الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
لمصر.. ولـ«عبدالناصر» أيضًا!

لمصر.. ولـ«عبدالناصر» أيضًا!


لـ«الحُلم الناصري» وتفاصيله، زهوته.. من حقك (وحقنا، أيضًا) أن تبتهج بانتصاراته.. ومن حقك - كذلك - أن تغضب من انكساراته.. لكن.. بين الانتصارات والانكسارات؛ ثمة نقاط مضيئة، تستحق ألا نُهيل عليها التراب.
فعلى المستوى الشخصى (ربما بحكم الابتعاد الجيلى عن الحقبتين: الناصرية، والساداتية)؛ أومن بأنّ لكل «تجربة» خصوصيتها.. لا يقتضى هذا الإيمان - بالضرورة -  الطواف سبعًا [من أجل التبرك]  بأستار الماضى(!).. إذ غالبًا.. ما تكون الصورة [من بعيد] أكثر وضوحًا.. ويكون تحليلها أكثر رسوخًا.

حلِم «ناصر»، وحلمنا من بعده(!)..  حلم «ناصر» بالحرية.. وبالعدالة الاجتماعية.. وقبل هذا وذاك؛ بالسيادة، والاستقلالية.. لكن.. أكثر ما كان يميز الحُلم؛ هو إيمان ناصر نفسه بـ«الشخصية المصرية».
فى بيان التنحى [الشهير] قال «ناصر»: لقد تعودنا معًا فى أوقات النصر وفى أوقات المحنة.. فى الساعات الحلوة.. وفى الساعات المرة أن نجلس معًا.. وأن نتحدث بقلوب مفتوحة.. وأن نتصارح بالحقائق مؤمنين أنه على هذا الطريق وحده نستطيع دائمًا أن نجد اتجاهنا السليم مهما كانت الظروف عصيبة.. ومهما كان الضوء خافتًا.. ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا «نكسة خطيرة» خلال الأيام الأخيرة.. لكنى واثق [أننا جميعًا] نستطيع - وفى مدة قصيرة - أن نجتاز موقفنا الصعب.
راهن «ناصر»، إذًا، على الشعب وقدراته فى تجاوز [النكسة].. وأحسبه كان صادقًا فيما قال.. كان رهانه على «المواطن المصري» باديًا باستمرار.. إذ تحولت الهزيمة - فيما بعد - إلى انتصار.

فى سنوات تالية؛ راج عديدٌ من الاتهامات لـ«ناصر».. كيلت له الاتهامات كيلاً.. وصف بـ«العنترية»، وعدم تقدير المواقف السياسية.. نُسبت له أقاويل وأفاعيل.. اتهموه بالتبديد والتدمير.. لكن - قطعًا - لحديث «الوثائق» رأيٌ آخر(!).. إذ فى تقديرنا الشخصي؛ ثمة [وثيقتان] مهمتان، يقتضى كل منهما التوقف مليًا؛ لكى نفهم كيف كان يفكر ناصر (قبل النكسة)، وكيف كان يفكر «خصومه» خلال الفترة نفسها.
الوثيقة الأولى، أمريكية [خالصة].. أفرجت عنها «وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية»  (D.I.A) حديثًا.
تعود «الوثيقة» لبدايات العام 1967م (عام النكسة)؛ إذ كُتبت - من حيث الابتداء - فى الأول من يناير من العام نفسه.. أى قبل أن تشتعل حرب التهديدات الإسرائيلية باجتياح سوريا، وقبل أن يتم غلق «مضيق العقبة» بنحو 5 أشهر.
عنوان «الوثيقة» مع دلالة توقيتها؛ مهم للغاية.. إذ كانت تقدير موقف من أجل معركة عسكرية مع القوات المصرية (Order of Battle Summary).. وبين سطور «الوثيقة» (26 صفحة)؛ كان ثمة رصد دقيق للقوات المصرية بطول البلاد وعرضها (الوادى، والدلتا، ومنطقة قناة السويس.. بالإضافة لمنطقة غزة).
وكان من بين ما رصدته الوثيقة (المصنفة بالسرية فى إطار أعمال التجسس الخاصة بالأمن الأمريكي)؛ أعداد القوات المصرية، وقيادات المناطق العسكرية، وسلاح الطيران المصرى، وفى نهايتها كان ثمة خريطة تفصيلية توضح توزيع القوات والمطارات المصرية، عرفت طريقها لـ«تل أبيب» فيما بعد (!).. إذ عبر تلك المعلومات، كانت الضربة الاستباقية لسلاح الجو الإسرائيلى.
لكن.. دلالة توقيت الوثيقة [مثير فى حد ذاته]؛ إذ يؤشر - بقليل من الجهد التحليلى - نحو أنه كان ثمة مخطط (أمريكي/ إسرائيلي) لتوريط «القاهرة» فى معركة عسكرية شديدة التعقيد؛ لفرض واقع [مغاير] للقوى العسكرية بمنطقة الشرق الأوسط.

يرى خصوم «ناصر» أن سمات «الاندفاع» فى شخصية الرئيس الراحل؛ كانت السبب وراء توريطه فى معركة العام 1967م.. لكن. فى ظل وجود وثيقة بتلك الكيفية؛ يُمكننا - قطعًا - أن نراجع عديدًا من [الانطباعات] التى راجت فى عصور تالية للعصر الناصرى.. إذ كانت النية مبيتة (سلفًا) لهزيمة عسكرية من هذا النوع (!)
.. فهل كان «ناصر» حقًا مندفعًا فى خصومته مع «الولايات المتحدة الأمريكية»؟!
يقودنا التساؤل الأخير إلى وثيقة تاريخية أخرى، تحوى أغلب تقديرات الموقف المصرى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نفسها.. وهى وثيقة [مُعلنة] على أى حال.. لكنها، فى فترات تالية (طغت خلالها الاتهامات على التحليلات) لم تأخذ حظها من الاهتمام الكافي؛ إذ فى أعقاب قرار إغلاق «مضيق العقبة» (أى قبل حرب يونيو 67)، كان ثمة مؤتمر [عالمي] للرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» لشرح الموقف المصرى أمام وسائل الإعلام الدولية.
وخلال المؤتمر (28 مايو من العام 1967م)؛ وضع ناصر ثوابت «السياسة المصرية»، حينئذ، من الولايات المتحدة أمام الجميع (بوضوح تام).. فعندما سأله «ويليام رد ميكارس» ممثل مجلة تايم الأمريكية، قائلاً: هل تتفضلون بتوضيح العلاقة بين الجمهورية العربية المتحدة وأمريكا؟
قال «ناصر»: إن العلاقات بيننا وبين أمريكا سيئة جدًا. ولا يوجد أى اتصالات بيننا وبين «الولايات المتحدة الأمريكية» فى الوقت الحالى.. فأمريكا متحيزة للجانب الإسرائيلى بنسبة 100 %.. وهذا طبعا يؤثر على العلاقات بيننا وبين واشنطن.. وسبق أن عرضنا [باستمرار] صداقتنا على الشعب الأمريكى. ولا يوجد بيننا وبين الشعب الأمريكى أى مشكلة.. المشكلة بيننا وبين إسرائيل.. أى لا يوجد مشكلة [مباشرة] بينا وبين أمريكا.. لكن لأسباب كثيرة نعرفها، وللأصوات اليهودية فى أمريكا.. وللأسباب التاريخية المعروفة؛ تحيزت أمريكا تحيزًا كاملاً  لإسرائيل، وتجاهلت حقوق العرب المشروعة تجاهلاً كاملاً أيضًا .. أمريكا كأكبر دولة، وأمريكا كأقوى دولة، وأمريكا كأغنى دولة؛ يجب أن تكون [عادلة] فى معاملتها للعالم؛ حتى ينظر إليها العالم بثقة، وحتى ينظر العالم إليها باحترام.
لم يكن «ناصر» - إذًا - رافضًا للتعاون مع الولايات المتحدة.. ولم يكن رافضًا للصداقة مع «واشنطن».. ولم يكن - فوق هذا وذاك - جاهلاً بأسباب الانحياز الأمريكى لإسرائيل.. لكنه كان يبحث عن حل «عادل» أبت أمريكا نفسها أن تتخذه فى حينه(!)
لذلك.. عندما سأله «البخارى حمانة» ممثل وكالة الأنباء الجزائرية، قائلاً: سيادة الرئيس: تلوح الولايات المتحدة الأمريكية الآن بتصريحات حول الأزمة الراهنة فى الشرق الأوسط، تكاد تكون فى مضمونها تهديدات سافرة بالتدخل المسلح لصالح إسرائيل وضد الأمة العربية، مما قد يؤدى إلى «فيتنام ثانية» فى الشرق الأوسط، فما هو موقف الجمهورية العربية المتحدة فى هذه الحالة.. وما هى يا سيادة الرئيس الاحتمالات التى ترونها والتى قد تترتب على هذا التدخل؟
قال الرئيس: لن نتنازل عن سيادتنا، ولن نفرط فيها.. وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تتدخل لصالح إسرائيل تدخلاً مسلحًا (وضد الأمة العربية)؛ فاحنا بنقول إن احنا بندافع عن سيادتنا، وبندافع عن بلدنا زى ما دافعنا سنة 1956م .. ده موقف الجمهورية العربية.. وأنا باعتبره موقف الأمة العربية، والعالم العربى كله.. واحتمالات هذا التدخل - طبعًا - احتمالات كبيرة جدًا لا أستطيع أن أتنبأ بها فى الوقت الحاضر.

تمسك «ناصر»، إذًا، بأبسط حقوقه فى الدفاع عن سيادة دولته، وسيادة المنطقة العربية.. وهو حق مشروع على أى حال.. لا يمكن أن يلومه عليه لائم.. لذلك.. عندما قال له «جواليكس موريس» ممثل صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأمريكية: لقد صرحتم بأنّ الولايات المتحدة متواطئة كليةً مع إسرائيل فى الأزمة الراهنة، وقلتم أيضًا إنّ العرب سيناضلون من أجل الحفاظ على حقوقهم، حتى ولو أدى الأمر إلى صدام علنى.. وهذا التصريح يعنى أنّ العرب يريدون الدخول فى حرب مع الولايات المتحدة.. فكيف تستطيعون تنفيذ ذلك بدون مساعدة عسكرية مباشرة من الاتحاد السوفيتي؟
قال «ناصر»: أبدًا.. لم نقل أننا نريد أن نحارب «الولايات المتحدة».. لا يوجد مشاكل [مباشرة] بيننا وبين الولايات المتحدة.. لكننا نحافظ على سيادتنا.. فإذا اعتدت علينا «الولايات المتحدة»، وعلى سيادتنا.. هل معنى هذا أن نسلم ونرفع أيدينا ونقول للولايات المتحدة احنا سلمنا.. أم معنى هذا أننا ندافع عن حقوقنا وعن سيادتنا.. إذا حدث اعتداء علينا، لا بد أن ندافع عن حريتنا وعن سيادتنا.. لم نقل أبدًا أننا نريد أن نحارب الولايات المتحدة الأمريكية، أو نحارب الشعب الأمريكى.. ولكننا نرى أنّ «الحكومة الأمريكية» انحازت كليةً لإسرائيل، وأخذت جانب إسرائيل وتركت حقوق العرب.
وأضاف «ناصر»: فى رأيى.. وكما قلت سابقًا.. من الواجب على الولايات المتحدة [كأكبر دولة فى العالم] أن تكون فى تصرفاتها كلها قائمة على العدل.. وأن تكون تصرفاتها غير منحازة؛ لأن أكبر دولة فى العالم [كل العالم] ينظر إليها، وينتظر منها.. وبكل أسف لم يحدث هذا، فقد أخذت الولايات المتحدة جانب إسرائيل وتنكرت للعرب.. فماذا فعل العرب للولايات المتحدة؟.. (طول عمر العرب كانوا عايزين صداقة الولايات المتحدة.. وطول عمر العرب بيمدوا أيديهم للولايات المتحدة.. وطول عمر العرب بيتعاونوا اقتصاديًا مع الولايات المتحدة).. ومع ذلك؛ يأخذون جانب إسرائيل، ويتنكرون لـ 100 مليون عربى.. يتنكرون لكل هذه النوايا الطيبة التى قدمتها «الأمة العربية» للولايات المتحدة والشعب الأمريكى. 

كانت قضية «ناصر» - يقينًا - عادلة بحسابات (التاريخ، والواقع).. لكن.. كان لحسابات [الغرف المغلقة] رأيٌ آخر (!).. فلناصر (بحسابات زمنه) إنجازات وإخفاقات.. إشراقات، وانتكاسات.. لكنه - مع كل هذا - رحل عن عالمنا مُكللاً  بتاريخ من العِزّة [يستحق أن يقف له الجميع إجلالاً].. فسلامًا.. على «صاحب الحلم» فى مئويته.