
هاني عبد الله
جُند الله
لأن «المُستحيل» ليس مصريًّا.. كانت «البطولة» هى الجنسيّة التى ارتضيناها،
وأَلِفْناها، واعتدناها
كانت «راحتنا» فى مضاعفة العزيمة.. وهزيمة الهزيمة.. وقطع أيادٍ أثيمة، لطالما اغتصبت حقوق الشعوب الأخرى.
كان القرار هو الانتصار، فاستجابت الأقدار.. فكان النصر (فى 6 أكتوبر 1973م)، وكُنَّا نحن.. جيلاً يرث «العزة والكرامة» من جيل.. وقرآنًا يؤازره إنجيل.. لتبقى ألوان «علم مصر» الثلاثة شاهدة على أنَّ أبناء هذه الأرض، لن يقبلوا – ما دام بصدورهم قلوب تنبض – أن تنحنى جباههم، أو يتركوا ثأرهم.. لذلك.. كان أن سبقت «عقولَهم»، أفعالُهم.. فعَبَرت «عقول» مصر إلى عمق «تل أبيب»، قبل أن يحطم جيشها العظيم أسطورةَ «الجيش الذى لا يُقهَر»، فى 6 ساعات.
على أرض «معركة العقول» يُمكن أن نسطّر آلاف الصفحات، حول بطولات رادارات مصرية (بشرية)، وضعت أرواحها فوق أُكفها؛ لتجوب الأرض بين صفوف الأعداء بحثًا عن المعلومة؛ انتظارًا ليوم معلوم تُرد فيه الحقوق لأصحابها.
1 - مصر هناك:
كان «موشيه ديان» (قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي)، مُغرمًا بلوحة اشتراها منذ زمن لـ «القدس القديمة».. كانت اللوحة أقرب إلى جزء أصيل من جسده.. كانت كابنته، التى يصطحبها أينما ذهب.. وعندما تولى مسئولية وزارة الدفاع، كان أن قرر وضعها فوق الحائط المواجه لمكتبه (!)
لكن.. كانت «القاهرة» هى الأخرى، على بُعد ياردات معدودة من عقل وبصر ديان.. ترصد.. وتُحلّل.. وتضع خُططها؛ لتضلل قادة جيش الاحتلال، وأجهزة «الدولة العبرية» الاستخبارية.
كان الرجل مطمئنًا حد الغرور - أو هكذا أوهم نفسه - إذ جلس منتصف ليل الخميس «4 أكتوبر 1973م» يسترجع المناقشات الساخنة التى دارت من حوله داخل حزب العمل.. فضلاً عن لقائه الخاص مع كل من: «تسافى زامير» مدير الموساد، وديفيد بن أليعازر، رئيس أركانه.. وكان كل شيء، لا يثير الريبة (!)
لكن ما زاد من اطمئنانه أن تقديرات الجميع «العسكرية والميدانية»، كانت تؤكد أن مصر وسوريا لن تشنا حربًا فى القريب.. حتى تقديرات «إيلى زائيرا» (أو إيلى زعيرا) مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، كانت ترى أنَّ التحركات على الجبهتين «الجنوبية والشمالية» أمر اعتيادي، لا يعنى نية الدولتين إعلان الحرب على إسرائيل (!).. خصوصًا أنَّ أيَّا من النقاط الـ14 التى رصدتها وثيقة «الإنذار المبكر»، وصاغتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية؛ للكشف عن نية المصريين لعبور القناة، لم يتم رصدها(!)
فالمصريون (وفقًا لوثيقة الإنذار المبكر) لم يُهجروا سكان السويس.. ولم تبدُ هناك أى تغيرات جوهرية على أزياء قوات «الكوماندوز» العسكرية.. كما لم يرتدوا خوذاتهم كالمعتاد قبل الاشتباك.. ولم يغيروا أحزمتهم المميزة عن باقى قوات الجيش.. ولم ترصد دوريات الاستطلاع أى زيادة فى حشود القوات عند المناطق التى تبدو أسهل للاقتحام على طول خط بارليف (!).. إلى جانب أن قوات الكوماندوز (الصاعقة) لم تتمركز، بشكل لافت - كما هو متصور - بالقرب من حقول بترول «أبو رديس»، أو عند أى نقطة «موازية» لشرم الشيخ، تمهيدًا للسيطرة على مدخل خليج العقبة (!)
.. ولم يدُر بذهن «ديان»، وقتئذ، أن الوثيقة التى أجهدت صياغتها قيادات أجهزة استخباراته، كان أن وضعت لها «القاهرة» عشرات التكتيكات المضادة.
2 - صقور سيناء:
منذ العام 1967م، لم يكن لأجهزة المعلومات المصرية أن تهدأ.. ووفقًا لعديد من التفاصيل التى تم الكشف عنها تباعًا، خلال السنوات الماضية، كان أن قامت المخابرات الحربية المصرية (خلال تلك الفترة) بالدفع بعدد من ضباطها المدربين تدريبًا عاليًّا، فى مهام خاصة «خلف خطوط العدو».. وهى مهام كان لها أن تُؤمن عديدًا من المعلومات حول تمركزات العدو، وطبيعة تسليحه، وأعداد قواته.. وكان يتم هذا الأمر - فى كثير من الأحيان - بالتعاون والتنسيق مع عناصر فدائية ووطنية من أهالى سيناء.. بالإضافة إلى المعلومات التى كانت ترسلها المجموعة «39 قتال».
ووفقًا لشهادة سابقة للواء «فؤاد نصار» (مدير المخابرات الحربية خلال فترة الحرب)؛ فإن الإدارة تلقت نحو 1986 بلاغًا من عناصر «الخدمة الخاصة» (العناصر التى تم الدفع بها داخل سيناء) خلال العام 11 شهرًا فقط، قبل العبور (أى خلال الفترة من نوفمبر 1972م، حتى انتهاء الحرب).. إذ كان لكل تلك الروافد (المعلوماتية) كافة، أثرها المهم فى رسم عملية تضليل العدو الإسرائيلى (خطة الخداع الاستراتيجي)؛ عبر ترسيخ صورة ذهنية عند العدو الإسرائيلى بأنَّ مصر لن تحارب، بأى حال من الأحوال (!)
وفى إطار «خطة الخداع» نفسها.. ركزت، كذلك، توجيهات «القيادة السياسيّة» المصرية على ضرورة تركيز أعضاء البعثات الدبلوماسية، فى أحاديثهم على حل قضية النزاع «الإسرائيلى - العربي» سلميًا.. وهو ما أضفى - بالتبعية - بُعدًا مُهمًا لعملية الخداع الاستراتيجى.. فضلا عن التكتيكات التى اتبعتها وزارة الإعلام، فى حينه بإذاعة ما يشغل الرأى العام عن موضوع الحسم العسكرى (!)
.. وعندما بدأت الحرب؛ كان هول المفاجأة عظيمًا على أولئك القابعين فى مخادعهم بـ«تل أبيب» (!)
3 - كل رجال جولدا مائير:
بدت على «جولدا مائير» التى كانت تسعى سعيًا حثيثًا لدعم عسكرى أمريكى، سمات الارتياح «بعض الشيء».. عندما سمعت صوت محدثها «البطيء» عبر سماعة الهاتف، وهو يناديها على طريقته القديمة «ج - و - ل - د - ا».. فقد شعرت أن شيئًا جديدًا من الممكن أن يفعله الجنرال «حاييم بارليف»، رئيس الأركان الأسبق، على الجبهة الجنوبية «سيناء»، بعد الإخفاقات المتكررة التى منيت بها القوات الإسرائيلية تحت قيادة الجنرال «شموئيل جونين» خلال الأيام الخمسة الأولى للحرب (!).. لكنه لم يكن سوى ارتياح مرحلى رسخته النظرة الأسطورية لقيادات جيش الدفاع.. الموصوفة، بـ «التاريخية» (!)
فاستخدام المصريين لعنصر المفاجأة كان مُهمًا؛ إذ مكنهم هذا الأمر من استعادة الضفة الشرقية لقناة السويس خلال الأيام الأولى من الحرب.. وعبر التنسيق مع الأشقاء فى «سوريا»، أصبح القتال مع إسرائيل على جبهتين، ما مكّن السوريين من استعادة هضبة الجولان وتهديد إسرائيل عبر غور الأردن.. وكان هذا الأمر – فى حد ذاته - أحد «الاحتمالات» الفاشلة التى كان يراهن على صعوبتها العدو الإسرائيلي(!)
فبحسب إحدى «الوثائق السرية الإسرائيلية»، التى كشفت عنها الصحافة الإسرائيلية قبل أعوام؛ فإن تقديرات «الاستخبارات العبرية» كانت تشير إلى «احتمالية» أن يسيل لعاب المصريين، إذا ما وجدوا تقدمًا عسكريًا ملحوظًا من جانبهم فى بداية المعركة.. ومن ثمّ يندفعون للهجوم، دون غطاء «مناسب» من المدفعية.. وحينها يمكن استخدام الطيران (الإسرائيلي/ الأمريكي)؛ للنيل منهم بسهولة، دون التعرض لخطر الصواريخ (سام 6) الرابضة على الضفة الشرقية للقناة (!).. إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث(!)؛ إذ كانت تدرك «القاهرة» – يقينًا – أنها يجب ألا تنجرف إلى هذا الفخ، وأن تتركز أولوياتها على الآتي:
(أ)- إعطاء الأولوية لاستعادة الضفة الشرقية لقناة السويس.
(ب)- عمل شبكة واسعة للدفاع مكونة من صواريخ «ماليوتكا» المضادة للدبابات و«سام 6» المضادة للطائرات.
(ج)- جعل الاقتراب من الجبهة صعبًا فى وجه القوات الإسرائيلية.
.. وهو الأمر الذى شلَّ، بالفعل قدرة قوات «تل أبيب» على النيل من «فرسان القاهرة» وصقورها.. ففى 8 أكتوبر 1973م أمر الجنرال «شموئيل جونين»، بشن هجمات واسعة النطاق ضد الدفاعات المصرية الجديدة على الضفة الشرقية للقناة.. لكن فور أن خرج الأمر من فم «جونين» كان أن تلقته «القاهرة» فى حينه.
ونتيجة الإحباط والحيرة بسبب فشله فى اختراق خطوط القوات المصرية، أمر «جونين» بوقف فورى لجميع الهجمات.. وصبَّ هذا القرار - كالعادة - فى مصلحة المصريين، لكسب الوقت لحلفائهم السوريين؛ إذ تم تعطيل الدبابات الإسرائيلية فى معركة دفاع ثابت (صد الهجوم من دون محاولة كسب أرض).
4 - انهيار بارليف.. وخطه!:
كان جونين، لا يزال يعانى من عدم قدرته على اختراق الخطوط المصرية.. وفشله فى إنقاذ المشاة المحاصَرين على خط بارليف، من دون الانتباه لطبيعة «العيون المصرية» التى ترقبه ليل نهار.. فواصل إضاعة الوقت فى اجتماعات عقيمة دون وضع خطة جديدة (!)
وفى 10 أكتوبر، وبعد هذه الإخفاقات المتكررة، كان أن استدعت «رئيسة الوزراء الإسرائيلية» (جولدا مائير) الجنرال حاييم بارليف من المنطقة الشمالية «الجولان»؛ ليحسم حدة الخلافات المتصاعدة بين كل من: «ديفيد بن أليعازر» (دادو) رئيس الأركان، وقتئذ و«جونين».. فقد كانت «جولدا مائير» على علم بالإحباط الذى أصاب «قائد المنطقة الجنوبية».. ما استدعى استبداله لمنع انخفاض الروح المعنوية.
وضع «بارليف» فى 11 أكتوبر، وقادته الميدانيون: «أرائيل شارون» و«أبراهام أدان»، خطة لاختراق خطوط القوات المصرية. تحت اسم «أبراى ليف».. وكان أن استغلت الخطة اكتشاف «طائرة الاستطلاع الأمريكية «SR-71» وجود (ثغرة) بين خطوط الجيش الثانى والثالث على الضفة الشرقية للقناة قرب الدفرسوار.. إذ كانت الوحدة المصرية التى تدافع عن ذلك الجزء، قد أُمرت بالاتجاه شمالاً.. لكن.. عندما حدث هذا، كان أن حدثت أكبر معركة دبابات منذ الحرب العالمية الثانية، إذ قُدرت القوات المصرية بين 400 و1000 دبابة.. و5000 جندى مشاة ميكانيكى، فى مواجهة 800 دبابة إسرائيلية محصنة مع دعم قوات المشاة.. وعندما اشتدت المعركة، تحولت إلى قتال فى الظلام، كان البطل الأول والأخير خلاله هو (الجندى المصري).
يقول موشيه ديان فى «مذكراته» عقب زيارته لموقع الاشتباكات.. يوم 17أكتوبر برفقة «شارون»: لم أستطع إخفاء مشاعرى عند مشاهدتى لها.. فقد كانت مئات العربات العسكرية «مهشمة ومحترقة» فى كل مكان.
ومع اقترابنا من كل دبابة كان الأمل يراودنى فى ألا أجد علامة الجيش الإسرائيلى عليها.. وانقبض قلبى فقد كان هناك كثير من الدبابات الإسرائيلية.
أما «أرائيل شارون» نفسه فيقول: أكثر ما أذهلنا فى هذه المعركة لم تكن المفاجأة، بقدر ما كانت روح المقاتل المصرى.. فقد اكتشفنا مقاتلًا غير الذى تصورناه.. ففى إحدى المرات كانت هناك 10 دبابات إسرائيلية، فى مواجهة ثلاثة جنود مصريين فقط.. فحمل كل منهم «آر - بى - جى» وصوبوا على ثلاث من الدبابات وأصابوها.. وكانوا يعلمون أنهم ملاقو حتفهم.. ولم تهتز لأى منهم شعرة (!)
نقطة نظام:
«جُند الله»، هُم الأعلون، ولو كره الإسرائيليون.. والإرهابيون.