الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
دراما الواقع.. الفرجة وحادثة ستراسبورج

دراما الواقع.. الفرجة وحادثة ستراسبورج


هذه الفتاة الفرنسية التى نظرت للكاميرا وهى تعبر أمام الحاجز الخشبى الذى وضعته الشرطة فى ميدان مقر البرلمان الأوروبى فى مدينة ستراسبورج، ثم ابتسمت بخفة لا تناسب الحادث الأليم، جعلتنى أفكر فى مسألة البث المباشر للأحداث على الهواء بمجرد حدوثها من زاوية نظرية فنية، فبعيدًا عن التحليل السياسى للأحداث الجارية فى فرنسا، ليبقى الموقف الدرامى المتكرر فى مشاهد سابقة من كل أنحاء الدنيا مثيرًا للتأمل، إذ إن البعد الدرامى (للدراماتيكية) والمسرحة انتقلت بفعل التكاثر اللانهائى للشاشات الفضائية القادرة على نقل الأحداث المفاجئة بشكل فورى مع المتابعة اللصيقة طويلة المدى للأفعال وردود الأفعال.
 تبدأ منصات الأخبار فى المتابعة المتصلة لحظة بلحظة، مما يجعل الأمر مشابهًا لما يحدث فى المسرح التجريبى الغربى، ألا وهو مسرح الحادثة ( happening) الذى يقوم فيه الممثل بالقيام بفعل استثنائى فى شارع أو ميدان عام أو مقهى ثم يتم رصد ردود الأفعال للجمهور وأيضًا الآراء.
تبدأ الأخبار ترصد نتائج المأساة قتيلًا واحدًا وجرحى وصل عددهم لاثنتى عشرة حالة، ثم يصبح القتيل اثنين وحالات حرجة.
يظل الفاعل الحقيقى غامضًا ويصبح السؤال الدرامى كما فى مسرح الحادثة من الجانى؟ تتصاعد الأحداث بسرعة وتظل الأسئلة تتلاحق ما دوافع المهاجم؟ ولماذا فعل ذلك؟
يبدأ المكان كعنصر رمزى فى الظهور، فالمدينة تحمل رمزًا للاتحاد الأوروبى لوجود البرلمان الأوروبى بها، كما تحمل ساحة الاعتداء رمزًا أعمق لكونها سوقًا لأعياد الميلاد فى محيط كاتدرائية ستراسبورج الشهيرة ليظهر الطابع الإرهابى للحادثة، تبدأ الشرطة الفرنسية فى التواجد فى كل أنحاء ستراسبورج وتعلن فرنسا استنفارًا عامًا لحراسة كل أسواق أعياد الميلاد، مساء الثلاثاء 11/12/2018 ظل الفاعل مجهولاً، ومع صباح اليوم التالى وحتى كتابة هذه السطور، تم تحديد هويته وهو فرنسى من مواليد ستراسبورج يبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا، وله ملف جنائى فى حوادث سرقة، تم سجنه فى ألمانيا العام الماضى فى قضية سرقة، ثم تم إطلاقه إلى ستراسبورج اسمه شريف شيكات واقترابه من عالم الإرهاب تم أثناء فترة سجنه.
الشخصية درامية للغاية وقد تم إطلاقها عبر ولع الفرنسيين بحرية إتاحة المعلومات، وحق الإعلام فى المتابعة وبث الصور لحظة بلحظة حول العالم، حتى صار نجمًا إرهابيًا عالميًا، بعد أن كان مجرد لص صغير.
أما الكاميرا فهى تمارس نوعًا من السرد الروائى المستمر للأحداث، وأصوات المحللين والصحفيين والمختصين فى شئون الإرهاب المعلقين على الصور الحية للحادثة، يبقون وكأنهم الكورس أو الجوقة التى تشرح الحدث وتعلق عليه وتطرح مزيدًا من الأسئلة الدرامية حوله.
أصبحت الحوادث المتعددة بمثابة الدراما الأكثر إثارة حول العالم، خاصة تلك الحوادث التى يصبح الحدث الدرامى فيها متتابعًا ومتسلسلاً، ويحمل طابعًا من الغموض، ويطرح أسئلة متجددة، ولحين إلقاء القبض على شريف شيكات نجم حادثة ستراسبورج المؤسفة سيظل المشاهدون حول العالم يتابعون تلك الدراما المسلسلة التى هى أكثر تشويقًا من أية دراما فعلية تصنعها هوليوود، مما يجعل اللصوص والإرهابيين حول العالم نجومًا منتظرة فى عالم دراما الحادثة المتصلة الأثر، لتصبح المشاهدة حول العالم تنتقل تدريجيًا من عالم الفن الافتراضى، وعالم الدراما الخيالى، لعالم الواقع المدهش الذى يعج بمئات من مركبات الشرطة، ورجال مسلحين، وبرلمانيين ممنوعين من مغادرة البرلمان الأوروبى لحين انتهاء الساعات الخطرة من إطلاق النار ومواطنين باقين بالمنازل ووحدات مراقبة ومروحيات تحلق على الحدود الفرنسية الألمانية.
إن السياسة والإعلام والإرهاب على تناقضهم مع عالم الدراما والفن، يدخلون إلى استخدام تقنياته الفنية ويستعيرون الأداء الدرامى فى إدارة الشئون الواقعية التى أصبحت تحمل صفاتًا درامية متعددة مثل رجل ضال يمارس الهجوم على الحدث الساكن التقليدى لسوق أعياد الميلاد لتحرك دراما الواقع بعد ذلك الهجوم إلى أحداث درامية استثنائية متلاحقة، يتابعها المشاهدون حول العالم.
فى عالم أضحت الفرجة والمشاهدة فيه احتياجًا إنسانيًا معاصرًا، وبدأ اللاعبون السياسيون والإعلاميون والإرهابيون فيه يدركون أهمية العرض الدرامى السخى، مما يكرس لتأمل نظرى نقدى لدراما الواقع هذه، فى عالم أصبح الأداء فيه بلا شك مسألة أساسية فى جميع مناحى الحياة اليومية.
وأصبح المشاهدون اللا نهائيون حول العالم يدفعون نحو وصف عالمنا المعاصر بعالم الفرجة والمشاهدة فى تداخل مذهل بين دراما الواقع ودراما الخيال، ربما يدفع بتحليل الواقع السياسى عبر مناهج التحليل الدرامى المعاصرة مثل علم الدلالة والنقد الثقافى، فهذا العالم الدرامى يقترب نحو الخيال بطريقة ربما تتيح لمناهج التفكير النقدية إمكانية المساهمة فى فهمه وتفسيره.. إنها حقًا دراما الواقع المذهلة التى تحتاج لفهم ثقافى بصورها وشخصياتها وطرق الأداء المتصلة بها فى عالم الفرجة المعاصر.>