
هاني عبد الله
حرب استنزاف «أمريكية».. بالشـرق الأوسـط!
على خلاف «الحالة الانطباعية»[المُبكرة]، التى رسخها عددٌ من التحليلات السياسية «الأولى» (تأسيسًا على برنامج «دونالد ترامب» الانتخابى)؛ لم تتراجع «قضايا الشرق الأوسط» على مائدة السياسة الأمريكية (الخارجية)، فى مقابل التركيز على «البُعد الآسيوى» [بتلك السياسة، نفسها] .. بل يُمكننا القطع بأن القضايا [الشرق أوسطية] ازدادت حضورًا على جدول أعمال «المكتب البيضاوى»، إلى جوار التركيز على «البُعد الآسيوى» أيضًا.. وهو ما يُمكننا أن نتلمسه بوضوح فى مُجمل الأحداث [والخطابات]، التى شهدتها أروقة «الأمم المتحدة» خلال الأيام القليلة الماضية (خطابات «ترامب/ نتنياهو» نموذجًا)؛ إذ تصدرت «قضايا الشرق الأوسط» (النفوذ الإيرانى على وجه التحديد)، والقوة النووية لـ«كوريا الشمالية» محاور الخطابين [معًا] إلى حدٍّ بعيد.
فى تلك المناطق (من وجهة النظر الأمريكية)؛ تواجه «الولايات المتحدة» تصعيدًا شديدًا [من حالات التوتر].. إذ إنّ «إيران» وأذرعها الإقليمية (المدعومة من قِبَل القوات الجوية الروسية)، تُهيئ نفسها لملء الفراغ فى كلٍّ من: «العراق»، و«سوريا»، بعد هزيمة ما يُعرف باسم «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)؛ إذ يُشكل تنامى النفوذ الإيرانى، فى حد ذاته (من وجهة النظر نفسها) خطرًا حقيقيّا على «أمن إسرائيل» (المشمولة بالحماية الأمريكية)، فضلاً عن عددٍ من حلفاء واشنطن بالمنطقة العربية.. ومن ثمَّ.. تسعى «الولايات المتحدة»؛ لإعادة ضبط إيقاع «النظام الإقليمي» بالشرق الأوسط، بما يتوافق ومصالحها الاستراتيجية بالمنطقة ذاتها؛ خصوصًا أنّ المنطقة لاتزال تُسهم إسهامًا كبيرًا فى تأمين «مصادر الطاقة» (البترول والغاز الطبيعي) بالنسبة لـ«واشنطن».
وفيما نبهنا «بداية الأسبوع الماضي» (أي: قبل انعقاد فاعليات الجمعية العامة للأمم المتحدة) إلى رغبة «إدارة ترامب» فى التخلص من تداعيات [الاتفاق النووى الإيراني]، وما بدأ يروجه بعض الدوائر [القريبة من صُنع القرار الأمريكي] حول استراتيجية «جون بولتون» (John R. Bolton) سفير واشنطن «السابق» بالأمم المُتحدة، لتحقيق هذا الغرض، عبر تكتيكات ضغط يُمكن أن تؤدى - فى النهاية - إلى «إسقاط النظام الإيراني» نفسه.. كان أن شهدت الأروقة الأمريكية إسهامًا جديدًا فى هذا الصدد، كتبه كلٌ من: «جيمس جيفري» (السفير الأمريكى الأسبق بالعراق)، و«دينيس روس» لحساب «معهد واشنطن»، تحت عنوان: [الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية للشرق الأوسط]، يوم «الثلاثاء» الماضى (19 سبتمبر).. وقال الكاتبان:
لقد بدأ الوقت ينفد بالنسبة للولايات المتحدة، وإذا لم تضع واشنطن استراتيجية للشرق الأوسط؛ فإن الأحداث هى التى ستقود السياسة.. فالنزاعان فى بلاد الشام (أي: الحرب فى سوريا، والحملة ضد تنظيم الدولة) على وشك الانتهاء.. وقد أصبح من الواضح بالنسبة للنزاع الأول (أي: الحرب السورية) أن الرئيس «بشار الأسد» [بفضل روسيا وإيران]، سوف يبقى مسيطرًا على معظم أنحاء سوريا.. وفى النزاع الثانى (أي: الحملة على تنظيم الدولة)، سيختفى بشكل متزايد الحاجز المؤقت، الذى كان يفصل جهود إيران وسوريا من الجهود التى تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».. وسرعان ما ستقف الولايات المتحدة والحلفاء المحليون فى جميع أنحاء سوريا والعراق إلى جانب المتشددين التابعين لإيران (كما هم الآن فى جنوب سوريا، وفى منبج فى الشمال، وبالقرب من الموصل).. وأنه من دون «تنظيم الدولة الإسلامية» لتبرير هذا الوجود؛ يجب على «الولايات المتحدة» أن تنسحب، أو تستخدم موطئ قدمها لمقاومة [برنامج إيران] لتحويل سوريا والعراق إلى دول تابعة.
وأردف الكاتبان: والسؤال الذى يطرح نفسه: أين يمكن للولايات المتحدة وضع الحد الفاصل؟.. فمن شأن هيمنة إيران فى تلك المنطقة أن تُقسّم الشرق الأوسط، [وتُهدد إسرائيل وتركيا].. ومن خلال هيمنتها على المناطق العربية ستقوّض «طهران» مطالبة العالم العربى بالتحكّم فى مصيره.. وبدعم من روسيا (المنبعثة من جديد)؛ يُمكن لإيران أن تهدد بشكل خطير مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها.
وتابع «جيفرى» و«روس»: تدرك «واشنطن» كل ذلك.. ولهذا السبب تقوم «إدارة ترامب» بمراجعة سياساتها تجاه إيران، وتُصنّف المزيد من المسئولين الإيرانيين، [والشركات الإيرانية] كميسّرين للإرهاب، وتهدّد بالإعلان بأن «إيران» لا تفى بالتزاماتها بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة» (أي: الاتفاق النووى الإيراني).. إلا أنّ كل ما تفعله «واشنطن» لا يرقى إلى كونه [استراتيجية حقيقية].. فالاستراتيجيات (الحقيقية) تحدّد أهم أهداف بلد ما، وتضع السياسات التى تسمح له باتباعها، وتحشد الحلفاء والثروات القومية، بما فيها مجموعة كاملة من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لتحقيق الأهداف المعلنة.
وتحت عنوان فرعى يقول:[ما هى المبادئ التى ينبغى أن توجه هذه الاستراتيجية؟]؛ ذكر الكاتبان ما نصه:
أولاً: العمل بهدوء مع حلفاء الولايات المتحدة؛ لمساعدتهم على الشعور بأنهم جزء من الاستراتيجية المتعلقة بإيران - من خلال ضمان أن بإمكان الولايات المتحدة زيادة النفوذ على إيران، وإبقائها معزولة، والحفاظ على دعم الحلفاء فى التمسك بهذا الجهد. (وفيما يتعلق بالحلفاء، يجب التفكير حول المخاطر المحتملة، فضلاً عن التأثير المحتمل للإجراءات على قضايا أخرى مثل كوريا الشمالية - أو كيف يمكن للإجراءات التى تتناول معالجة [المشاكل مع] كوريا الشمالية أن تؤثر على الاستراتيجية تجاه إيران).
ثانيًا: إذا كانت إيران تشكل التهديد الرئيسى الذى تواجهه الولايات المتحدة فى المنطقة؛ فلا يمكن للإدارة الأمريكية أن تُخضِع استراتيجيتها [لرغبة] الإيرانيين فى محاربة «تنظيم الدولة».. فإيران دولة تشكل خطرًا أكبر بكثير؛ خصوصًا فى ضوء نجاحها فى استخدام الميليشيات الشيعية.. ولا شك أن السياسة التى تركز على «تنظيم الدولة»، لا بُد أن تضر على الأرجح بـ[المصالح الأمريكية]؛ لأن السياسات الإيرانية [الطائفية] تجازف بإبعاد السُّنَّة، وإعادة تهيئة الظروف التى ولّدت تنظيم الدولة الإسلامية فى البداية.
ثالثًا: الإدراك بأنه لا يمكن للرئيس الروسى (فلاديمير بوتين) أن يصلح معضلة أمريكا مع إيران فى سوريا.. فالتواصل والتنسيق مع الروس أمر منطقى.. لكن إذا لم تكن «الولايات المتحدة» مستعدة لرفع الثمن الذى يدفعه الروس؛ فسيواصلون معاملة الإيرانيين والميليشيات الشيعية كمنفذيهم الميدانيين.. لذا يجب التوضيح بأن أمريكا لن توقف الإيرانيين أو وكلاءهم فى سوريا، ولكنها ستستخدم قوتها الجوية المتفوقة؛ لمنعهم من التوسع بصورة أكثر.. وهى السياسة الوحيدة التى من شأنها أن تجبر بوتين على أن يحاول تقييد التحركات الإيرانية. وآخر ما يريده هو تصوّر دولى بأن القوة الأمريكية هى التى تقرر النتيجة فى سوريا.
رابعًا: يتعيّن ممارسة «النفوذ الأمريكي»؛ لإنهاء الموقف المعقّد الذى حرّض السعودية والإمارات والبحرين ومصر ضد قطر (!).. وفيما تحتاج قطر إلى تغيير سلوكها؛ فقد آن الأوان لإنهاء تشتت الفكر وحشد جميع الشركاء الأمريكيين، مع سكانهم المتفوقين، وجغرافيتهم، وقدراتهم العسكرية، وثرواتهم، والذين يصلون مجتمعين إلى مستوى تتضاءل فيه إمكانية مواجهتهم من قبل الشراكة بين إيران وروسيا.
خامسًا: يجب شرح السياسة الأمريكية بشكل متكرر للأصدقاء والأعداء علـى حد سواء؛ ولا ينبغى لأحد أن يشك فى النوايا الأمريكية (!)
سادسًا: يتعيّن الاعتراف بالمعايير الدولية وليس الاستهانة بها.. وقد تكون «خطة العمل الشاملة المشتركة» هدفًا رابحًا، ولكن يجب التعامل معها بطريقة تُظهر أن واشنطن تأخذ فى الاعتبار مخاوف حلفائها حتى فى الوقت الذى تريد منهم أن يعالجوا المخاطر التى يراها المسئولون الأمريكيون فى الاتفاق.
سابعًا: يجب عدم الانسحاب من مناطق أو التخلّى عن مواجهات ما لم تكن المخاطر هائلة.. فلاتزال مصداقية الولايات المتحدة، التى تشكل إطار جميع النظم الأمنية، [ضعيفة].. رُغم الردود العسكرية الأخيرة التى أذن بها الرئيس ترامب.
وتحليلاً لمجمل ما ذهبت إليه استراتيجية (جيفري/ روس) المقترحة؛ يُمكننا ملاحظة الآتي:
1 - ثمة تقاطعات متنوعة بينها، وبين استراتيجية «جون بولتون»؛ خصوصًا فيما يتعلق بعملية «تجييش الحلفاء» بمنطقة الشرق الأوسط، فى مواجهة «نظام طهران».
2 - إذا لم يكن بمقدور «الولايات المتحدة» الإلغاء الفورى للاتفاق النووى الإيراني؛ فعلى الأقل يمكنها (عبر وسائل الضغط، والعزل السياسي)؛ تعديله بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة.. وبما يضمن أمن «تل أبيب»، و«أنقرة» كذلك.
3 - ثمة توجه أمريكى بأنه يتعين على واشنطن رفع الثمن الذى يتحتم على «الروس» دفعه (فى القضية السورية)؛ حتى لا يستمر تعامل «موسكو» مع إيران وأذرعها بالمنطقة، كوكلاء لها على أرض الشرق الأوسط.
4 - تبدو التوصية [المُقحمة] بأنه يتعيّن ممارسة «النفوذ الأمريكي»؛ لإنهاء الموقف المعقّد بالخليج (حل الأزمة العربية/ القطرية)، أكثرَ ارتباطًا بما طُرح حول مشروع السلام «العربي/ الإسرائيلي» من كونها متعلقة بمواجهة «النفوذ الإيراني» فى المقام الأول.. رغم التشديد الأمريكى على ضرورة تغيير السلوك القطرى (المرتبط بنظام «طهران» فى الوقت الحالي).. أى أن «إدارة ترامب» تبدو وكأنها تخوض معاركها بالشرق الأوسط فى نحو 5 اتجاهات «دفعة واحدة» (النفوذ الإيراني/ التوغل الروسي/ الأزمة القطرية/ قضية السلام «العربية- الإسرائيلية»).
.. أمَّا إلى أى مدى يمكن أن تربح «إدارة ترامب» تلك المعارك؟!.. لننتظر ونرى (!)