنيسة الكاثوليكية التي كانت في ذلك الوقت تبيع للمؤمنين صكوك الغفران.. فضلا عن حالة الترف والبذخ التي كان يعيشها الباباوات في الفاتيكان.
نحن نقصد (الإصلاح الديني المصري).. الذي لايهدف إلي ميلاد أي مذهب ديني جديد.. وإنما العودة إلي أصول وجوهر الدين.. الإسلامي والمسيحي.. بدون أن يكون ذلك نوعا من السلفية المتطرفة.. وبما يؤدي إلي التناغم مع التطور العصري بدون إخلال بالثوابت العقيدية.. وبدون أن يكون معني (الإصلاح الديني) علمانية متطرفة أو مدنية متحذلقة.
ولست أستهدف بالطبع الاقتصار علي (تطوير الخطاب الديني).. تلك الدعوة التي جفت الحلوق.. بعد أن تشققت الألسن.. من فرط تكرارها دونما استجابة.. لقد تخطي الهدف الواجب الآن حدود تطوير الخطاب.. وأثبتت الوقائع الخطيرة.. والظواهر الاجتماعية المتنوعة المهددة لأمن البلد.. أن الأمر يمتد بأسبابه إلي ما قبل الخطاب الديني.. وإن الخطاب علي خطورته هو قشور ظاهرة من جذور.. وهو مضمون يعبر عن حالة بلغناها.. فالمشكلة بنيوية ومؤسسية.. وتشمل مناخاً معقداً.. ومترابطاً.. يؤدي إلي كوارث علي مدار الساعة.. وقد يشعل النار في البلد في لحظة دون أن ندري.. وبما يفوق أي استعداد أو احتراز وتحوط.
أعني إصلاحا دينيا يشمل منابر الدينين.. الإسلام والمسيحية.. ويتضمن النظر في الخطابين.. وفي حال المؤسستين.. ودورهما المجتمعي.. وتأثيرهما في قيم الثقافة المصرية.. ورسوخ المواطنة.. ويجعل من الدين مكوناً عقيدياً في شخصية المصريين.. .لايطغي علي بقية المكونات: مكون العصرية والتطور.. مكون المصرية.. مكون العلمية.. مكون الحرية والتسامح واحترام الآخر.. بالإجمال مجموعة من العناصر التي يؤمن من يحملها في داخل ذاته علي أن الدين هو علاقة بين الله وعبده.
نحن أمام حالة فاسدة.. والفساد ليس شرطا أن يتعلق بالذمم والضمائر.. الفساد قد يكون بيئة خطرة. وتنظيما غير موجود.. وأهدافا غير سليمة. حالة لاعلاقة لها بمضمون وأصول العقيدتين.. ولكنها مترابطة تماما بسلوك عدد هائل من رجال الدين.. بحيث بدا الأمر أن أعضاء من الفريق المسلم قد تخطي حقيقة أنه لاكهنوت في الإسلام.. وأصبحوا يقدمون أنفسهم علي أنهم كهنوت مفروضون علي الواقع.. وأن الفريق المسيحي قد تجاوز فيه الكهنوت دوره الديني إلي طغيان اجتماعي وهيمنة سياسية. لقد ذهب الرئيس مبارك بعيدا.. وبما لم يعرف من قبل في سياقه.. خلال خطابه في عيد الشرطة الأخير.. حين انتقد غياب الخطاب الديني المستنير في الأزهر والكنيسة.. وكان من قبل لايعلق علي خطاب الكنيسة.. وكان من قبل يكرر علي المؤسسة الدينية المسلمة أن عليها أن تطور الخطاب الديني.
الآن المجتمع علي شفير نار.. يهتز عند حافة الطائفية.. ولا نريده أن يسقط في هاويتها، وإذا كانت الكياسة الرئاسية فيما قبل هي أن يكتفي الرئيس بمواقفه السابقة.. فإن الضرورة الوطنية هي التي دفعته إلي تلك العبارة الصريحة والصادمة وغير المسبوقة.. فما جري في نجع حمادي لم يكن عاديا.. ولم يكن بسيطا.. وقد وصفه الرئيس في إدانته له خلال مناسبتين بطريقتين متقاربتين كل منهما يحمل معني عميقاً.. مرة بأن قال (أدمي قلوب المصريين.. مسلمين ومسيحيين).. ومرة بأن قال: (صدم ضمير المصريين).
القلوب الدامية والضمائر المصدومة لايمكن لها أن تبقي قانتة صامتة.. الأولي تتألم والثانية مذهولة.. خاصة إذا كان هذا قد أدي إلي مزيد من العقول المنتبهة.. التي استشعرت الخطر.. وأدركت حجم الكارثة المهولة التي قد تطيح بالأمن القومي واستقرار البلد.. بينما يتنابز شيخ من هنا وقسيس من هناك.. الوطن ليس ملكاً للشيخ والقسيس.. وليس مثار تنازع بين هذا وذاك.. والمواطنون لاينظر إليهم علي أنهم مجموعتان من المؤمنين بعقائد مختلفة.. ولايتم التعامل معهم علي أنهم أتباع أديان.
ومن ثم فإن الإصلاح الديني يجب أن يستهدف إيقاف تمدد المؤسسة الدينية.. أيا ما كانت العقيدة.. فقد تفلطحت.. كل بقدر في الحالتين.. هذا التفلطح أدي إلي تحميلهما بأعباء ليست لهما.. وقد يكون تجاوز الدور ميزة غير مستحقة.. منتزعة.. تحقق الإضافة لهذه المؤسسة أو تلك.. ولكنها تفرض علي المؤسستين أعباء لا طاقة.. لأي منهما بها.
في الحالة الإسلامية، أدي هذا التفلطح غير المخطط.. والذي يخالف طبيعة المؤسسة الدينية الإسلامية.. وإنما يعبر عن رغبة مشايخ أكثر من تعبيره عن رغبة مؤسسة.. أدي إلي إضعافها.. ونشوء منافسين عشوائيين لها.. فريق يكفرها.. وثانٍ يطعن في مصداقيتها.. وثالث ينقلب عليها.. ذلك أن الدور الذي يريدونه لها يتجاوز صلاحيتها عقيديا وسياسيا.. ومن ثم صار أمامنا أكثر من خطاب إسلامي.. تاه في سياقها جميعا خطاب الاستنارة وحديث الاعتدال.. فأصبح الأول (الاستنارة) كفراً.. وأصبح الاعتدال تهاوناً وتفريطاً.. ويعاني كلاهما من ضغوط تدفعهما إلي الانزواء أو لجوء أصحابهما إلي التطرف لكي ينالا الرضا العام!!
في الحالة المسيحية.. أدي ذلك التفلطح الناتج عن تأثير كاريزما قداسة البابا شنودة.. وعوامل متعددة أخري.. وهو هنا لا يتناقض مع طبيعة هيمنة الكهنوت الديني المسيحي علي المسيحي.. أدي إلي تحويل الكنيسة إلي مايشبه الحزب.. وبمضي الوقت ودونما إدراك من الكنيسة لخطورة الأمر.. فإنها صارت منبرا لطائفة بدلا من أن تكون بيت عقيدة لشطر من مواطني البلد.. وإذا كان هذا يحقق ميزة لرجال الكهنوت فإنه في نفس الوقت يفرض عليهم تحديا مهولا.. إذ أنهم في النهاية رجال دين.. لايمكن أن يصبحوا رجال سياسة.. حملوا أنفسهم بعبء رهيب.. هم عمليا غير قادرين عليه في الواقع وإن حقق لهم مميزات شكلية.
من صالح المؤسستين أن تعودا إلي دورهما.. ومنفعة المسلمين أن يعود للأزهر تماسكه.. وتأثيره المسيطر ولا أقول الكهنوتي علي الساحة.. ومصلحة المسيحيين تكمن في أن تضع الكنيسة نفسها في حدودها.. كمنبر عقيدي لاطائفي.. بيت دين لابيت مؤمنين بهذا الدين.. إذ أنه إذا ما استمرت تلك الحالة المتزايدة فإن علي كل الأقباط أن يصبحوا رجال دين وقساوسة في الكنيسة لكي يتحققوا.. ويكون لهم تأثير في هذا المجتمع.. أو تختفي النخبة المسيحية لصالح نخبة دينية هي التي تقود وتتحكم.. ولاتكون هناك فائدة للتعليم والثقافة ويكون علي الجميع أن يمضوا في طريق الرهبنة.
ومن مصلحة البلد أن تنشغل مؤسستا الكنيسة والأزهر بشئون الدين.. وأن تتفرغا لهذا.. وأن تعينا المجتمع علي أن يرسخ معاني المواطنة.. وقيمها.. وأن تنيرا الطريق أمام المؤمنين من أجل أن تضيء العقول ولاتعيش القلوب في ظلمة.
والإصلاح الديني بقدر مايحتاج إلي وعي مؤسسي.. فإنه يحتاج إلي وعي مجتمعي جماعي.. ولابد أن ينطلق من الدولة التي كان إن ساهمت باستنادها علي المؤسستين الدينيتين.. قصداً أو صدفة.. ترتيبا أو بالتوالي غير المخطط.. في أن تدفعهما إلي لعب دور ليس لهما.
ولأنها تجاهلت أحد أهم مكونات التنوير حين أهملت الإصلاح الثقافي وتركت العقول ترزح تحت نير الظلامية المتراكمة منذ سنوات.. وعبر عشرات من روافد الجهل المطبق المصنوع محليا بإخلاص أو المستورد من الخارج بإخلاص مثيل.. ذلك أن الإصلاحين لايفترقان.. وكلاهما ينتمي إلي مقوم واحد هو العقل الجمعي.. الذي تستند إليه مرجعيات الناس.. بعد أن قسمتهم الطائفية إلي معسكرين أقل ما يوصفان به هو أنهما يشبهان الأهلي والزمالك.. أو قبيلتين في حالة ثأر. إن الحزب الحاكم، من خلال أمانة السياسات، انتبه إلي ضرورة أن يعطي جهدا قائدا ومبادرا لـ(الإصلاح الثقافي).. وهناك مجموعة عمل في الأمانة سوف تبدأ عملها في هذا السياق قريبا.. وقد تقرر ذلك قبل أحداث نجع حمادي.. ولكن المفهوم الأشمل للإصلاح الثقافي يجب أن يتضمن الانشغال بعمق الإصلاح الديني.. أو أن يوازي بينهما.. وإن كان من المتفهم أن المفهوم الواسع لـ(الإصلاح الثقافي) تندرج تحته عشرات من البنود الثقافية والإعلامية والتعليمية والدينية.. وتلك بادرة يجب أن تحظي بالمساندة الواجبة والتحفيز المطلوب من أجل صالح البلد.
لقد روعتنا جريمة نجع حمادي.. وبينما يأخذ القانون مجراه.. فإنها كشفت- بعد الترويع- عن ضرورات واجب لايمكن تخطيها أو تجاوزها أو حتي تأجيلها.. علي كل المستويات.. وينبغي ألا نفقد الزخم الذي فجرته والطاقة التي أسفرت عنها.. والرأي العام في ضوء صدمته وانزعاجه واستشعاره الخطورة قادر علي استيعاب عديد من الأمور والتفاعل معها.. ومن المهم أن نتحرك فورا.. وألا تتغير أجندتنا أو تفقد حماسها إلي أن تقع جريمة مروعة أخري.. قد لايمكن السيطرة علي نتائجها.
عبـــــد الله كــمـــــال
يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة علي موقعه الشخصي
www.abkamal.net
أو علي موقع المجلة :
www.rosaonline.net/weekly
أو علي المدونة علي العنوان التالي:
http//:alsiasy.blogspot.com
Email: [email protected]