
أسامة سلامة
القفز من القطار
لم يقفز الشاب محمد عيد من القطار، منذ أيام، بعد إجبار الكمسرى له على مغادرته أو تسليمه للشرطة لعدم امتلاكه ثمن التذكرة، ولكنه قفز منذ سنوات عندما لم يجد عملا سوى «التنطيط» فى القطارات المختلفة ليبيع أشياءه البسيطة ويحصل منها على عائد لا يكفى لإعالة أسرته، قفز عندما لم يجد حياة كريمة تحميه من المهانة والذل وترفع عنه يد من لا يرحم ولا يرق قلبه، قفز قبل هذه الواقعة بكثير لأن عمله لا يدر له سوى جنيهات معدودة وإذا تحصل عليها بـ«طلوع الروح» وأجبر على دفعها ثمنا لتذكرة القطار فسوف يبيت هو وأهله دون عشاء، قفز محمد منذ ولد ولم يجد من يحنو عليه وأصبح الخوف ملازما له فى شبابه حتى إنه اعتقد أن قضبان السكة الحديد ستكون أحن عليه من مواجهة الشرطة، وأن الأرض أرحم به من تحرير محضر ومخالفة لن يستطيع أن يدفعها.
محمد ليس وحده، وهو نموذج لكثيرين مجبرين على القفز من القطارات المختلفة، من لا يجد قوت يومه، ومن لا يحصل على تعليم جيد يؤهله للعمل، ومن لا يستطيع أن يعالج مرضه أو يداوى أحد أفراد أسرته ويرى أحبابه يعصرهم الألم ويديه عاجزتين عن ثمن الدواء، ومن يقف أمام أبواب المستشفيات ينتظر سريرا فى الرعاية لأمه أو أبيه الذى يواجه شبح الموت، أو يبحث عن حضانة لرضيعه دون جدوى، ومن أنهى دراسته منذ سنوات وانضم لطابور العاطلين ويستيقظ كل صباح لا يدرى أين يذهب ويتخفى من عيون والديه التى تطالبه بتخفيف الحمل عنهما بعد أن صرفا عليه «دم قلبهما»، ومن لا يجد سكنا يأويه هو وأسرته ويقيهم حر الصيف وبرد ومطر الشتاء، ومن ألقى بنفسه فى قوارب الموت أملا فى الوصول إلى شواطئ أوروبا هربا من البطالة وجريا وراء الأحلام المستحيلة والأوهام القاتلة، ومن انحدر به الحال وسقط من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة ومن الأخيرة إلى المعدمة ولم يعد يستطيع أن يفى بمتطلبات أسرته، ومن لا يملك نفقات زواج ابنته، ومن فاتها قطار الزواج لأن الشباب لا يملكون الإمكانيات اللازمة لإقامة أسرة، ومن اضطره الفقر والحاجة والمرتب المتدنى إلى الرشوة أو الفهلوة لاستكمال متطلبات الحياة، ومن ظلم ولم يستطع الحصول على حقه بسبب أصحاب النفوذ أو بطء العدالة أو عدم وجود واسطة له، كل هؤلاء ليس أمامهم سوى القفز من القطارات، أما الكمسرى فهو ليس الوحيد الذى فتح باب القطار وطلب من محمد أن يدفع ثمن التذكرة أو يقفز إلى الموت، فأمثاله كثر فى كل المجالات ويرفعون شعار الدفع أو الموت، ومحمد ليس وحيدًا فى هذا المصير فكلنا مثله مجبرون على القفز من قطاراتنا المختلفة.